صفحات سوريةغازي دحمان

أميركا و«مؤسسات» جمهورية الأسد/ غازي دحمان

 

 

من المثير جداً أن تعجب أميركا، التي وصف الكسي دوتوكفيل مشروعها الديموقراطي بالعظيم، بدولة الأسد ومؤسساتها، وتصر على الحفاظ عليها، ولو كلّف ذلك، ليس القضاء على حلم السوريين بالحرية فقط، بل القضاء على البشر والحجر والزرع والضرع، على ما تفعل هذه الدولة في الوقت الراهن؟

كان أكثر سهولة وقابلية للفهم أن يخفي الأميركيون تراجعهم هذا، تحت بند حصول متغيرات تستدعي تعديل المواقف لتتناسب مع مصالحهم العليا، كالتطور في العلاقة مع إيران أو تغيير تقديراتهم للبيئة الأمنية في المنطقة وموقع أمن إسرائيل ضمنها. وهو أمر يمكن فهمه في إطار التفسير البراغماتي للسياسة الخارجية الأميركية، بل كان يمكن التعبير عن الأمر بطريقة أكثر شفافية ووضوحاً، بالقول إن حرية الشعب السوري شأن لا يعني الأميركيين وليس همّهم الأقصى في الوقت الراهن، فرغم فجاجة مثل تصرف كهذا، يبقى ممكناً فهمه في إطار العلاقة بين الشرق والغرب ونظرة الغربيين لقضايا المنطقة وهمومها.

أما ان تحاجج أميركا بالحفاظ على مؤسسات الدولة، فهو أمر يصعب تصديقه، ليس لأن دوتوكفيل الذي امتدح عظمة مشروع أميركا، إنما كان يقصد بالدرجة الأولى بناءها المؤسساتي والأدائية التي يتميز بها هذا البناء، ودرجة الاستقلالية العالية، وحالة الفصل بين تلك المؤسسات، بل لأن سوريا الأسد حالة بعيدة كل البعد عن مفهوم المؤسسات وقيمها لأسباب عديدة:

– لا يوجد في سوريا سوى مؤسسة العائلة التي ترشّق نفسها كل فترة عبر إجراء عمليات تصفية، يجري تنويع أشكالها ما بين انتحار كحالة رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي ووزير الداخلية غازي كنعان، أو عبر قتل جماعي مثل تفجير خلية الأزمة. ومؤخراً ظهر شكل جديد هو القتل بمصل سام كما حصل مع رستم غزالي رئيس فرع الأمن السياسي. وثمة نوع من القتل يمكن وصفه بالرحيم عبر التغييب القسري كما هو حاصل مع نائب بشار فاروق الشرع.

– إلى جانب مؤسسة العائلة ثمة مؤسسات رديفة وفاعلة، ويبدو أن القصد الأميركي كان مصوباً باتجاهها وهي:

ـ مؤسسة السجن: وتعتبر من أكثر المؤسسات فعالية ونشاطاً وطاقة إنتاجية، وهي وكر للإخفاء والقتل تحت التعذيب والخنق وترقيم الجثث. وهي مؤسسة منتجة بالفعل، بحسب معايير الفعالية والأداء، إذ أنها في أربع سنوات قتلت عشرات الألاف لدرجة انه صار لديها فائض «وكرّمتها» الأمم المتحدة بأن أقامت لها معرضاً في أروقتها يعرض منتجاتها، أما قدرتها التشغيلية فقد تجاوزت حدود المعقول والممكن، إذ إنها استضافت ملايين السوريين في أربع سنوات ووضعت شعارها على أجساد ونفوس هؤلاء جميعاً.

ـ مؤسسة الحرب، أو كما تسمى في سوريا مؤسسة الجيش، وهي من المؤسسات التي تعمل بما يفوق طاقتها الإنتاجية بأضعاف. ومن كثرة المشاريع التي تنفذها في الداخل السوري استقدمت عناصر عاملة من الجوار، وقد أنجزت هذه المؤسسة تدمير أكثر من خمسين في المئة من عمران سوريا الذي يبلغ عمره آلاف السنين، وقتلت مئات الالاف من المواطنين، فضلاً عن تشريدها أكثر من ثلاثة عشر مليوناً، وما زالت تستدرج المزيد من العروض للمناطق التي لا يزال فيها شبح عمران وسكان للعمل بداخلها. وينضوي تحت إطار هذه المؤسسة مؤسسة معامل الدفاع الوطني التي تنتج البراميل المتفجرة والكيماوي وغاز الكلور.

ـ مؤسسة الإعلام: بما تملكه من قنوات فضائية وإذاعات وصحف، تهلل ليل نهار للقائد الذي يحارب المؤامرة وسيهزمها عند القضاء على آخر سوري، وتزغرد لـ»رجال الله» الذين يعملون بانضباط على تنفيذ المجزرة.

وثمة مؤسسة أخرى قد يكون الأميركيون راغبين في الحفاظ عليها، هي مؤسسة الهجرة والجوازات والجنسيّة، والتي جرّدت ملايين السوريين من جنسياتهم بحكم الأمر الواقع نتيجة لرفضها تجديد جوازات سفرهم أو منحهم أوراقاً ثبوتية تثبت ولاداتهم وزواجاتهم، في حين ان هذه المؤسسة صار لها فرع في كل معسكر تطويع وتجنيد في إيران والعراق، حيث يأتي المتطوع ومعه جنسية وأوراق هوية وإثبات انه سوري من دون أن يمر على موظفي المؤسسة، ربما حتى لا يظهر «قيصر» سوري ويعرض لوائح مئات آلاف المجنسين.

باستثناء تلك المؤسسات، لا يلمس السوريون وجود أي نوع من أنواع المؤسسات، فالأمراض تنتشر بطريقة مرعبة ويسجل عودة أمراض انقرضت منذ سنين من دون وجود مؤسسة صحية تحوي هذا الوضع، وثمة جيل لم يعرف الكهرباء في سوريا، في غوطة دمشق الكهرباء مقطوعة منذ أربع سنوات، من كان عمره ما بين ثلاث إلى خمس سنوات لا يعرف اليوم ماذا يعني تلفزيون أو ثلاجة ولا حتى لمبة!.

لكن دعك من قائمة همومنا نحن السوريين المنكوبين، فهذه قد لا تعني شيئاً لمنظومة القيم الغربية وسلم أولوياتها. لكن هذا الانحراف الجديد في تعريف الدولة والمؤسسات، يشكل خطراً كبيراً على مكتسبات البشرية في الديموقراطية وحقوق الإنسان، بعد أن أصبح الشعب في التعريف المعاصر، أهم مكونات الدولة وامتلاكه الحق في اختيار من يحكمه وتغييره وصار مصدر السلطة وصاحب السيادة في الدولة. كما ان السلطة، مؤسسات وأجهزة، مكلفة العمل من أجل الشعب، سعياً للارتقاء بالدولة، لا ان تلغي الشعب وفق مقولة «الأسد أو نحرق البلد».

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى