جولان حاجيصفحات الثقافة

أنا البعيد أسندُ وحدتك


جولان حاجي

[صندوق الألم

أسندُك أيها الضعيف مثلي، أسندُك؛

لا كيدينِ تسندانِ ذقونَ الحكماء،

لا عاجزاً يُعينُ العَجَزة،

لا عكّازاً يطعنُ بهِ الأعمى

أوراقاً تساقطتْ على ضيقِ الأرصفة،

لا كرةً يتّزنُ عليها المهرِّجون

كأنها كوكبٌ أخير

يتدحرجُ على هذا الكوكبِ المجنون.

أنا البعيدُ أسندُ وحدتك

كسبّابةٍ ترتفعُ إلى خدِّ أرملة

مرتجفةٍ كالسهمِ في أوّلِ انطلاقته،

وعلى ذروتها تتلألأ بلورةُ ملح

تعودُ إلى العينِ التي ذرفَتْها

مغمورةً بالظلالِ والأجنحة.

لم تكنْ هناك، هذا الفجر،

حين أطلَّ المرضى والركابُ والجنود

برؤوسٍ صلعاء وحليقة

مثل أكواخٍ معتمة في نوافذ بعيدة.

ضبابٌ خفيف لم يمكثْ طويلاً

عبَرهُ الصبيُّ أمام بوّابةِ المستشفى

حيث وجدَ مسدساً ملقى على العشب.

لم تكن هناك.

الآن، أنت قصةٌ تُروى في مكانٍ لستَ فيه.

حلقك، صندوقُ الألم،

مليءٌ بالعظامِ والريش.

وفي بياضِ عينك

بقعةُ دمٍ صغيرةٌ وصدئة

كشمسٍ تغربُ في البعيد

فوق حقلٍ من الثلج

داسَتْهُ أرتالٌ طويلةٌ من الجنودِ الجوعى.

إذا دُفِنَ الموتى،

كيف سيُدفن الألم؟

ما جدوى أن تلعنَ اللعنة؟

ما أفدحَ الحياة

وما أثقلَ هذا الصمت.

ما أبطأ الكلمات

تسيلُ وتصدأ في دمِ الليل

أو تصعدُ كالنسغِ إلى غبار ِالأوراق.

غصونٌ تتشاجرُ وتهتزُّ

وما مِنْ ريح.

للتو، وحيداً مثلك،

مثل أمّنا، مثل هذه الشجرة،

رفرفَ طائرٌ آخر لم ترَه.

تمزّقَ بيتُ الصرخة.

ألماسةٌ تُشقّقُ زجاجَ العالم المتّسخ.

عيون

تصمتُ الريحُ هذه الظهيرة.

الستارةُ لافتةٌ محا الوقتُ حروفَها.

وراءها بؤبؤانِ يجوبانِ

زقاقاً خالياً

كخندقٍ طويل لإخصاءِ الموتى.

حوّاماتٌ تبتعد.

مظليُّون يُقْذَفون كنُطافِ المغتصِبين.

الحاضرُ عينٌ بُتِرَ جفناها.

النظرةُ تنزف.

الشمسُ، جنوباً، عينٌ لا ترحم

عينُ سيكلوبٍ محموم.

يدانِ على الشرفة تتلمّسانِ السياجَ المحمَّى

كالمتشبّثِ بقضبانِ قفصٍ

اختفى نصفهُ في السيرك.

الظلالُ التي تقلِّمُ زُرقةَ المنامة

لن تزولَ حين تُعاوِدُ الاختباء.

الظلالُ تسجنك.

الخريف، هنا، ساحر وكبير

إن عدتَ إلى أمك حياً

سترى قطرةَ الوشم زرقاءَ كالعطر،

سترى الفم

شقوقَهُ الدامية

الأسماءَ متقشِّرةً عن شفتيهِ المملَّحتين،

ستسمعُ اللسانَ الذي أنزلَ اللهَ

ليشمَّ بقايا الأرق في زوايا الغرف.

ستعود

جائعاً كفكرةٍ تخشى أن تموت.

وإذا فتحتَ أيَّ باب،

لتطمئنّ أو تغادر،

فتحتَ الحيرة.

ستدنو المرآة وتعلو.

كعدوّين قديمين

ستحدّقُ عيناك في عينيك.

حَسْرةُ الطفل

انتهى الفيلم.

كانت ألواحُ النجاة أغطيةَ توابيت

نجَتْ وحدها

طافيةً مثلَك يُؤرجِحها الموج

عادَتْ إلى الساحلِ الذي هربتْ منه،

مُثقلةً بالملح

رفعَها الصيّادون

وحملوا الغرقى إلى القُرى البعيدة.

بشعاعِ كسلٍ واحد

كان القمرُ يرقّعُ حضنَك

بفروِ قطٍّ يحسدُك وتحسدُه.

لمعَ الندى على شواربه،

قصَصْتَ نصفَها وهو نائم

وأحرقتَ بولاعتكَ الرخيصة النصفَ الآخر.

حدّقَ مفزوعاً،

كأنه سينشبُ مخالبَهُ في عينيك

أو سيعضُّ أوداجَك.

فرَّ ناجياً منك.

لمحتَ عراكاً يبدّدُ دخانَ المزبلة

ذيولاً منفوشةً كالمذنَّبات.

كان يعودُ،

يموءُ جائعاً مثلك تحت هذه النافذة،

كلما رميْتَهُ

في وادٍ جفَّ قرب الحدود

أو بين الشواهد على هضبةِ موزان.

هذه المرّة

ضلَّ الطريق ولم يعُدْ.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى