صفحات الرأيمحمد تركي الربيعو

أنثروبولوجي في المترو: الكشف عن الفكر «البري» في عوالمنا المعاصرة/ محمد تركي الربيعو

 

 

يعد الأنثروبولوجي مارك أوجيه واحدا من أهم الأنثروبولوجيين الفرنسيين الذين انشغلوا في العقود الماضية بدراسة تنوع ميادين الأنثروبولوجيا، بدءا بالدين، والأدب، والسياسة، وصولا إلى ابتكار حقول جديدة، أو توقع ظهور ميادين جديدة تمارس فيها الأنثروبولوجيا. وقد صدر له ضمن هذا السياق عدد من الكتب والأبحاث المهمة التي ترجم بعضها للعربية، نذكر منها على سبيل المثال كتابه «أنثروبولوجيا العوالم المعاصرة» الصادر مؤخرا بترجمته العربية عن دار الروافد الثقافية، و»مدخل إلى الأنثروبولوجيا» الذي أعدّه بالتعاون مع السينمائي والأنثروبولوجي الفرنسي المتخصص في تاريخ أفريقيا جان بول كولاين (دار المدار الإسلامي)، وكذلك كتابه عن «مهنة الأنثروبولوجي: المعنى والحرية» الذي ترجمه إلى العربية الأنثروبولوجي التونسي محمد الجويلي (الدار العربية للعلوم).

ولعل أهم ما يجمع بين دراسات أوجيه السابقة، هي إشارته المتكررة إلى أن المفارقة التي يعيشها الأنثروبولوجي اليوم تكمن في الحيرة التي يشهدها حقل الأنثروبولوجياعلى مستوى الآخر والميدان. فقد كان البدائي (الآخر) في السابق موضوع هذا العلم، أما اليوم فإن كل أساليب الحياة وهموم الثقافة أصبحت مواضيع مهمة عند الأنثروبولوجي، خاصة أن بعض التجارب اليومية أخذت تدعونا إلى استبدال ما كنا نسميه «الغيرية البعيدة» بمفارقة «الغيرية القريبة» التي تعني أنه في كل مجتمع هناك آخرون، حتى أنه يمكن القول إنه ليس هناك إلا هؤلاء.

ضمن هذا السياق، يرى أوجيه في كتابه «أثنولوجي في المترو» ترجمة محمد الجويلي، أن تجربة المترو اليوم تعد واحدة من التجارب اليومية التي توفر لنا التعرف على مستوى «نسف الأحكام المسبقة عن الثقافات الأخرى وللحدود التي وضعتها الأنثروبولوجيا الكلاسيكية بين المدنية والتوحش»، لأن تجربة المترو تساعدنا على أن نمارس طقوس العبور، سواء على مستوى الأمكنة والذاكرة، أو على صعيد الانتقال في التحليل من مستوى «المترو الرمز» إلى مستوى «المترو الرمزي»، مقتفين بذلك خطوات عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس حول «الأنظمة الرمزية». فحتى نمر من نشاط إلى آخر، لا بد أن يتوفر لنا الزمن والمكان، غير أن تغيير النشاط هذا في أوقات محددة ليس مجرد تغييرات تقنية فحسب، بل هو تغيير على مستوى الأدوار وعلى مستوى الحياة اليومية أيضا، كما في حالة المرور من حياة نصفها بالمهنية إلى حياة ننعتها بالخاصة، ذلك أن «هناك طبيعة تخييلية ترتبط في الوقت نفسه بالفرجة التي يوفرها المترو، بصفة خاصة في الأروقة التي يغير فيها المسافرون اتجاههم وخطوط تنقلهم، مثلما نغير النظام والممارسات الرمزية بتغيير نمط العيش في أوقات منتظمة». ومن هنا وبالنسبة لأوجيه، فإن «الأنظمة الرمزية» عند شتراوس، تعني له في سياق تتبع لحياة المترو، إن الجسد الغربي الذي ظن في يوم من الأيام أنه قد برأ من أوهام وسلوكيات الآخر البدائي، ما يزال يعيش ويعتمد في جوانب عديدة من مؤسساته وحياته وخطوطه اليومية على منطق «الفكر البري» (وفق تعبير شتراوس) لذاك البدائي.

طقوس الجماعة داخل المترو

كان دوركايم – بحسب أوجيه- قد جعل من إعادة التذكر والاحتفال مصدرا للمقدس وشرطا من شروطه. فهو يرى أنه ليس ثمة مجتمع «لا يشعر بالحاجة في فترات متباعدة ومنتظمة إلى رعاية المشاعر والأفكار التي تشكل وحدته وشخصيته وتثبيتها». ومن هذه الزاوية فإن الاحتفالات المدنية لا تبدو بالنسبة إليه مختلفة في طبيعتها عن الاحتفالات الدينية الصرف. غير أن هذه الاحتفالات تكون دائما في نظر دوركايم احتفالات ذكرى، أعياد الذاكرة الجماعية وهو ما يعبر عنه بالقول «إن المأوى الوحيد الدافئ حيث يمكننا أن نلتمس دفئا معنويا هو المأوى الذي يشكله مجتمع بني جنسنا» غير أن ما يمد هذا المأوى بالحرارة هو الماضي المشترك الذي نرعاه وننشطه ونحيي ذكراه». وبالعودة إلى مسار المترو، فقد بدا هذا المسار بالنسبة لأوجيه وكأنه احتفال مدني مقدس بعبادة السلف، خاصة أنه يندس في حياة راكبيه وتاريخنا من دون كلل أو ملل، وهو يغدو ويعود بلا انقطاع بين الرجال العظام والأماكن التي نفتخر بها واللحظات التاريخية المهمة. كما أنه للمفارقة كلما ابتعد المترو عن قلب العاصمة بدا وكأنه قد ضل وجهة التاريخ والذاكرة، ليلتجئ إلى الطوبوغرافيا، وأحيانا إلى أسماء تتعلق بالحدود وبالرحيل مثل باب باريس، سان دوني.

كما بدا لأوجيه، بأنه للذهاب من مكان إلى آخر، فإن المسلك الذي نوفر فيه أقل جهد للوصول إلى غايتنا يحسب بسهولة. غير أن خريطة المترو تظل لا غنى عنها للتنقل تحت الأرض، كما أن التعابير التي تتوسل بها للمارة يعبر عنها بالطبع في ألفاظ مألوفة تؤكد في الوقت نفسه على عمومية الرسم وعلى آلية تنفيذه والطابع التكراري لاستعماله. ففي المكتوب تمنح صيغة المصدر الطلبية لهذه الألفة طابع القاعدة (للذهاب إلى قوس النصر يحبذ مثلا اتجاه بورت أوتوي ـ بولون ثم يقع تغيير الاتجاه في محطة لاموت– بيكيه للنزول في محطة شارل ديغول إيتوال).

هذا التعبير –بحسب أوجيه- بقدر ما هو لغة الدلائل بشتى أنواعها، فهو أيضا لغة الطقس الكهنوتي علاوة على أنه لغة وسائل مؤلفات السحر. كما أن التعليمات والموانع التي نلحظها داخل المحطات مثل «ممنوع التدخين، ممنوع المرور» تساهم (لحسن الحظ) بطريقة ما في تدوين مسار الفرد ضمن رفاهة الأخلاق الجماعية، وهنا تكمن نموذجيتها لما يمكن أن نسميه بالمفارقة الطقسية: فهذه التعليمات تمارس بطريقة فردية وذاتية، ووحدها المسارات الفردية تمنحها واقعية، ومع ذلك فهي تكتسي صبغة اجتماعية هائلة. فهي نفسها للجميع، كما تمنح لكل واحد هذا الحد الأدنى من الهوية الجماعية التي بواسطتها تعرف جماعة نفسها.

لغز الهبة داخل المترو

من جانب آخر، يتطرق أوجيه لظاهرتي الموسيقيين والمتسولين داخل محطات المترو، حيث يلحظ تزايد وجود العديد من الشباب المحترفين الذين يأتون للمترو بغية التدرب والحصول على المال. وهنا كثيرا ما تحدث الموهبة فرقا، لأن المسافرين يجدون صعوبة كبيرة في التملص من منح العازفين المال عندما يستشعرون جمال الصوت أو مهارة العزف على آلة موسيقية، بيد أن معنى العطاء هنا – بحسب أوجيه- لا يأخذ معنى الصدقة، بمقدار ما يبدو وكأنه تعويض عادل عن موهبة يعترف بها البعض والكثير من الناس يخضع لها، عطاء مجاني أيضا، عطاء السعادة واللحظة المرحة (طبول أفريقية وموسيقى الجاز)، عطاء شبيه بالصدقة التي حللها موس في كتابه «لغز الهبة» والقائمة على فكرة التضامن.

من جانب آخر، يرى أوجيه، أن المتسولين قد فهموا شيئا من هذا البعد الأنثروبولوجي للعطاء ولذلك لم يستمروا بالتسول كما في السابق، بل أخذوا يستبدلون السؤال الشفوي المرتل الموزون بقطعة من الورق المقوى مؤسسين بذلك لكدية «في صمت» وهذا يذكرنا ببدايات المبادلة التجارية مع الشعوب «البدائية» مع فارق استخدام الكتابة «أنا خرجت لتوي من السجن ولا أعمل». هذا المتسول الجديد ليس ضريرا ولكنه بدون عينين، هو عديم الخطاب والشغل: سلبية خالصة، ينادي من غير صوت، فقط أولئك الذين يرغبون في «أن ينادَوْا» والذين يشعرون بأنه تمت مناداتهم «بطريقة ما». هؤلاء المتسولون هم ليسوا ما نحن عليه، هم حجة على أننا نشترك مع الآخرين (على الأقل) في مبدأ الضدية. فهم لا يرتبطون بالمواثيق نفسها التي نلتزم بها ونقبل قواعدها (قانونية، فنية، أخلاقية، اقتصادية…) وبقطعهم كل حبال مراكبهم، لم يعد لهم أي رابط مع العالم ما عدا النص غير الموثوق به الموضوع حذو أقدامهم والمكتوب أحيانا على الرصيف. وبرأي أوجيه فإن ما يثيره هؤلاء فينا داخل المترو هو سؤال المقدس (عالم الأموات)، لأنهم يظهرون وكأنهم يمثلون التخوم، /ما لا يمكن تجاوزه/، ما لا يمكن اختراقه، هم أشبه ما يكونون بالأموات، ورفض العطاء لهؤلاء الأموات هو نوع من الإرادة الواضحة والفورية التي تعبر عن رغبة أصحابها في البقاء داخل التخوم، لا متسولين نكرة ألقي بهم على إسفلت أروقة المترو وليس أكثر من ذلك.

الجنسانية والمترو

في المحطة ذاتها، وفي كل أرصفة المترو الموجودة داخلها، وفي كل الأروقة، نعثر على الملصقات التي تحاول بوسائل مختلفة لفت انتباه العابرين وشده. إلا أن ما يلفت نظر أوجيه في هذه الإعلانات الإشهارية هو ما يتعلق بمحتوى الإعلانات، وما الموضوعات والأشكال التي تحظى بمكانة خاصة في المترو مقارنة بالأماكن الإشهارية الأخرى.

وبحسب أوجيه، يمكن أن نفترض أن الاختلاف الأساسي يستند إلى الطبيعة الثابتة للصورة التي تعرضها وسائل الإعلام السمعية – البصرية. هذا التفريق يظل مع ذلك نسبيا آخذين في ذلك بعين الاعتبار، إنه في المترو وعلى خلاف التلفزيون، فالمتفرج هو الذي يمر، أما الصورة فهي باقية. كما يمكن أن نتساءل كذلك إذا ما كانت خصوصية الصور والإعلانات التي تعرض في المترو، تستمد مدلولها من وجودها تحت الأرض. فقلما ينظر إلى الصورة المعروضة في المترو عدة مرات، مثلها في ذلك مثل الصورة التي تعرضها المجلات الأسبوعية. كما أنه غالبا ما تتشكل معها علاقة مريبة، بل عابرة ومبهمة التستر، علاقة مداهنة وتواطؤ مشبوه. فالإعلان، عندما يعرض صورا للجسد والملابس الداخلية والألبسة النسائية يحاول إقناعنا بأنها ضمن خانة الجمالية، في حين أن هذه الصور تستشعر وبقوة باعتبارها استفزازا جنسيا، وبوصفها دعوة إلى الاغتصاب، تماما مثل الأفواه «اللبابية»، التي تدعونا إلى تذوق طعم نوع من الشوكولاتة أو الإعجاب بنوعية معينة من أحمر الشفاه.

كما أن هذه الإعلانات غالبا ما تعطي الجسد أبعادا جديدة من خلال تشكيل متخيل جديد للعيش وللسعادة عندما يتم ربطه بمواضيع أخرى، مثل التمتع بمحاسن بلدان كالمغرب واليونان والتنعم بدفء شموسها والضمانات والسكينة التي تعد بها أناسا في مقتبل العمر ومفتولي الأجسام مثل الممثلين الأمريكيين، مثلما تعد بالمساكن النموذجية التي توفر الصحة والطمأنينة على البسط الخضراء وتظهر من جهة الحديقة، جسدا بهيا وسليما، تمثلاته الأكثر حميمية تعبر من جهة الفناء عن تهيئة للمتعة والرغبة. وكما هو الشأن في المجتمعات (البدائية) التي فضّل علم الأنثروبولوجيا دراستها، فإننا أصبحنا اليوم أكثر إحساسا بمظهر الكائنات والأشياء، الذي وحده قابل لأن ينتج معنى، كما صرنا أكثر إحساسا بنبرة الصوت بشكل أكبر من محتوى الخطاب، وبحزم النظرة أكثر منه بحزم الفكر..

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى