صفحات الناس

أنا بخير وجميع من حولي كذلك/ هزار الحرك

 

 

 

أنا بخير. قلبي طافح بالفرح، وتنتابني رغبة عارمة للضحك والرقص والغناء. وجميع من حولي كذلك.

أدليت أمس بصوتي لأنتخب رئيساً للبلاد، خلفاً للرئيس المستبد، بعد أن سقط ببضعة هتافات في مظاهرات واعتصامات، والرئيس كان مستبداً “وطنياً”، آثر الهرب على حرق البلد، والرئيس كان مستبداً “حكيماً”، فلم يحشر أبناء شعبه في مواجهة بعضهم البعض، لم يقسمنا نصفين، ولم يحلنا إلى مزق.

والرئيس كان مستبداً “رقيقاً”؛ خاف ثكل الأمهات وترمل الزوجات ويُتم الأولاد، لم يستخدم صاروخاً في ردعنا ولا دبابة ولا قنبلة ولا حتى رصاصة، لم يورط جيش البلاد العرمرم في معركة ضدّ نفسه.

والرئيس كان مستبداً “نزيهاً” أعاد أموال البلاد التي نهبها وعائلته وزبانيته إلى خزينة الدولة قبل أن يرحل، اعتذاراً لشعب تحمّلهم كعلقة تمص دمه لنصف قرن من الزمن.

أنا بخير وسأذكر فضل الرئيس المستبد الذي سقط ماحييت..وسيذكره جميع من حولي.

أنا بخير، القوى الثورية المسلحة والسلمية، لم تكن نسخة من المستبد وزبانيته، وكان خطابهم وفعلهم وطنياً وارتقى إلى مستوى الأمنيات والتضحيات، فلم يتطيفوا ولم يتباذؤوا، ولم يتحاصصوا ولم يتقاتلوا كأولاد الشوارع على مناصب وهمية، وكانوا خارقي الذكاء، فما لعبت بهم أجهزة المخابرات المحلية والإقليمية والعالمية، ولم يعرضوا بضاعتهم الثورية على “البسطات”، والتزموا مبادئهم فلم يحيدوا ولم يميلوا حسب الداعمين، لم يسرقوا أموال الإغاثة، ولم يفسدهم المال السياسي، لم يتاجروا بدماء الشهداء، ولم يتحولوا إلى أمراء حرب، والقصاص عندهم لم يكن على الهوية.

أنا بخير، وجميع من يخالفونني الرأي كذلك.

أنا بخير. الدخان الذي تصاعد من جسد بوعزيزي قبل أربعة أعوام، لم يذهب هباء في الهواء، يمكنني اليوم أن أنتقد من أشاء وما أشاء، أي رمز أو مقدس أو منصب، فللكلمة هنا سطوتها وسحرها. لا أحد فوق القانون، وأنعم بالأمن والسلم والرفاهية، لا حوثيون يقضون مضاجعنا، ولا داعشيون يرهبون مشروعنا، ولا عسكريون انقلبوا على الشرعية، ولا فلول يدكون أحلامنا، ولا أذرع إيرانية تحت أسماء وهمية.

أنا بخير أتنعم في واحة الديمقراطية والقانون والعدالة، وجميع من حولي من المحيط إلى الخليج كذلك.

أنا بخير، فالعالم “الحر المتحضر” كان مسؤولاً، على قدر شرعة حقوق الإنسان التي طنطن بها رأسنا، وعلى قدر الديمقراطية التي مافتئ يذكرنا بأنه مخترعها وحاميها ومرسخها، وعلى قدر الاتفاقات والمواثيق والعهود والقوانين الدولية، التي أنشأ لكل واحدة منها بناء، ووظف لأجلها آلاف الموظفين، وخصص لها ملايين الدولارات مصروف جيب.، فلم نمت جوعاً ولا عطشاً ولا برداً ولا غرقاً ولا تحت التعذيب.

أنا بخير، وجميع ضحايا التعذيب من حولي بخير.

لم يُقتل البارحة في سورية خمسون في إدلب قصفاً واختناقاً ببراميل النظام، ولم يُقتل البارحة في سورية خمسون في السلمية ذبحاً بسكاكين داعش أو حرقاً ببراميل النظام، لم أستيقظ اليوم على أم تودع رضيعتها في سرمين بعد أن قتلها الرئيس المستبد، لم يفطر قلبي عويلها إذ تقول: “يا إمي إنتي. ماكنت مفكرة إني جايبتك لموتك، سلميلي على خوالك أدهم وياسر وشعبان وعمار وزياد وصبحي وأحمد. يا أدهم بعتلك علا”.

لن تطاردني ابتسامة لمى هابيل في جامعة دمشق، إذ كانت تحلم يوماً بمستقبل جميل في هذا البلد اللئيم.

أنا بخير، وجميع السوريين الذين لم يبق أحد منهم حولي. جميعهم بخير. كنت أكذب على نفسي طوال هذا اليوم.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى