صفحات الحوار

أنطونيو سكارميتا: أمتدح مشاركة المثقف في العمل السياسي

 

 

أحمد عبد اللطيف

في عام 1940، وبمدينة أنتوفاجاستا، سيولد في تشيلي أحد أعظم كُتّابها في القرن العشرين: أنطونيو سكارميتا. ينتمي سكارميتا إلى عائلة من أصول كرواتية، لكنه لم يشعر بالانتماء إلا لتشيلي، لهويتها وأزماتها واضطراباتها التي عاشها يومًا وراء يوم، وتورط حتى في العمل السياسي بها. تشيلي الحاضرة دائمًا في أدبه، وكُتّابها، أمثال نيرودا، الذين تركوا فيه الأثر الأكبر. تشيلي التي ظل مصرًا على ديمقراطيتها ودافع، حتى اللحظة الأخيرة، عن رئيسها اليساري المنتخب سلفادور ألليندي، ثم أصابه ما أصابه من إحباط عقب الانقلاب العسكري عليه، وقرر الهجرة إلى ألمانيا بعد أن باتت محاولاته محض هراء أمام سلطة لا تعرف إلا السجن والتصفيات الجسدية، ولم يعد لبلده إلا بعد رحيل الجنرال بينوشيه. مع ذلك لم ينفصل عنها أبدًا. ظلت تشيلي، بأماكنها وشخوصها واضطراباتها، أبطاله وأسئلته. فكانت أعماله تمجيدًا لها، من “ساعي بريد نيرودا” إلى “رقصة النصر”، ومن “فتاة الترومبيت” إلى “ثلج يتأجج”.

يُعرف سكارميتا في العربية، بأنه روائي فقط، رغم أنه كاتب مسرحي أيضًا، وكاتب أدب أطفال. بالإضافة لذلك، سينمائي، إذ كتب السيناريو لعدة أفلام، كما عمل مخرجًا لأفلام أخرى، وشارك في تمثيل خمسة أفلام أيضًا. وهي الوجوه الأخرى التي تعكس ولهه بالفن، أيًا كان تصنيفه وأيًا كانت وسيلته.

درس سكارميتا في كلية الفلسفة والتربية بجامعة تشيلي، ثم أعد رسالة ماجستير في سردية خوليو كورتاثر، بجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، حيث درس هناك المسرح والموسيقى، ثم كانت رسالته، الدكتوراه عن فيلسوف إسبانيا الكبير، أورتيجا إي جاسيت. خلال هذه السنوات انضم، كمثقف يساري، إلى حركة العمل الشعبي والوحدوي.

يعتبر انقلاب بينوشيه على الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي، هو الحدث الفاصل في حياة سكارميتا، هو الإعلان الرسمي لهزيمته الشخصية، إذ لم يكن الانقلاب على الديمقراطية وبناء دولة يتمتع فيها المواطنون بحرية الحركة والتعبير والاختيار إلا طعنة في قلب مبادئه ونضاله. يقول “أريد أن أذكّر القراء أنه في عام 1973 حدث انقلاب في تشيلي بعد أن اختار المواطنون رئيسًا منتخبًا ديمقراطيًا بثلاث سنوات، عواقب هذا الانقلاب كانت بلوغ القمع درجة إرهاب الدولة ضد أنصار ألليندي، الرئيس المعزول، ما أدى لهجرة كثير من التشيليين”.

– نعم، لكن كيف رأيت وعشت هذا الحدث؟

– إن كنت تعرف وتريد أن أتحدث عن ذلك فهذا تأكيد لي على أن حدثًا قد وقع منذ نصف قرن تقريبًا وفي دولة تشيلي البعيدة جدًا عن العالم العربي، قد ترك أثرًا في الذاكرة العالمية.

يحكي صاحب “عرس الشاعر” عن مرحلة هي الأقسى في تاريخ تشيلي “بالإضافة للقمع المكثف الذي مورس ضد الناس، تميزت حكومة الجنرال بينوشيه بخصخصة كل الثروات التشيلية، لتضعها بذلك في يد تجار جشعين لم يجدوا أي مشكلة في قبول الانتهاكات الممنهجة ضد حقوق الإنسان”.

رقابة واغتيالات

لملم أنطونيو سكارميتا أشياءه، وكان في الثلاثين تقريبًا، وهاجر إلى برلين بعد أن تحولت تشيلي لأتون متأجج، وبعد أن فُرض حظر تجوال استمر بعد ذلك لأكثر من 12 عامًا، لم ير فيها التشيليون الليل إلا من نوافذ بيوتهم. في سن الـ 77 يتذكر أحداثًا تبدو بعيدة، لكنها قريبة جدًا من الذاكرة: “بعض الكُتّاب اختاروا المنفى وطوروا أدبًا ذا تأثير على المستوى العالمي. لكن هناك أيضًا من واصلوا حياتهم في تشيلي وقدموا منجزًا فنيًا راقيًا، لكنهم عرّضوا أنفسهم للمخاطر وكيّفوا أصواتهم على بلاغة خاصة تواصلوا من خلالها مع قرائهم، وخاصة مشاهديهم المسرحيين”.

– وكيف كانت الرقابة حينذاك؟

يقول “كل النصوص كانت ضحية لمقص الرقيب، لكن أماكن العرض أيضًا تعرضت للحريق، والمؤلفون تلقوا تهديدات بالقتل. وبالفعل ثمة صحافيون اغتالهم النظام خلال تلك الفترة”.

ثم عاد إلى بلده في أوائل التسعينيات، بعد تجربة مثمرة ومريرة في ذات الوقت في بلد المنفى، تجربة استغلها الروائي التشيلي ليمارس فنونه المحببة: الكتابة والسينما. وكيف ترى الأوضاع الآن؟ يجيب “يبدو لي أن السياسة التشيلية ما بعد الديكتاتورية تسير في طريقها السليم. ثمة انتخابات حرة ومنتظمة، ثمة برلمان لتشريع القوانين جاء أعضاؤه جميعهم بتصويت حر وعالي الشفافية. يضم هذا البرلمان أعضاءً متنوعين، ما بين محافظين وليبراليين ويسار ديمقراطيين بل حتى وشيوعيين. لقد طورت الديمقراطية الاقتصاد ما استحقت عليه مديحًا دوليًا كبيرًا وطُبقت بنجاح لافت، لكنه جزئي، في تقليل الهوة بين الأغنياء والفقراء. بالإضافة لذلك، هناك إصلاحات ضريبية، وإصلاحات في السياسة التعليمية، وفي الدستور، كل ذلك من أجل تثبيت قيم الديمقراطية”.

يضيف سكارميتا “أغلب حكومات ما بعد الديكتاتورية كانت من الوسط-اليسار. ومنذ سنوات قليلة حدث تغير حين فاز اليمين على الوسط اليساري وراحت الحكومة لرجل الأعمال سيباستيان بينيرا، الذي اقترح أفكارًا مختلفة، لكن بشكل عام تسير السياسة بخطى ثابتة وتتبع بعض الثوابت، بغض النظر عن الحزب الحاكم. ومع الرئيسة الحالية، ميتشيلي باتشيليت، استعادت الدولة طابعها الوسط اليساري. وخلال هذا العام ستقام الانتخابات الرئاسية، ونتائجها متوقعة بنسبة عالية”.

المثقف والسلطة

كيف يرى صاحب “ساعي بريد نيرودا” العلاقة المثلى للمثقف مع السلطة؟: “أرى حسنًا أن يحتفظ المثقف باستقلاليته بعيدًا عن نواة السلطة، لكني أيضًا أمتدح مشاركته في السياسة. منذ سنوات وأنا أرى بوضوح أن الديمقراطية ليست منحة من السماء، بل هدفًا يجب أن نكافح من أجل الحصول عليه، وحين يحدث ذلك يجب أن نحافظ عليه وندافع عنه يومًا وراء يوم. والمشاركة في الحياة السياسية، وليست اللامبالاة الازدرائية، هي الطريق لذلك”.

الأمر يبدو ضرورة ملحة في حالة دول العالم الثالث، بحسب سكارميتا الذي يقول “حين يتعلق الأمر بدول غير ديمقراطية يتجه الكُتّاب والفنانون للكفاح من أجل الديمقراطية، وأحيانًا يعرضون أمنهم الشخصي وعملهم للخطر، وليست قليلة المرات التي فيها ورطهم التزامهم في مواقف شديدة الصعوبة ما يضطرهم للنفي. إن أخلاقية أن تفعل كل ما هو ممكن من أجل حرية التعبير راسخة في زملائنا في العالم كله، كما أن “القلم العالمية” تشير لذلك كأساس في عملها.

سنوات الغربة

عاش سكارميتا حوالى 18 عامًا في ألمانيا، ويظن من تجربته أن قسوة الغربة تكمن في عدم معرفة لغة البلد الذي ارتحلت إليه، لكن بمجرد أن تعرف اللغة يغدو الأمر كأنك “بعيد قليلًا عن بيتك” ومن الضروري أن تبني بيتًا آخر لتعيش فيه. يقول “منذ بداية حياتي في برلين الغربية اخترت ألا أتقوقع على نفسي وأن أخرج للشارع وأتعلم اللغة، وأن أصنع ذاكرتي وأعيد زرع أحلامي. مع الوقت تبخر ألم المنفى، حتى مع ما تبقى من قسوته انتبهت لجمال هائل من حولي، وتضامن من كل من كانوا يحيطون بي”.

وعندما عاد لبلده، وكانت هزيمة بينوشيه السياسية قد تحققت، كان يشعر برغبة كبيرة في زرع الأرض المحروقة، “الحماس الأولي خفت وطأته، لكن الديمقراطية صلبة. والبلد الآن في يد الشباب يفعلون به ما يريدون”.

الرواية قبل وخلال وبعد بينوشيه

كيف كانت الرواية قبل الانقلاب وخلال الديكتاتورية وبعد سقطوها؟

يقول صاحب “فتاة الترومبيت”: “خلال الثلاث فترات تجاورت الرواية الحميمية مع الفانتازية مع الطبيعية والواقعية والعاطفية. لا شيء يجعل الأدب في خدمة الواقع التاريخي. مع ذلك، الدوران الذي أصاب تشيلي لما حدث لـ ألليندي، وتراجيديا نهايته قتيلًا، شغلت ولا تزال تشغل مؤلفين من نفس ذاك العقد ومن أجيال مختلفة، أجيال أكثر شبابًا ولا حتى كانوا قد ولدوا في الفترة التي يحكون عنها”.

لا يصدق سكارميتا كثيرًا ما يقال عن رواية تشيلية جديدة تُكتب الآن، يقول “كل عقد يُعلن ميلاد رواية جديدة في كثير من الدول، لكن لا شيء مما أراه أعتبره جديدًا، إذ لا أرى اتجاهًا يخلق إيقاعًا لا يمكن مقاومته”.

الرواية والطاغية

ظهرت صورة الديكتاتور في كثير من أعمال أميركا اللاتينية، خاصة في فترة الستينيات والسبعينيات. إلى أي مدى يمكن الحديث عن هذا النوع من الروايات في النص التشيلي؟

يجيب سكارميتا بأنه “في هذا الشهر بالتحديد نُشر في مجلدين كتاب رائع للبروفيسور جرينور روخو بعنوان “روايات الديكتاتورية وما بعد الديكتاتورية التشيلية”، وفي إحدى صفحاته يؤكد المؤلف على ظهور 179 رواية تتناول هذه الثيمة. بعض هذه الروايات رواياتي، ويمكن أن أقول عنها شيئًا: في روايتي “لم يحدث شيء” حكيت قصة نفي عائلة تشيلية في برلين يرويها صبي في الخامسة عشرة، بتلقائية من يضطر للتحرك بين عالمين: العالم النوستالجي لأبويه، وعالم الشارع الحيوي. وفي رواية “أيام قوس قزح” تجري الأحداث في مدينة سانتياجو عام 1988 وتحكي كيف يبدأ فنان صراعًا يبدو في البداية خاسرًا بالتأكيد: حملة دعائية لتشجع التشيليين للتصويت ضد بينوتشيه في استفتاء غريب نظمه الديكتاتور ليفوز، فخسر!”.

يواصل سكارميتا: “ثمة ثلاث روايات لي تدور في منطقة السياسة وآثارها:”حلمت أن الثلج يتأجج” (وهي قصة لاعب كرة قدم من جنوب التشيلي يسافر ليتحقق في العاصمة فيجد نفسه في وسط غليان حكومة اليساري سلفادور الليندي) و”ساعي بريد نيرودا” (وعنوانها الأصلي الصبر المتأجج، وهي عن شاب ساذج يعمل ساعي بريد يعقد صداقة مع الشاعر الشهير بابلو نيرودا). رغم ذلك روايتي المفضلة هي “فتاة الترومبيت” والمروية بصوت أنثوي وتحكي حياة فتاة جاءت من أوروبا كمهاجرة لتعيش في تشيلي خلال الحرب العالمية الثانية وتعيش تطورات الديمقراطية التشيلية في القرن العشرين حتى يحدث ما تعرف أنه حدث، الانقلاب”.

مع ذلك يؤكد سكارميتا أن انشغاله الفني لم يصب على الموضوعات السياسية فحسب، والمثال البارز لذلك روايته “أب سينمائي” التي تحولت لفيلم يدور أحداثه في البرازيل وسيعرض خلال هذا العام بطولة الممثل الفرنسي فينسن كاسل. “أتحدث عن A movie’s life، من إخراج سيلتون ميلو”.

سكارميتا وجيل الواقعية السحرية

يعتبر سكارميتا هو الجيل الأول بعد جيل الواقعية السحرية، الجيل الذي وجد صعوبة كبيرة في العثور على مكان وسط ماركيز وكورتاثر وفوينتس ويوسا، ومن قبلهم بورخس. لكن سكارميتا تحديدًا لم يشغل نفسه كثيرًا بالعثور على مكان، استمر في كتابة “ساعي بريد نيرودا” 14 عامًا دون أن يشعر باضطراره للدخول في سباق. ورغم أن الحدث السياسي شغل جزءًا من عمله الروائي، إلا أنه كان ناعمًا في تناول هذا الحدث. شعرية عوالمه السردية، اختلاف منظور الرؤية، صوته السردي الخافت، كانت عوامل رئيسية في تشييد صورته الخاصة. ثمة عناصر رئيسية أثرت في سردية سكارميتا: الهجرة والعمل السينمائي. لقد فتحت له الهجرة بابًا متسعًا ليشهد بلده من مكان بعيد، وليقيّم ما يحدث فنيًا، بحيث لا يسقط في فخ الفجاجة أو الصوت السردي العالي. وعلّمه عمله السينمائي تقطيع المشاهد، نقطة الانطلاق، واللحظة التي يجب أن يتوقف عندها.

من ناحية أخرى كان لـ سكارميتا وجهة نظره في تيار الواقعية السحرية، أنه كان “موقفًا خصبًا في مواجهة الحياة والسرد نتيجته كانت تحطيم المعايير الواقعية التي كانت تقيس الفن والتعبير عن الواقع، وامتدح الخيال المثقف والشعبي الذي قرأ العالم بتجاوز وأصالة تخطت القصة المألوفة. كانت الواقعية السحرية حفلة رقصنا فيها جميعًا”.

لكن في مرحلة أخرى من كتابته، كما يحدث لكثير من الكُتّاب، وجد نفسه ميّالًا لـ “الواقع الواقعي” و”الأعماق الحميمية والسرية”. وهو ما يفسره سكارميتا بأن “المولد انفض ولم يبق لنا إلا حيواتنا المتواضعة”.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى