إياد الجعفريصفحات المستقبل

أمريكا وعقارب الزجاجة السورية/ إياد الجعفري

 

 

 

في أحدى فصول كتاب للأكاديمي الأمريكي، والتر راسل ميد، بعنوان “تدبير إلهيٌّ خاص: السياسة الخارجية الأميركية وكيف غيّرت العالم”، يكشف ميد عن جذور واحدة من استراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية، والتي ترجع إلى التراث البريطاني، حينما كانت بريطانيا القوة العظمى، وكانت حينها تهدف إلى تأمين التوازن بين مختلف القوى الأوروبية، بصورة تضمن لبريطانيا التفوق على مختلف تلك القوى.

ويشرح ميد أن بريطانيا كانت تنظر إلى القارة الأوروبية، وكأنها زجاجة، تتحرك في داخلها مجموعة عقارب، هي القوى الأوروبية، تحارب إحداها الأخرى. وكانت بريطانيا حريصة على ألا تتمكن أية قوة من تلك القوى، من الخروج من تلك الزجاجة، بصورة تهدد التفوق البريطاني. كما كانت حريصة على ألا تتمكن أية قوة من افتراس باقي القوى بصورة تحولها لقوة قادرة على تهديد التفوق البريطاني. وفي سبيل ذلك، كانت بريطانيا تعمل على التدخل في حروب القارة الأوروبية، بصورة تضبط توازنات القوى بين أطرافها، كي تستمر تلك الحروب دون تفوق أي طرف.

ذلك التراث البريطاني القديم، انتقل إلى صناع السياسة الخارجية الأمريكية. حيث اعتمد الأمريكيون لعبة “ضبط التوازنات” بين خصومهم، بصورة تضمن تفوقهم، في أكثر من مرة. قد يكون أشهرها في الشرق الأوسط، الحرب العراقية – الإيرانية، في الثمانينات، حيث ثبت دور الأمريكيين في موازنة أية كفة كانت تميل للخسران في تلك الحرب، بهدف استمرارها، بما يضمن ألا يتمكن أي من الطرفين، الإيراني أو العراقي، من تحقيق قوة كفيلة بالهيمنة الإقليمية.

“لعبة التوازنات” تلك بين العراق وإيران، انتقلت من حقبة ريغان، إلى حقبة بوش الأب، ومن ثم بيل كلينتون. وهي السبب الذي منع بوش الأب من الإجهاز على حكم صدام حسين في حرب عام 1991، حسب الكثير من المؤرخين. لكن بوش الابن أطاح بلعبة التوازنات تلك، عام 2003.

تعتقد دراسة لافتة، صادرة عن مركز وودرو ولسون الدولي في واشنطن، خلال شباط الماضي، أن الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، اعتمد استراتيجية “ضبط التوازنات” في إدارة الصراع بسوريا، بصورة تحقق المصالح الأمريكية، بأقل الخسائر الممكنة. وأن هدفه الرئيس كان دفع كل خصوم الأمريكيين إلى التورط في الصراع السوري، بصورة تستنزف قدراتهم، من دون أن يسمح لأي منهم بأن يتفوق على البقية.

وحسب الدراسة التي ترجمها موقع “الجمهورية” مؤخراً، كانت مشكلة أوباما مع داعش، أنه حاول الخروج من الزجاجة السورية. الأمر الذي اضطر الأمريكيين للتدخل المباشر، بغية إعادة “ضبط التوازنات”. ولضمان أقل كلفة ممكنة للتدخل الأمريكي، استخدم أوباما الإيرانيين أنفسهم، لتحقيق وقف تمدد داعش في العراق. في الوقت الذي دفعهم فيه إلى المزيد من الاستنزاف في سوريا.

لكن الإيرانيين، تمكنوا، بغطاء روسي، من تحقيق وجود أكثر رسوخاً في سوريا. ومع نهاية عهد أوباما، بات العقرب الإيراني في الزجاجة السورية، على مقربة من التهام باقي العقارب، وفق المنظور الأمريكي.

في الزجاجة السورية، أبرز “عقربين” يراهن الأمريكيون على اقتتالهما، هما، الجماعات الجهادية العابرة للحدود، والإيرانيون والميليشيات التي تمثلهم إلى جانب حليفهم الأسد. في السنتين الأخيرتين من عهد أوباما، كان تركيز واشنطن منصباً على إضعاف الجماعات الجهادية، ممثلة بصورة رئيسية في داعش، وبدرجة أقل، في جبهة النصرة. ومع الانحسار الذي يعيشه داعش، اليوم، والانكماش الذي آلت إليه النُصرة. يبدو أن العقرب الإيراني سيكون محط تركيز الأمريكيين.

الدراسة التي أشرنا إليها آنفاً، رجحت قدرة واشنطن في إبقاء خصومها، مُقفلاً عليهم في معركة مميتة، بسوريا. لكن بعد أشهر من إعداد تلك الدراسة، يبدو أن خلاصتها تتطلب شيئاً من التنقيح. فالعقرب الإيراني امتلك من الجرأة ما يكفي لأن يهدد بصورة صريحة ومباشرة، معاقل السيطرة الأمريكية، شبه المباشرة، في عمق الزجاجة السورية.

في الأسبوع الماضي، حدث تطوران يؤكدان ذلك. ما قالته مصادر عشائرية شرق سوريا عن دخول قوات من الحشد الشعبي العراقي (إيراني القيادة)، إلى داخل الأراضي السورية، بتوطئة “كردية”. ومن ثم، تلك الرسائل التي ترددت صريحةً من جانب الأمريكيين بأن أي اقتراب نحو معبر التنف الحدودي في البادية السورية، من جانب الميليشيات المدعومة من إيران، سترى فيه واشنطن عدواناً صريحاً، سترد عليه. ورغم ذلك، ما تزال تلك الميليشيات ترابط على مسافة قريبة من المعبر.

وفق استراتيجية “ضبط التوازنات” الأمريكية – البريطانية، بات جلياً بأن العقرب الإيراني يكاد يلتهم نظرائه في الزجاجة السورية، وأن لا بد من التدخل لوقفه عند حده. ووفق تلك اللعبة ذاتها، لدى الأمريكيين ثلاثة سيناريوهات، إما التدخل العسكري المباشر ضد “العقرب” الإيراني، لإضعافه. أو إعادة إحياء “عقرب” ذبُلت قوته، ودعمه من جديد، ليكون مصدر استنزاف للعقرب الإيراني. قد يكون ذلك العقرب، فصيلاً من فصائل المعارضة السورية، بل أبعد من ذلك، قد يكون فصيلاً من الفصائل الجهادية في تلك المعارضة، يمكن إعادة تأهيله. “النُصرة” ذاتها، مثلاً. أما السيناريو الثالث، فهو إدخال عقرب جديد تماماً إلى الزجاجة، لموازنة قوة العقرب الإيراني. قد يكون ذلك العقرب، “الناتو” الإسلامي، الذي تم الحديث عنه في السعودية. بمعنى إدخال قوات من دول عربية، بغطاء جوي أمريكي، لمحاربة الميليشيات الإيرانية، داخل الزجاجة السورية.

بكل الأحوال، فإن الفترة القادمة هي فترة النيل من “العقرب” الإيراني. ولا يعني ذلك بالضرورة انتهاء فصول المأساة السورية، ما دام الأمريكيون قادرين على إبقاء خصومهم داخل تلك الزجاجة المقفلة، في صراعهم المُميت.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى