أحمد عمرصفحات الناس

أمرؤ القيس الفرانكفورتي/ أحمد عمر

 

 

أخذتني نسمة مباركة بعد ذلك النصر، وتلك المصالحة التي وصفتها بالوطنية، والتي وُفِّقت إليها بين المغربي خرميش والغاني يوسف، فلله الحمد والمنّة. قررت إدارة المدرسة إقامة حفلة، ولم تكن الحفلة بمناسبة انتهاء الحرب بين الطالبين المذكورين، وإنما وافقتها بالزمان، وكانت احتفالا ببلوع درجة محو الأمية الألمانية. حاولت أن أعتذر عن الحفلة، ذلك أنني أجد نفسي في كل فرح حزينا وعبيطا، وغريبا كعاد في ثمود، وأكاد أسقط مثل جيك سولي صريعاً، فحذرتني أم الحويرث أن الحضور إجباري، والغياب يستوجب حضور ولي الأمر وهو “الجوب سنتر”، ويعني نكوصا عن الاندماج، وبطاقة صفراء، فتذكرت حضور يوم العمل الطوعي في جمهورية رئيسنا المحبوب والذي كان يحرص على العمل فيه المرضى تحت كيس المصل والمكسورين في الجبائر خوفا من تهمة خيانة الوطن. كنت أميل إلى العيش مع كائنات الآفاتار في العصر الأول، وكان كل  طالب مكلفا بوظيفة منزلية  تحضر بأقلام النار على صحائف البللور، من أجل الحفلة، وهي وجبة طعام يحضرها معه  كي تتآدم الأرواح بالكاتو والكعك في إدام الكوكا كولا، فأحضرت ما أنعم الله به علي من أطايب الطعام الشامية، وكذلك فعل الزملاء، ولاحظت أن المدرسين التركي يلماظ والألمانية أم الحويرث ينظران إليَّ نظرات إعجاب وتقدير، فتذكرت مندوب القبائل المتحدة في العصر الخالي، السيد هرم بن سنان، الذي جرى بالصلح بين عبس وذبيان في داحس والغبراء ، وقال  فيها زهير بن أبي سلمى معلقته مؤرخا للحرب، ومدوناً حكمة العربي العتيقة، والمعلقة تعنون بأول شطر فيها، فيقال معلقة “أمن أم أوفى”، وليس أحب إلى كاتب السطور من الوقوف على الأطلال، ففيها قرّة عينه، وهو يتمنى من الله أن يقبض منه أمانته التي خانه فيها كثيرا، واقفاً على الأطلال، فيقول مثل امرأة فرعون: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أقف على أطلاله، وأبكيه، وقد كان يسخط وهو طالب على أبي نواس وغيره من الشعراء الذين سخروا من شعر الوقوف على الأطلال، وقصفوها ببراميل التهكم، واقتحموا القصيدة اقتحاما.

قال أبو نواس:

قُلْ لمنْ يبْكي على رَسْمٍ دَرَسْ- واقـفـاً، مـا ضَرّ لو كـان جلــسْ

فعارضه كاتب السطور شعرياً وقال:

قُلْ لمنْ يبْكي على غلام حدث- واقـفـاً، مـا ضَرّ لو كـان فطْس

وكان التحديث في القصيدة العمودية، بحذف الطللية يلقى مباركة من المدرِّس في المدرسة البعثية والنفطية والنثرية والصهيونية، ولم يكن يجرؤ على المعارضة حتى الشعرية منها، فهو طالب وخجول، ورأيه لا يزال غضا تنقصه مواثيق البراهين وإيمان المؤمنين، وكان التحديث في القصيدة بحذف الوقوف على الأطلال يشبه في ملته واعتقاده أن يهجم عريس على عروسه في ليلة الزفاف كما البهائم، فهلا جعل بينه وبين عروس القصيدة رسولا؟

فسأل السائل: وما الرسول؟

قال: الضمة واللثمة والقبلة..

وكان الشاعر العربي، ما أوفاه، يسكن شهرين ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما، ثم يرحل عنها إلى بقاع أخرى، فيبكي على الأطلال حتى تجري دموعه أشعارا إلى جدران الكعبة ذهباً، فعرفنا خريطة الجزيرة العربية فؤادا فؤادا بالفاصلة والنقطة والشهقة، ومشاعره الوطنية بيتاً بيتاً، فبكينا معه المنزل الأول، أما كتاب قصيدة النثر المحدثون، فجزاؤهم عند كاتب السطور التي تَعاوَرُها الرِياحُ وَكُلُّ جَونٍ، هو جرفهم بالجرافة إلى غرف الغاز وتحويلهم إلى صابون حجري غير حلبي، للعسكر في دورة الأغرار.

فرشنا أطايب الطعام بعد ترتيب النضد ترتيبا جديدا يناسب مناسبة محو الأمية: طعام مغربي وطعام إفريقي وأفغاني وبولندي أحضرته السحاقية بوجنا.. وأخذتني تلك النسمة المباركة، وضِرع روحي ما تبضُّ بقطرة حليب، وما خلفني سوى الجهد عن الوطن، فقررت أن أتكلم في الحفلة، فاستغرب الطلاب، فعهدهم بي كالأصم الأعجم، أكثر من جواد عنترة في أيام السلم، وهمست في أذن أم الحويرث، فهشَّت وبشَّت، فأعدّوا لي الحلقة، وتكأكأ عني القوم، وكان كلامي بالإشارة مثل مسرح “النو” الياباني. قلت لهم بالإنكليزية أني سأمثل! سأقلد الطلاب زملائي جميعا، سأعمل “شاو شبيل” وكان ذلك عملا صعبا، فالحركة قليلة في الصف، فالطلبة لا يتحركون، وأنا سأقلدهم تقليد الحركة لا تقليد الكلمة، فأنا أعجم بالألمانية. بدأت بتقليد المدرس يلماظ فكاد يغشى عليه من الضحك، فهو يقف في الوسط واضعاً يده على خصره، وينطق الأحرف اللثوية نطقاً مبالغاً به، ثم قلدت مشيته، فضحك ، يعرف أين يتوارى من حُسن ما بشر به، ثم كررت عليهم مذمم، والفوارس تقول لي وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْـدِمِ، فقلدت الزميلات تترى: ليلي الإسبانية التي تتكلم و ضفيرتها تترنح مثل النظام العربي، وكيما الأفريقية الرداح التي  تميل على زميلتها الإسبانية وتنقرها باللكم المغشوش، من خجلها، وقلدت خرميشا، والأفغانية إقبال التي تتكلم بسرعة وطلاقة، وكأنها ستسقط عن دراجة لو توقفت عن الحركة، والمغربية عايشة، التي تضحك وتذبُّ ذباباً مجهولا غير مرئي وهي تناضل، والسوريين عبدو الأول وعبدو الثاني، ووقف الخلق ينظرون إليَّ كيف أبني دعائم المجد وحدي..

كانوا مصعوقين من الغارة، يضحكون والسحاقية بوجنا تشهق من الغزوة وتفكر بالتوبة من الضلال، والأفريقي يوسف الذي يصالب بين قدميه ويعقد ذراعيه وهو يقرأ.. ووصلت إلى أم الحويرث، كَأَنِّي غَدَاةَ الْبَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا، لَدَى سَمُراتِ الَحْيِّ نَاقِف حَنْظَلِ.

فتأهبتْ، وانتظرت، وجعلتها تنتظر، كدأبك مِنْ أُمِّ الْحَوْ يرِثِ قَبْلَها، وَجَارَتِها أُمِّ الرِّبابِ بِمَأْسَلِ، ثم ببطء قلدتها وهي تدخل مشي السحابة لا ريث ولا عجل، ثم وهي تأتي حاملة حقيبتها الكبيرة، وبيدها فنجان قهوتها، التي قال فيها الأصمعي: “وفـتـيــةٍ سقونَــنـــي، قهوةٌ كالعسلَلـي” ثم تبدأ السلام على الطلاب واحداً واحداً بالألمانية وتسألهم عن الصحة، وما فعلوا في اليوم السابق، والسؤال تعليم على الكلام، ثم تأمر بإغلاق النافذة، وأم الحويرث يكاد يغشى عليها من الضحك:

وَإِنْ تَكُ قد ساء تك مِني خَليقةٌ، فسُلِّي ثيابي من ثيابِكِ تَنْسُلِ.

سألوني: هل كنت تمثل في المسرح؟

قلت: هي المرة الأولى واضطرت إليها اضطرارا وأيم الحق. دفعتني إليها الأمية اللغوية. عجمة اللسان فصاحة الإيماء، والحاجة أم الاختراع وعمة الابتكار.. أريد الاندماج وقد أرخى عليّ النأي سدوله بكلكل، وما اللقاء منه بأمثل.

انتهى العرض بسرعة، ونظرت إليهم وهم صرعى من البهجة، لكن شيئا وقع ولم يكن بالحسبان، فقد دخلت إلينا مدرسة الشعبة المجاورة، السيدة شميدت تطلب النجدة، وتصيح بالألمانية: البدار البدار.. وقصدتني، ففزعت إليها مع صحبي، طوال الرّماح لا ضعاف ولا عُزل.، مهرعين إلى الصف المجاور، وأفئدتنا هواء، وكانت الحرب على أشدها، خمسة من قبيلة الداري الأفغانية قد اشتبكوا مع طالبين سوريين لكماً وضرباً، والشابان يناضلان حتى تكسرت النصال على النصال، والكراسي تتطاير، والكثرة تغلب الشجاعة، تكاثر الطلاب على الباب والنافذة، يشاهدون المعركة، وانضم طالبان من قومية البشتون إلى المعركة، فماذا أفعل؟ نجحت في المرة السابقة، بضربة حظ، وكانت رمية وقّى الله شرّها، لكني لا أعرف هؤلاء، رميت نفسي في الوغى، وحاولت أن أحجز بين المتشابكين، وقد التقت الساق بالساق، وحمي الوطيس، وانضم إلي عبدو الأول وعبدو الثاني، واستطعنا بعد لأيٍ الفصل بين المتحاربين، وربما خجل بعضهم من كثرة الشهود فخفّ أوار المعركة، وانطلق بعضنا يضمد جروح الخصوم كما تفعل القرود بالجرحى بعد المعركة. نجونا تلك المرة أيضا من المحاكم والبوليس، فالإدارة تتجنب الإساءة إلى سمعة المدرسة. انتهت الحرب بالصلح، أما شميدت فطلبت إجازة طويلة جدا للاستشفاء من بأس الواقعة، وسافرت إلى أنطاليا لغفران ذنوب المشقة بالنسيان والاغتسال بملح البحر الأبيض المتوسط.

بعد أسبوع قرأت أن الحكومة السويدية أوقفت ثلاثة وعشرين طالبا أفغانيا اعتدوا على سوريين، وأقفلت مدرسة اللغة. برهن الوريث الجمهوري حقا أنه محبوب من الشرق والغرب، وأنه يجلس على قنبلة، مثل بطل قصة حنا مينة الشهيرة، ألم يكن أحسن لنا أن نجيد لفظ القاف مقلقلة قلقلة كبرى بدلا من تعلم لغة العلوج الأفاضل؟ في ما بعد عدنا إلى الحفلة. كانت المعركة قد أفسدت عليّ يوم مجدي، فنسي الطلاب بطولاتي في فن التقليد والإيماء. كنت قد صرت بالمسرحية ابن الأطايب، وعدت ابن زبيبة بفعل تلك المعركة. سألتني أم الحويرث خجلة وَالْمَاء يثنى على أعطافها أزرا:

هل يمكن أن تشرح لي سبب تلك المعركة بين الأفغان والسوريين؟

قلت: أبيتِ اللعن، عندنا رئيس وسيم ومفكر ومحبوب وله أنصار وعاشقون في كل العالم، الأفغان يحبونه والفرس والروس.. هذا هو سبب الحرب، الحب كده.

سألت: ولمَ كان ذلك السوري الأشقر يقاتل إلى جانب الأفغان ضد أهله السوريين؟!

فخرست، وترقرقت في عيني عبرةٌ مهراقةٌ ولم أحر جوابا، ووجدت نفسي منقلبا إلى زمن آفاتار الجاهلية، مع امرئ القيس الأخير، في غربته في بلاد قيصر، وحوله الزملاء والصحب؛ خرميش وكيما الرداح وباولينا وعايشة وليلي البلغارية والسحاقية بوجنا، وعنيزة، والشمس في جفن المغيب… يقُولُونَ له:

لا تَهلِكْ أَسىً…..

وَتَجَمَّلِ.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى