سلامة كيلةصفحات مميزة

أميركا وروسيا كحليفين في سوريا/ سلامة كيلة

بما يخالف الصيغة النمطية التي ترسخت خلال عقود سالفة، والتي قامت على قسم العالم إلى قطبين متناقضين، أميركا (كممثلة للإمبريالية) وروسيا (التي هي الاشتراكية)، وهي الصيغة التي استمرت حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وحكمت نظر بعض اليسار فيما يتعلق بالثورات العربية، والثورة السورية خصوصا، تظهر التطورات الأخيرة بأن المعادلة اختلفت، وأن ترسيمة الحرب الباردة انتهت، وأن الاشتراكية كنظم انتهت أصلا.

وهنا، كما كانت سوريا هي مفصل انكشاف “الصراع” الأميركي الروسي لرسم “نظام عالمي جديد”، باتت هي التي تكشف الواقع الجديد.

ورغم “التوافق” فيما يتعلق في الملف السوري بين أميركا وروسيا منذ ما يقارب العامين، الذي تمثل في إقرار اتفاق جينيف في 30 يونيو/حزيران 2012، والذي أعيد تأكيده بعد خلافات “هامشية” وفق المنظور الروسي.

فقد ظلت “الصيغة النمطية” تتحكم في طيف واسع من “المعادين للإمبريالية” (التي باتت هي أميركا فقط)، الطيف الذي يقول إنه ينتمي لليسار، ولهذا وقف مع السلطة الليبرالية المافياوية، والتي أظهرت وحشية لا مثيل لها.

في الأيام الأخيرة ظهرت وقائع جديدة، ربما تسمح بفهم أعمق للدور الدولي في سوريا، خصوصا هنا طبيعة التفاهم الأميركي الروسي، فقد التقى قدري جميل -زعيم حزب الإرادة الشعبية، ونائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، والممانع جدا، والذي ظل يكرر الصيغة النمطية عن المؤامرة الإمبريالية على سوريا دولة الممانعة والمقاومة، والذي كان “الرؤيوي” لكل “اليسار العالمي الممانع”- التقى مسؤول الملف السوري في وزارة الخارجية الأميركية، والسفير في دمشق روبرت فورد، في الوقت الذي كان فورد يبلغ الائتلاف الوطني السوري بأن عليهم الذهاب إلى موسكو لأن الحل هناك.

طبعا التصريح الأميركي يعني أن أميركا تقرر بأن روسيا هي التي سترتب الحل الذي توافق هي عليه، والذي على المعارضة أن تقبله، لكنه يعني كذلك بأن كل الخطوات الأميركية باتت تصب في خدمة هذا الحل، وربما تأتي في إطار التنسيق بين الطرفين.

هذا ما أسميته سمسرة أميركية لروسيا، حيث عملت على تحييد قوى إقليمية ودولية لمصلحة الحل الروسي، وجلبت موافقة هذه القوى على الحل الروسي، رغم أن كلا منها كان يريد أن يحصل على “حصة” في سوريا، مثل تركيا التي كانت لها مصالح كبيرة حصلت عليها من السلطة الحالية وكانت تريد الحفاظ عليها، وأيضا فرنسا التي ظلت تحاول أن يكون لها “موطئ قدم” في سوريا.

كذلك دور السفير فورد الكبير في فرض توسيع الائتلاف الوطني بإدخال قوى تقبل الحل، وتهميش قوى أخرى لا دور لها في سوريا القادمة نتيجة تناقضات المصالح. لهذا أشرت مرارا بأن أميركا “باعت” سوريا لروسيا، رغم أن العلاقات الأميركية السورية لم تكن جيدة (رغم أنها بدأت تتحسن مع مجيء باراك أوباما إلى الرئاسة)، ولكن كانت ضمن طموحها قبل أن تقتنع بأن أزمتها الاقتصادية التي تفجرت سنة 2008 لا حل لها، وبالتالي باتت تعمل على إعادة “موضعة” ذاتها عالميا.

من ذلك الموافقة على أن تحصل روسيا على سوريا، التي باتت تحتاجها ضمن طموحها العالمي لكي تصبح لها أسواق وسيطرة إستراتيجية (منها قاعدة طرطوس التي تضمن وجود الأسطول الروسي في البحر المتوسط).

وتسعى روسيا للوصول إلى تفاهم إستراتيجي يحقق مصالح الطرفين في الوضع العالمي الجديد الذي يشهد أزمة كبيرة تعيشها الرأسمالية ككل (أي بما في ذلك روسيا)، ومحاولات لإعادة “تقاسم العالم” بين كل من أميركا وروسيا (والصين إلى حد ما)، وسوريا هي المفصل في الترتيب الجديد، أو البداية التي تعزز الثقة بين الطرفين.

وهذا ما يجعل أميركا جادة في “خدمة” روسيا في سوريا، خصوصا وأنها “على حافة الهاوية” على الصعيد الاقتصادي كما ظهر في الفترة السابقة بعد أن فرض العجز في الميزانية رفع سقف المديونية، التي باتت أعلى من الناتج الوطني.

كما أن من شأن هذا قلب “الصيغة النمطية” التي تعشش في عقول الذين ما زالوا يعيشون الماضي، فقد بتنا في وضع جديد، ليس كل من أميركا وروسيا طرفين متصارعين فيه، بل باتا متوافقين تماما على الوضع السوري، حيث سوريا لروسيا، وأميركا تقوم بـ”المساعدة” على إنجاح “الحل الروسي”، أي الحل الذي يقوم على اتفاق جينيف1.

وهذا ما جعل “المؤامرة” (إذا ما استعرنا كلمات الممانعين) هي على الثورة والشعب، وليس على النظام كما صور “الممانعون”، وحيث ظهر بأن هؤلاء هم “حلفاء طبيعيون” لأميركا (أي الإمبريالية الأميركية) في مواجهة الثورة، وإن كان ذلك يتحقق عبر التحالف مع روسيا، وفي خطاب ديماغوغي “ضد الإمبريالية”.

الآن، يجري العمل الحثيث بين كل من الإمبريالية الروسية والإمبريالية الأميركية لترتيب “إنهاء النزاع”، و”وقف الحرب الأهلية”، وحل “النزاع المسلح” في سوريا، وفق الأسس التي جرى الاتفاق عليها سابقا، ووفق المنظور الروسي، بحيث يجري فرض “سلطة انتقالية” من كل من السلطة الحالية والمعارضة بكافة أطيافها.

ورغم بعض الخلافات التي طرأت بين الطرفين سابقا (خصوصا قبل استلام جون كيري وزارة الخارجية) فإن العمل يبدو متسقا في سياق تحقيق الحل الذي تقرره روسيا، وحيث تقوم أميركا بتقديم كل المساعدة الممكنة لإنجاحه.

كل ذلك يشير إلى تشكل وضع عالمي جديد يتجاوز منطق الحرب الباردة، ويظهر مدى الضعف الذي أصاب أميركا، وبالتالي انفتاح العالم على صراعات وأشكال من التنافس من أجل السيطرة، ولكن في وضع تعاني فيه كل القوى الرأسمالية من الأزمة ذاتها التي أصابت أميركا سنة 2008.

كما يشير أيضا إلى أننا في بداية هذا التحوّل الذي يمكن أن يؤدي إلى نشوء مراكز رأسمالية ضعيفة، متنافسة ولكنها مضطرة إلى التفاهم، وتعيش أزمات قد تطيح ببعضها، لكنها سوف تفرض زيادة سياسة التقشف، هذه السياسة التي ستدفع إلى تحرك الشعوب وربما إلى ثورات في تلك البلدان.

لهذا لم تعد “الصيغة النمطية” للصراعات العالمية صحيحة بل باتت من الماضي، وهي لا تفتح أفقا لفهم ما يجري الآن في العالم، ولا تفسير الصراعات التي تنشأ، أو فهم وضع الثورات ومآلها. والاستمرار في الانطلاق منها يقود حتما إلى اتخاذ أسوأ المواقف، وأشدها انتهازية.

ولعل هذا ما يظهر واضحا فيما يخص الوضع السوري، حيث يقود إلى الوقوف خلف سلطة مافياوية وحشية بربرية بحجة معاداتها الإمبريالية أو دعمها المقاومة، وهي الحجة التي تسقط إذا انطلقنا من تحليل الوضع الداخلي، ومن طبيعة السلطة وسمة الفئات التي تسيطر على السلطة فعليا.

في الواقع ستظهر هذه السلطة كفئة رأسمالية مافياوية فرض نهبها انهيار الوضع المعيشي لأغلبية المجتمع، وعملت لكي تتكيف مع السيطرة الإمبريالية الأميركية دون أن تلقى جوابا منها، ومن ثم تكيفت مع رأسماليات أخرى، وباتت تابعة للإمبريالية الروسية.

وإذا كانت “الصيغة النمطية” ما زالت تعتبر روسيا ليست إمبريالية (بازغة أو تحررية أو صناعية) فليس أمامنا سوى اعتبار التقارب الأميركي الروسي “انحرافا” أميركيا، وتحول أميركا إلى دولة “بازغة” أو “تحررية”.

وربما هذا هو الذي دفع قدري جميل إلى لقاء السفير الأميركي فورد (الذي كان يعتبر من قبله رأس المؤامرة الإمبريالية)، وهذه مهزلة في الواقع.

ولا شك في أن العقل الذي يتناول الموضوع من هذه الزاوية سوف يقع في تناقضات ومتاهات وأوهام تظهر مدى الهشاشة والتشوش والخطل في كل الأفكار التي تبنى عليها المواقف.

بالتالي ما يجب أن يكون واضحا هو أن شكل الصراع الماضي بين البلدين، أميركا وروسيا، قد انتهى بنهاية الاشتراكية في روسيا، وأن روسيا باتت كإمبريالية تفرض “وجودها” العالمي.

في المقابل أن أزمة أميركا باتت تدفعها للتوافق مع روسيا وليس مع أوروبا أو اليابان خشية من الصين (الدولة الإمبريالية البازغة)، وهذا ما يظهر جليا في المسألة السورية التي كانت ربما المفصل بين “عالمين”.

وهذا التوافق الجديد ربما يؤدي إلى أن تمهّد أميركا لـ”سيطرة” روسية على “الشرق الأوسط” (بدون الخليج الآن).

ومن حاول استعادة شريط الموقف الأميركي من سوريا والثورة السورية سوف يلمس “النظر من بعيد”، ومن ثم إبعاد “الحلفاء السابقين” عن القيام بـ”مغامرة عسكرية”، ثم التقرّب من الروس و”إرشادهم” إلى القيام بـ”رعاية مرحلة انتقالية” كما حدث في اليمن (هذا بداية سنة 2012)، إلى التوافق والاختلاف، ومن ثم التوافق على تطبيق مبادئ جنيف، والعمل الفعلي على ترتيب أجواء “الحلفاء السابقين” لكي يوافقوا على “الحل الروسي”، وصولا إلى الآن، حيث يبدو الحماس الأميركي واضحا لتحقيق “الحل الروسي”.

وهذا يسقط كل “تخريفات” كل الذين تحدثوا عن مؤامرة إمبريالية أميركية، حيث كانوا “يؤلفون” من مخزون منتهي الصلاحية.

“الصيغة النمطية” لفهم العالم باتت منتهية الصلاحية منذ زمن، ولذا علينا أن نرى كلا من أميركا وروسيا كإمبرياليتين تحاولان تقاسم العالم، وسوريا هي “التجسيد العملي” لهذا التقاسم.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى