صفحات الناس

أنا سوري “يابنجي”/ عدنان نعوف

 

 

“أنتمي إلى حضارة قدّمت للعالم الأبجدية الأولى”.. لعل هذه الفكرة هي آخر ما سيطالعك كسوري في بلاد الشتات، أو ربما لن يَمُرَّ في خاطرك من الأساس بعدما دفعتك متطلبات اللجوء لنسيان المقولات الكبرى والتركيز على ما هو مفيد من حفظ مفردات وعبارات أجنبية تعينك على تأمين احتياجاتك اليومية.

والحال أن هذه المقاربة لا تعود بالضرورة إلى اصطدام الفكرة المجردة بالواقع أو إلى ازدراء الذات بلا مناسبة، وإنما إلى صعود ما هو أشبه بابتكار “أبجدي” سوري من نوع مختلف في تركيا.

وهذا الابتكار ليس سوى أسلوب تواصل شائع إلى حدّ ما، ليس لديه ألفبائه الخاصة بل هو مزيج من كلمات عربية وتركية وأحياناً انكليزية بالإضافة لحركات اليدين والإشارات وإيماءات العيون في بعض الحالات.

وباعتماد السوري على معرفته بوجود قواسم مشتركة بين اللغتين العربية والتركية، فإن ألفاظاً من قبيل (إعادَة  tekrar ، تمَام tamam ، اسم isim) ترافقه في العديد من المواقف وتبقى معه كأعمدة أو هيكل لبنائه اللغوي الجديد، لكن ولفترة طويلة تدفع للتساؤل متى سيحين موعد إكساء هذا البناء؟

ولو أجرينا إحصائية عن أكثر الكلمات استعمالاً من قبل السوريين مع الأتراك فإن هناك احتمالاً كبيراً لاحتلال كلمة “يابنجي” yabancı أي “أجنبي” أحد المراكز الأولى كونها تشكل بطاقة تعريفية مختصرة للشخص عن نفسه، وحلاً سريعاً لدى شريحة واسعة للهرب من المواقف المحرجة، والردّ على الأسئلة والجُمل الطويلة بكلمة واحدة تجعل صاحب السؤال يعذرك وينصرف عنك مباشرة عند إدراكه بأنك غريب عن البلد ولا يمكن التفاهم معك.

وبالحديث عن العوامل التي تسببت بإحجام السوريين عن اللغة التركية وجعلتهم يكتفون بالأساسيات رغم مرور سنوات على وجود البعض منهم هنا، فإن عدم الشعور بالاستقرار يمثل العامل الأبرز ولا شك.

ورغم انتهاء دور تركيا بوصفها محطة للانتقال نحو أوروبا عقب توقف حركة الهجرة وإغلاق الحدود، فإن ذلك لم يغير الشيء الكثير تجاه اكتساب اللغة التركية. فالحافز مفقود لدى غالبية من السوريين الذين لا يملكون تصوراً واضحاً لمستقبلهم، ولا يعرفون إن كانوا سيبقون في تركيا أم سيغادرون. وهذا ناجم عن وضعهم القانوني الذي لا يزال ضبابياً يحكمه ما يسمى بـ”الحماية المؤقتة” وبالتالي فهم ليسوا لاجئين فعلياً، وسعيد الحظ منهم من يحصل على إقامة سياحية أو إقامة عمل في أحسن الأحوال.

“اتمنى لو تعلمت اللغة التركية بشكل جيد كي أتواصل مع هذا المجتمع”، يقول إياد بكلمات مَشوْبة بالانفعال والسخط على واقع سلبي يعيشه، كما سوريين كثر في اسطنبول. ويضيف:”لو كان وضعي مشجعاً لكنت أتقنتها خلال السنتين اللتين قضيتهما هنا، لكني أتوقع دوماً قرارات أسوأ قد أجد نفسي معها مضطراً للمغادرة”.

وبدلاً من ذلك سعى إياد إلى تعلم لغات أوروبية أخرى، كالإيطالية، لتساعده في عمله كمترجم، وظل مقتصراً على إمكانية التفاهم بالحد الأدنى مع الأتراك بما لديه من مخزون بسيط.

أما حازم، الذي يعمل في ورشة كهرباء، فهاجسه تأمين قوت يومه، وهو لا يستطيع التفرغ لدراسة اللغة التركية رغم حاجته لها، نظراً لأنه يعمل لساعات طويلة. وخلال سنة من الزمن لم يتعلم سوى القليل بمساعدة “يوتيوب”، ولم يسجل في دورات لأنها غير مجانية.

ويذهب حازم أبعد من ذلك في توضيح خياراته، فحتى لو أتيحت له إمكانية دراسة اللغة التركية فإن اهتمامه يبقى بالحفاظ على مستوى جيد في الانكليزية لأنها كما يقول “عالمِية وأينما ذهبتَ تستفيد منها وليس في بلد واحد وحسب”.

ويبدو الوضع مختلفاً مع ديما، التي كانت تسكن في مدينة أضنة سابقاً، حيث لا يتحدث الناس سوى لغتهم الأم، فوجدت نفسها مضطرة إلى تعلم التركية. تركت عملها في مدارس اللاجئين وتفرغت لدراسة هذه اللغة في أحد المعاهد، بعدما اقتنعت بأن وجودها في هذا البلد لن يكون مؤقتاً. ومما زاد من عزمها على التعلم، إحساسها بالمسؤولية تجاه أبيها وأمها اللذين يقيمان معها حالياً في اسطنبول ولا يمكنهما التواصل مع الغرباء.

وعلى خطى ديما، سارت نسمة التي لم يمضِ على إقامتها في اسطنبول سوى تسعة شهور، واظبت خلالها على تعلم التركية كي تحصل على فرص أكبر مستقبلاً وتكون جاهزة للعمل مع أتراك بشروط أكثر أماناً من الناحية الوظيفية.

“يكلف المستوى الواحد في المعهد 340 دولاراً، وبالرغم من توافر دورات برسوم بسيطة إلا انك ستدفع بكل الأحوال”.  تُولي نسمة تعلم التركية اهتماماً والتزاماً للوصول إلى مرحلة متقدمة، على عكس شريحة واسعة من السوريين المحكومين بالعامل الاقتصادي. وبرأيها فإن انعدام الخيارات أمام من لا يستطيعون مغادرة تركيا إلى بلد آخر، أو العودة إلى الوطن، ينبغي أن يكون دافعاً لهم لإجادة اللغة التركية.

لكن، وبالنظر إلى تجارب الآخرين، فإن ارتباط حوافز اللغة، عند السوريين، بمدى استقرارهم، لا يمثل استثناء، كما تلفت الأستاذة الجامعية التركية والباحثة في علم الاجتماع، شناي أوزدن: “فالجيل الأول من المهاجرين الأتراك في ألمانيا عاش واقعاً مماثلاً ولم يتعلم اللغة الألمانية، على عكس الأجيال اللاحقة التي التحقت بالمدارس هناك”. وفي حديثها إلى “المدن” لا تشخّص أوزدن الموقف من اللغة التركية باعتباره نتيجة فقط، وإنما أيضاً كسبب يؤدي إلى سلوكيات معينة: “فهناك سوريون يريدون أن يعود أبناؤهم إلى الوطن، فيرفضون أن يتعلم أولادهم التركية كي لا تقف حائلاً أمام العودة”. وبالإضافة لذلك، فإن أهالي الأطفال السوريين يرسلونهم إلى مدارس سوريّة، مع أن التسجيل في مثيلتها التركية متاح لهم، رغم وجود بعض العراقيل. كما أن هناك عاملاً آخر يتمثل في اضطرار قسم من هؤلاء الأطفال إلى العمل بدلاً من الذهاب للمدرسة”.

ولا تنفي أوزدن تأثير الوضع القانوني الملتبس للسوريين، ودور الحكومة التركية التي لا تتبنى سياسة إندماج، غير أنها ترى جانباً آخر للمشكلة: “فلدى بعض السورين نظرة استشراقية تجاه اللغة التركية.. لا يشعرون أنها تستحق التعلّم، بينما يُعلُون من شأن اللغات الأوروبية، كونهم يعتبرون أن كل ما يتعلق بالغرب هو الأفضل”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى