صفحات الرأي

أميركا بين الشرق الأوسط والشرق الأقصى: نفوذ مكلف واقتصاد متدهور!

تواجه إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تحديات في العديد من المناطق والمحاور الإستراتيجية التي تشكل مصالح حيوية لواشنطن. كما تواجه ضغوطاً كبيرة لتقليص نفقاتها الدفاعية والفدرالية، إلا أنّ التطورات في الشرق الأوسط تجعلها متردّدة في الإقدام على خطوة كهذه، نظراً إلى صعوبة خيار التدخل العسكري أو عدمه في مجريات الأحداث.

وبالعودة إلى «أمجادها»، خرجت الولايات المتحدة من الحرب الباردة بقوة لم يسبق لها مثيل، ولكنها لم تكن قادرة على استغلال هذه الإيجابية بالطريق الصحيح، حيث أن سياستها الخارجية لم تكن تعتمد على إستراتيجية شاملة، بحسب قول رئيس «مجلس العلاقات الخارجية» ريتشارد هاس، في مقال نشرته مجلة «فورين أفيرز» الأميركية مؤخراً.

ولكن بعد أحداث 11 أيلول، بدأت إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش حرباً عالمية وقائية على الإرهاب والدول الداعمة له، تمثّلت في الهجوم على حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة» في أفغانستان. وعلى صعيد آخر، لم يكن اتهام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بالتحريض على الإرهاب أو دعمه، أو اتهامه بامتلاك أسلحة دمار شامل، سبباً مقنعاً لاحتلال العراق في العام 2003، وهذا ما يوضحه أيضاً المسؤول في الاستخبارات الأميركية جورج تينت في كتابه: «في قلب العاصفة»، وهو ما يشرحه هاس أيضاً، الذي يرى أن السبب الأساسي والمنطقي لاحتلال العراق كان رسالة إلى العالم، مفادها أنه «حتى بعد أحداث 11 أيلول، لم تصبح الولايات المتحدة أمة هزيلة وعاجزة».

خلال ولاية أوباما الأولى، أصبحت الإدارة الأميركية تعي أكثر أن للحرب على أفغانستان تكلفة ضخمة وإنجازات قليلة، من دون آفاق واضحة، حيث أن الواقع الاقتصادي الأميركي تغلّب على الطموحات الخارجية، ما أدى إلى إقرار إنهاء التواجد العسكري في العراق وتقليصه في أفغانستان، كجزء من عملية ابتعاد عسكري عن الشرق الأوسط.

ومنذ بداية «الربيع العربي»، بدا واضحاً تجنّب إدارة أوباما التورط بشكل مباشر في المنطقة. وتجلى ذلك مع بداية الأزمة في سوريا في العام 2011، حيث تعاملت واشنطن بحذر شديد، فعارضت التدخل العسكري، رافضة إنشاء مناطق حظر جوي أو تزويد المعارضة السورية بالأسلحة، خوفاً من سيطرة مجموعات متطرفة عليها، مكتفية بتزويدها بالمساعدات «غير القاتلة»، والدعم الاستخباراتي.

شرق أوسط جديد

قبل حوالي ست سنوات، توقع هاس مخاض شرق أوسط جديد، ينتهي فيه عصر السيطرة الأميركية على المنطقة، أو يضعف نفوذها في أقل تقدير، بينما تتصاعد القوة الإيرانية، وينتشر الإسلام السياسي.

ويعتقد الكاتب أن الواقع، بعد «ربيع» العام 2011، أكثر بؤساً من تلك التنبّؤات. وعلى هذا الصعيد، فإنه يشير إلى أنّ الخيار السياسي الأكثر صعوبة الذي تواجهه الإدارة الأميركية في المنطقة هو إزاء الأزمة السورية؛ حيث تعتبر من جهة، أنّ سقوط الرئيس السوري بشار الأسد سيؤدي إلى ضربة كبيرة للراعي الإيراني، ولكنها متشككة في ما يخص المعارضة السورية وانقساماتها واختلاف جداول أعمالها، وتتخوف من أن تزويدها بما تسميه مساعدات «قاتلة» قد يؤدي إلى سيطرة مجموعات متطرفة عليها، كما تخشى من امتداد الأزمة إلى دول الجوار.

ومن جهة أخرى، فإن أي تدخل عسكري، قد يؤدي إلى إطالة أمد الصراع وارتفاع كلفته المادية والبشرية. ولكن هذا لا يعني استبعاد أساليب أخرى للتدخل؛ كزيادة العقوبات السياسية والاقتصادية على دمشق، وتفعيل الضغط الديبلوماسي وتزويد المعارضة المعتدلة بمساعدات عسكرية، قد تساهم في التوصل إلى إسقاط الأسد.

ويبقى هناك الكثير من التحديات التي تواجه المصالح الأميركية، من خلال الاضطرابات السياسية في البحرين والأردن والسعودية. وفي هذه الحالة، ينبغي على المسؤولين الأميركيين تشجيع الإصلاحات السياسية والاقتصادية في هذه الدول، على الرغم من أن هذا لا يضمن أن هذه النصائح سيتم العمل بها.

وبناءً على ذلك، على واشنطن أن تعطي دعماً قوياً لـ«الحكومات الصديقة» التي تتصرف بمسؤولية، ولا تمنع هذا الدعم عن الدول التي تفشل في تحقيق أي إصلاحات، نظراً إلى المصالح الحيوية والاقتصادية والأمنية المهمة لها في هذه الدول، علماً أن أي نظام يخلف الأنظمة الحليفة قد يكون عدائياً ومناهضاً للسياسة والمصالح الأميركية.

ويعتبر هاس أنه على واشنطن بناء علاقات مشروطة مع الدول التي شهدت تغييراً في أنظمتها، كمصر وتونس وليبيا، مؤيداً سياسة أوباما في علاقته مع النظام «الإخواني» في مصر، والتي لا تعدّ «تحالفاً لا خصومة». وعلى هذا الأساس، يجب أن يكون الدعم الأميركي لهذه الأنظمة مرتبطاً بكيفية تعامل الحكومات الجديدة مع المصالح الأميركية أولاً، ثم مع جيرانها وشعوبها.

وبالنسبة إلى إيران، تملك واشنطن أسباباً قويّة لمنع طهران من تطوير برنامجها النووي. لذا فإنّ تكرار الخطاب الأميركي الذي يشدّد على ضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي، يضع مصداقية الإدارة الأميركية على المحك.

وفي الوقت نفسه، على واشنطن أن تتجنب حرباً مكلفة أخرى، إذ إنّه قبل اتخاذ أي قرار بضربة عسكرية وقائية ضد إيران، يجب أن تكون الإدارة الأميركية متأكّدة من فرص نجاح هذه الضربة، وقدرتها على منع طهران من تطوير قدراتها النوويّة والعسكريّة، وتعي الثمن الذي قد تدفعه جراء أي ضربة انتقامية تهدّد مصالحها في المنطقة. وقبل كل شيء، فإنّ الضربة يجب أن تكون الملاذ الأخير، في حال فشل المفاوضات.

يرى الكاتب أن على الإدارة الأميركية تجنب أي تدخل عسكري في المنطقة للمساعدة في إسقاط أنظمة مناهضة، أو حماية أنظمة حليفة، نظراً إلى الكلفة التي قد تتكبدها، وأولويّة التحديات الداخلية التي تواجهها. وعلى أميركا أن تتعامل مع أي حراك عسكري للحفاظ على مصالحها الحيوية، كتدفق النفط ومحاربة الإرهاب موضعيًّا، حيث تدعم قدرات الحكومات المحلية للحفاظ على النظام ومكافحة الإرهاب، وحث الحكومات التي تتزعمها جهات إسلامية كـ«جماعة الإخوان المسلمين»، على القيام بإصلاحات ديموقراطية. وفي حال عدم تجاوب هذه الحكومات، يجب منعها من توطيد سلطتها.

المفارقة في السياسة الأميركية

ينتقد هاس المفارقة في السياسة الأميركية الخارجية تجاه الشرق الأوسط، حيث يعتبر أن واشنطن اختارت أن تزج بنفسها في المنطقة عندما لم تكن بحاجة قصوى إلى هذا التدخل الذي أدى إلى خوض حرب استمرت لعقدين من الزمن، تكبدت فيها الولايات المتحدة خسائر فادحة؛ بشرية تمثلت بحوالي ستة آلاف قتيل و40 ألف جريح، ومادية قُدّرت بحوالي 1,5 تريليون دولار أميركي، ما أدى إلى مطالبة معظم الأميركيين بـ«النأي» عن هذه المنطقة من العالم، بينما يرى المسؤولون الأميركيون صعوبة القيادة من الخلف، وهم في أمسّ الحاجة للحفاظ على مصالح دولتهم الحيوية والإستراتيجية فيها مرحلياً.

من ناحية أخرى، يلفت الكاتب إلى أن واشنطن لن تكسب الكثير في حال بذلت المزيد من الجهد في المنطقة في الوقت الراهن. فعندما تكون المصالح المعرضة إلى الخطر أقل حيوية من غيرها، وعندما تفوق المخاطر والتكاليف الفوائد والمنافع المحتملة، يصبح على الولايات المتحدة التعايش مع النتائج الأقل من المستوى الأمثل.

فعلى سبيل المثال، سيكون من المؤسف أن تستعيد «طالبان» قوتها، لكن ذلك لن يشكل خطراً كبيراً على المصالح الأميركية الحيوية في المنطقة، لا سيما إذا مُنع تنظيم «القاعدة» من العمل انطلاقاً من الأراضي الأفغانية. وفي أماكن أخرى من المنطقة، سيكون من المؤسف أيضاً، وصول «الإخوان» إلى السلطة، لكن هذا لن يكون سبباً لأي تدخل عسكري.

إنّ «النظام القديم» في الشرق الأوسط في طريقه إلى الزوال، لكنّ التحول لا يزال في مراحله الأولى، وسيمثل الإسلام السياسي دوراً كبيراً في إعادة رسم ملامح المنطقة. كما يرجّح إعادة رسم حدود بعض الدول أو «نشوء دول جديدة»، وقد يكون مألوفاً الصراع داخل الدول وفي ما بينها. بناءً على ذلك، يمكن لواشنطن محاولة التأثير في مجرى الأحداث، لكن من المستبعد أن تستطيع السيطرة عليها. وتكمن الإجراءات الأكثر حكمة التي قد تتخذها الولايات المتحدة، في عزل نفسها قدر الإمكان عن أحداث المنطقة، ومواصلة تطوير مصادر طاقة خارج الشرق الأوسط.

الاتجاه شرقاً

إنّ تركيز واشنطن على الشرق الأوسط شوّه سياستها الخارجية والدفاعية، ما أدى إلى مطالبات عديدة بتصحيح هذا المسار، وهذا ما بادرت إليه إدارة أوباما عبر الإعلان عن إعادة التوازن في السياسة الأميركية، والتركيز على شرق آسيا، التي تعتبر دولها من أكثر وأسرع الاقتصاديات نمواً، حيث من المتوقع أن تكون لها أهمية أكبر من الشرق الأوسط في تشكيل مستقبل العالم. وتخشى الإدارة الأميركية من أن تصاعد القوة الصينية قد يؤدي إلى تعامل حلفاء أميركا في المنطقة بمرونة أكثر مع هيمنتها، ما يزعزع جهود مقاومة ازدهار شانغهاي.

وتعتبر آسيا موضع تنافس بين القوى العظمى، حيث الوجود العسكري الأميركي قد يكون مفيداً في التعامل مع العديد من المشاكل المحتملة. وقد برهنت الإدارة الأميركية الحالية حكمتها من خلال المزيد من التركيز على هذا الجزء من العالم في العام 2011.

وفي الوقت نفسه، من الضروري تفعيل العلاقات الديبلوماسية مع الصين وجيرانها، وتوفير المساعدات الاقتصادية لتشجيع التنمية في البلدان الأكثر فقراً في المنطقة، والتفاوض على اتفاق تجاري جديد.

إنّ أفضل وسيلة لضمان الاستقرار في شرق آسيا هو بقاء أميركا ناشطة، وشريكاً استراتيجياً يمكن الاعتماد عليه. وبالتالي، فإنه لا يزال من المنطقي وجود قوة أميركية كبيرة (الآن 28 ألف جندي) على أن تتمركز في كوريا الجنوبية، على الرغم من مرور ستة عقود على نهاية الحرب الكورية، حيث يعتبر ردع تجدد الصراع أولوية قصوى.

ويلفت الكاتب إلى أن أي صراع في المستقبل سينتهي بإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية تحت سلطة الجزء الجنوبي، وتعزيز جهود الصين لكبح جماح حليفتها الشمالية. وعلى واشنطن طمأنة الصين بأن كوريا الموحدة ستكون غير نووية، و«منزلاً لعدد صغير من القوات الأميركية، إن وجدت». فالأساس المنطقي للدفاع عن كوريا الجنوبية واضح نسبياً، نظراً إلى التزامات الإدارة الأميركية، لكنها لا تريد أن تنجر إلى صراع إقليمي من دون أسباب واضحة، لذلك تواجه السياسة الخارجية الأميركية موقفاً حساساً للغاية، ما يؤكد ضرورة التوصل إلى حل سلمي للأزمة بمساعدة الصين.

وعلى الرغم من صعوبة إدارة العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في مثل هذا السياق، فإنّه لن يكون هناك تحد أكثر أهمية بالنسبة إلى الديبلوماسية الأميركية، من العمل لدمج الصين في الترتيبات الإقليمية والعالمية، سواء كان ذلك من خلال إدارة الاقتصاد والحد من تغير المناخ، أو مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل. مع الإشارة إلى أن أساس التقارب بين واشنطن وبكين من خلال معارضة الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً، كما أن التعاون من أجل المنفعة الاقتصادية المتبادلة أصبح ضيقاً جداً للحفاظ على الانسجام بين البلدين.

وفي الوقت ذاته، ينبغي أن يكون التعاون الوثيق على حل التحديات الإقليمية والعالمية الكبرى عنصراً حاسماً، على الرغم من عدم واقعية الحديث عن شراكة صينية ــ أميركية ثنائية.

تبقى الحكمة في السياسة الأميركية عبر التعاون مع الصين الشعبية، إلى جانب الحفاظ على التواجد العسكري في المنطقة والتعاون الديبلوماسي والاقتصادي.

إعادة التوازن محلياً

إن إعادة التوازن في السياسة الخارجية يحتاج إلى أن تستكمل من خلال نوع آخر من التوازن بين السياسة الداخلية والخارجية، «المحلية والأجنبية»، حيث أن الولايات المتحدة تحتاج إلى استعادة أسس قوتها الاقتصادية، لكي تسترجع القوة والموارد اللازمة للعمل بحرية وقيادة العالم.

إن المبالغ الضخمة التي أنفقت على الحروب في أفغانستان والعراق لم تسبب مأزق الميزانية الاقتصادية الحالية في البلاد، لكنها ساهمت في ذلك. الهدف يجب أن يكون استعادة مستويات تاريخية من النمو الاقتصادي المحلي، وخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وتحسين نوعية البنية التحتية للبلاد ورأس المال البشري. وخلال السنوات القليلة المقبلة، حيث لا تواجه واشنطن أي قوة عظمى منافسة أو تهديداً وجودياً، من المحتمل أن تشهد شيئاً من الراحة الإستراتيجية.

ويختم الكاتب متسائلاً عما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تستفيد من هذه الفترة لتجديد مصادر قوتها، أو تهدرها من خلال تقليص الاستثمارات المحلية، واستمرار إغراقها في الشرق الأوسط، عوضاً عن التوجه إلى شرق آسيا.

ترجمة: إبراهيم خليل شرارة

(عن مجلة «فورين أفيرز» الأميركية)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى