صفحات الناس

أن تكون سوريّاً..!/ صفاء مكنا

 

 

 

صعب أن تكون اليوم سورياً، لكن هذا لا يعني أن تكون قاتلاً ولا تراثياً ولا لاجئاً بل أن تحب فلسطين ودمشق وحلب

ليست البلاد وحدها تغيّرت، حتى ساكنوها وعيونهم.. ووقف قرب فراتها وحشٌ أسود، ليمحو آخر قصيدةٍ كتبها شاعرٌ مجنون عن الحب..

لم أعرف بلدة «رنكوس» القلمونية في الحرب، تلك البلدة التي ترددّ اسمها كثيراً في نشرات الأخبار، والتي قضى فيها أيضاً أحد أقاربي من الجنود برصاصٍ آخر، كما لم أتعرّف عليها من حكاية «عمار البالوش» القاتل لرفيقيه «خضر خازم، وحسين غنّام» على مقاعد جامعة دمشق أواخر العام 2011، في واحد من أكثر مشاهد الحرب السوريّة دمويةً وصدمةً، وتبدو فكرة مشاهدته في فيلم سينمائي أمراً قاسياً، فكيف به حدث فعلاً، وشاهده مباشرةً سوريون يافعون على مقاعد تضجّ بالحبر والأمل، كان فيه القاتل والقتيل رفاقهما قبل قليل..

عرفت «رنكوس» في العام 2008، عندما كان أحد زملائنا في العمل وهو ابن تلك البلدة الجبلية الواقعة في ريف دمشق، يأتي في مواسم الفاكهة الصيفية محمّلاً بالتُفاح وكثيرٍ من الإجاص لزميلةٍ كانت تحب هذه الفاكهة جداً، إيهاب الشاب الطيّب الكريم، الذي صبغت «القلمون» وجنتيه بلونٍ وردي، كما تفعل الجبال بأبنائها عادةً.. الذي لا أذكر سوى أنّه كان لا يملّ في الصيف، كل يوم يأتي مبتسماً محمّلاً بالتفاح الجبلي ليوزّعه علينا بمحبّة، ويقول بلهجته الرنكوسية المحببة «صُحتين».. إيهاب الذي ترك سوريا، وتُرك لأخيه المفقود مصير مجهول فيها أيضاً.

ربّما من الصعب أن تكون سوريّاً اليوم، لكن هذا لا يعني أن تكون قاتلاً، أو محبّاً للقتل، أو أن تقبل به .. وليس بالضرورة أن تكون «مندساً» أو «شبّيحاً» ، أو «بيئة حاضنة»، أو ربما «مخابرات للداخل أو للخارج»، ليس بالضرورة أن تكون خشبيّاً أو أن تكون شبيهاً بنماذج غريبة تظهرها الشاشات الرسمية؛ وأخرى تخرج على القنوات «المغرضة».. فهناك سوريون «نجوم» لا يحبون الشاشات، ولا الشاشات تحبّهم..

ليست سوريا

أن تكون سوريّاً لا يعني أنك تعيش في الماضي، وأن أقصى طموحاتك تدمر وزنوبيا وهنيبعل، مع أنك لا بد أن تحبها كثيراً، وتحزن لما مرّ بها، وبعالمها النبيل، سوري الأرض والهوية الراحل «خالد الأسعد».. ولا يعني أنّ «قلبك متحفٌ للتاريخ»، فمن الممكن أن تكون ابن المستقبل.

أن تكون سورياً ليس بالضرورة أن تكون لاجئاً على الحدود الأوروبية؛ تُسقطك مصوّرة صحافية مجرية أرضاً بركلاتها (الحنونة)، أو أن تكون «شحاذاً أسمر» في شارع الحمراء ببيروت، كما أنه ليس بالضرورة أن تكون انتهازياً فالمسألة حكماً نسبية.. إذ لا بدّ أيها السوري الجميل أن تكون صورة «إيـلان» المسجّى على الشاطئ التركي قد هزّتكَ، ولا بدّ أن يكون حذاؤه الصغير ترك غصّة في قلبك..

أن تكون سوريّاً، لا بدّ أن تحب فلسطين؛ ويعني أنك كنت تنتظر يوماً ما برنامج «غداً نلتقي»، ومسلسل «كاساندرا»، وأنّك استرقت السمع والنظر ذات مرة، إلى الإذاعات اللبنانية والقنوات التركية.. ولا بد أنّك استمعت إلى فيروز كثيراً وإن كنت لا تحب ذلك، فأنت تحبّها كثيراً وتحفظ لها أغانيَ وقصائد ربما نسيتها حتى (ريما الرحباني) نفسها..

أن تكون من سوريا أيها السوري العنيد؛ فأنت بالضرورة تُطرب لاسم حلب أو لكبابها على الأقل، وتعقد معها مواعيد في الخيال، حلب التي في البال؛ ولا بد أن تحب دمشق وإن شعرت أنّك لا تحبها، دمشق التي لا تُختصر بباب توما و «أبو شاكر» بائع العصائر الشهير، ولا بذلك «الطفل الجميل الذي في محبتنا قتلناه» برسائل «نزار قبّاني» إلى أمِّه، ولا هي فقط « شام يا ذا السيف لم يغب» عند سعيد عقل.. دمشق حقبة في حياتك كسوري إن لم تعشها، ولم تشرب من مائها، ولم تحكِ بلهجة أهلها، سيبقى شيءٌ في الهوية ناقصاً..

إنها دمشق القصيدة الايروتيكية في السر، والصوفية في العلن أيها السوري العجيب، أو كما سمّوها قديماً لسببٍ ما «شام شريف»، وهي «أرض الشام» فلا هي سعودية ولا هي إيرانية. «الشام» السيدة الوقور، التي تتمنى لو أنّك تملك ريشة إلهية، لكنت لوّنت وجهها بمسحةٍ من الروج والغنج، وألبستها زينة فريدة كالتي في أسواقها القديمة، ومرّرت عليها ضرباً من الصبا والحداثة، ولمساتٍ من جنونٍ وانعتاق، لربما ستكون أجمل..

أن تكون سوريّاً، إذا اتفقنا، فهناك احتمالاتٌ مشفّرة مختلفة عما ينشره التلفزيون، وهي كثيرةٌ كثيرة..

(كاتبة سورية)

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى