صفحات الرأي

“أنا ضد بشار وضد الثورة”/ دلال البزري

 

 

هو مثقف “كبير”، أو متوسط. معادٍ لبشار الأسد. دخل السجن أحيانا ثمناً لهذا العداء. علماني، أو يساري، و”تنويري”، في كل الحالات. ولكنه في الوقت نفسه معادٍ للثورة؛ وحزين جداً، على المأساة الإنسانية التي خلّفتها… هذا هو “البورتريه” التبسيطي لفئة من المثقفين السوريين، يتفاوتون بالحظوظ، ولكنهم يجتمعون كلهم تحت تلك الراية الممزَّقة التي رسموا عليها شعار: “أنا ضد بشار وضد الثورة”.

“القاعدة” الفكرية المدعِّمة لـ”موقف” هذه الفئة هي ما إستخلصته من قراءاتها عن ان أية ثورة لا يمكن ان تنجح إذا لم يكن لها “قائد كاريزماتي”، وحزب مركزي، وعقيدة “صلْبة”: نموذج الثورة البلشفية، أو الإيرانية.

هم لا يجهرون دائماً بهذا الثلاثية، فقط يبطِنون بها “خلاصات” مراقبتهم لوقائع الثورة، فيستنتجون “نقدهم” لإندلاعها ضد بشار، ومواصلة طريقها من دون برنامج محترم، يجدر حمله. ويغرفون من قوتِها ما يمكنهم من التركيز على الكتابة عن “أخطاء” المعارضة السورية؛ وهذا مجال يسهل فيه اصطياد المآخذ على الثورة. هكذا، وبأفدح الأخطاء وأضعفها، ينسج المعارض المتعفّف خيوط لاموقفه؛ كيف تطلب منه، بعد ذلك، هو الذي سُجِن ذات مرة، هو الذي يعارض بشار، ان يغمس يديه بهذه القذارات السياسية الحمّالة أوجهاً لا تُحصى من البشاعة؟

فتعاقُب إنحرافات الثورة، وتبعية الثوار، وتجاوزاتهم وجرائمهم وسرقاتهم، وضعف رؤيتهم، وغوصهم في وحول مصالح الدول العظمى والمتوسطة؛ باختصار، وقوعهم في المحظورات الثلاثة التي نبّهت اليها الثورة في بدايتها، العسْكرة والتطييف والخارج… كل هذا جعل مثقفينا ينْفرون منها، يشمئزون من انحرافاتها وتجاوزاتها، ويجافون “المعارضة” التي تمثلها، فينقضون عليها بالمواعظ والدروس السياسية: لم يكن عليها أن تقوم بكذا وكيت من المبادرات، وكان عليها أن تقول كذا وكيت…

وخلال إطمئنانهم إلى صحة مواقفهم، بإبراز مطبّات الثورة وممثليهم المفترضين، ينسون بشار ونظامه، ينسون انهم هم أيضا معارضون له، يواصلون “تحليلاتهم”… فلا ينتبهون إلى انهم، وربما،  يصطفون خلف مواقفه، وخطبه وتصريحاته. يطمئنون إلى الروس، يضعون ثقتهم بهم، هم الذين، وبدقتهم العلمية وموضوعيتهم، سوف يحمون سوريا من الإرهاب؛ أو ينتقدون بشدة علاقة المعارضة بأقطاب إقليمية، أو برنامجها للمرحلة الإنتقالية… متناسين ان الذي أطلق كل الديناميكيات المدمّرة للثورة هو بشار الأسد نفسه، متجاهلين مهمتهم كمثقفين، القاضية في أقل الأحوال، بفتح العيون على الوقائع الحية، بطرح الأسئلة عليه، لا بتثبيت الألاعيب والأفخاخ.

المثقفون أصحاب هذه “الملَكات” الفكرية الخاصة، يستحضرون، من دون أن يقصدوا، معنى أن يكون المرء مثقفاً: أي أن تكون مهمته، أو دوره المفترض، هو”التفكير”. هذا تعريف بعيد عن لقب “المفكر”، أو “المثقف المفكر”، الذي لا معنى له، إنما هو مجرد تكرار تفخيمي يحبه أصحاب الألقاب؛ وقصدهم أن يقدَّموا على انهم وحدهم يفكرون، وسط جماهير من المثقفين الذين “لا يفكرون”.

المهم ان فعل التفكير غائب تماماً، ومن دون جهد، عن عقل مثقفينا. فهم، يرْتضون هذا الشلل الفكري، ذاك “الدفء” الفكري، الذي يضعهم في صندوق ضيق أسود، لا نوافذ بداخله، ولا أبواب؛ صندوق يملي عليهم “نسيان” معارضتهم لبشار، التي يقحمونها من طرف شفاههم، لتبرير “نقدهم” للثورة. كأنهم بذلك يدعمون بشار من دون أن يدروا، من دون أن ندري.

ولكن الأهم من ذلك، ان هذه الفئة من المثقفين، بقعودها هذا، تمدّ الإستبداد بحياة ثانية، تمدّه بالوقت، وباستمراره في القتل؛ ثم تزيد من شرعية “الجهادية” و”الإرهابية” وسط المعارضة؛ فتخْلي بذلك الساحة الثورية من التفكير، أو من الجرأة على التفكير. صحيح ان “المهمة” صعبة والمعادلات كلها لا تنذر بغير المزيد من التعقيد. ولكن لهذه الأسباب بالذات، تحتاج الساحة إلى خصوبة التفكير، لا إلى عقم فكر كسيح، يختبىء خلف أصبعه التنويري، لكي يستر رخاوة سريرته الصخرية، الداعمة العميقة للإستبداد.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى