صفحات الناسوليد بركسية

أن يحمل سوري الدكتوراه ويُجنَّد “من أجل قائد الوطن”/ وليد بركسية

 

لم تعد دعاية النظام السوري للتجنيد محصورة في الترويج للجيش الرسمي التابع لوزارة الدفاع، بل باتت تضم اليوم إعلانات للميليشيات الرديفة له مثل “الدفاع الشعبي” و”الفيلق الخامس” وغيرها، على الشاشات الرسمية المسعورة لخلق صورة مشرقة زائفة عن جمال الحياة العسكرية والبطولة والفداء والموت “من أجل قائد الوطن”، كما هي حالة حلقة يوم الجمعة من برنامج “خارج العاصمة” على شاشة “الإخبارية السورية”.

الحلقة التي افتتح بها البرنامج موسمه الثاني، كانت خطابية إنشائية كالمعتاد مع شاشة مقسمة بطريقة بدائية بين المراسلين المنتشرين في عدد من المدن السورية، مع اهتمامها بالحديث عن “بطولات الجيش السوري” بعرض قصص وحالات فردية من أجل حث من لم يتطوع بعد على التطوع والقتال، وبرز الحديث عن حملة الشهادات العالية في صفوف جيش النظام، والذين لم يُعرف إن كانوا متطوعين كما يصر البرنامج، أم مجندين بشكل إجباري كما هو واقع الحال في البلاد.

وجاء في التقديم للحلقة: “حملة شهادة دكتوراة من الدول الغربية، خريجو ماجستير وجامعات بمختلف الاختصاصات لبّوا نداء الواجب حين دعاهم الوطن للذود عنه. لم يتأخروا ولم يترددوا فارتدوا بزة الشرف وامتشقوا سلاحهم في الحرب الوطنية الكبرى ضد الإرهاب وداعميه والأذرع التي تقف وراءه. تفاصيل و قصص و حكايا ترصدها الحلقة الأولى من #خارج_العاصمة في موسمه الثاني”.

وربما تكون سوريا الأسد هي الدولة الوحيدة على سطح الكوكب، التي تفتخر بأن حملة الشهادات العليا فيها، من ماجستير ودكتوراه، يتركون تخصصاتهم وأعمالهم ويتحولون إلى مجرد عساكر يقاتلون ويموتون “من أجل قائد الوطن”، في تجسيد مخيف للفكر الأسدي الذي بات ينظر للشعب السوري منذ 2011 على أنه قسمان، الأول عدو يجب التخلص منه، والثاني جنود أو مشاريع جنود مستقبليين، علماً أن أصحاب الشهادات العالية كانوا دائماً متضررين ومهمشين في ظل النظام السوري قبل 2011، إلى جانب كونهم نموذجاً مثالياً للعاطلين عن العمل بفعل القرارات الرسمية والفساد.

وهنا، لم تعد الدعاية الرسمية لتلميع صورة الجيش تكتفي بكلمات الرجولة والدفاع عن الوطن والكرامة والشهامة وغيرها، بل باتت سوريالية في تصويرها للواقع نفسه، حيث يتحدث المجندون من أصحاب شهادة الدكتوراه عن شغفهم بالحياة العسكرية وكيف أنهم يلتقون أشخاصاً متعلمين ويتحدثون في أمور علمية في الاستراحات بين التدريبات الشاقة، مع مساحات للقراءة والدراسة في أوقات الفراغ.

أكثر ما يثير السخرية في هذا النوع من الدعاية أن صورتها تكذب كلماتها تلقائياً، فبينما يتحدث أحد الجنود عن الحياة الرغيدة الجميلة مع الشباب الذين تعرف عليهم وكيف أنه يدرس ويقدم امتحاناته في الجامعة، وكيف أنه لا ينقص على الجنود شيء، تظهر الكاميرا الوضع المعروف عن حياة المجندين، وخاصة الذين يتم تجنديهم قسرياً، حيث الطعام السيء الذي قد لا يتعدى حبة من البطاطا المسلوقة، والشمس والصحراء والنوم عشرات في غرف صغيرة، وصولاً إلى عدم وجود حمامات أو دورات مياه، مع صورة مجند يتبول في العراء.

المضحك هنا أن دعاية النظام تحاول تجميل كل ذلك البؤس والالتفاف عليه بكلمات مثل الحياة المشتركة والبساطة التي قضت عليها المدنية الحديثة وغيرها من البلاهات، التي لا تقنع الموالين للنظام أنفسهم بجميع الأحوال والذين باتوا يحتجون على ظروف العسكرة والتجنيد عبر السوشيال ميديا فضلاً عن احتجاجات مماثلة من قبل وسائل إعلام موالية مثل صحيفةة “الوطن”. ويجب القول أن هذا النوع من الدعاية بات في الأشهر الأخيرة نمطاً عاماً، يمكنن ملاحظته بكثرة في الصفحات الموالية للنظام، مثل صفحة “دمشق الآن”.

يأتي ذلك في ظل تزايد أعداد القتلى في صفوف جيش النظام، وتجنب الشباب السوريين القتال في صفوفه عبر التأجيل الدراسي أو الهرب من البلاد رغم القوانين الصعبة التي تحكم السفر للشباب والتي تتطلب أذونات عسكرية، ما أدى إلى خلق مشكلة نقص العامل البشري في قوات النظام، ليبدأ مؤخراً حملة تجنيد واسعة ضمن صفوف الاحتياط، تحاول الدعاية الحالية تجميلها وتبريرها للداخل السوري.

والحال أن الدعاية الأسدية للتجنيد ليست جديدة ولا طارئة بأحداث الثورة السورية، بل هي عنصر ثابت على التلفزيونات الرسمية منذ عقود، وبموعد لا يتغير قبل وبعد نشرات الأخبار الرئيسية، حينها كانت الدعوات للالتحاق بالجيش أكثر بساطة ومبنية على أفكار البطولة والشهامة والرجولة من دون الحديث عن واقع حياة الجنود المزري، ورغم أن التجنيد الإجباري في البلاد يطول الجميع من دون استثناء تقريباً كانت شهية النظام مفتوحة على الدوام لالتهام الأفراد وتحويلهم إلى عساكر، كما كانت المبادئ العسكرية تدرس للأطفال في المدارس مع فرض ملابس عسكرية موحدة حتى فترة قريبة، إضافة لفرض معسكرات تجنيد جامعية لا بد من الالتحاق بها كشرط للتخرج من الجامعات.

في السياق، تذكّر الدعاية الأسدية للتجنيد بدعاية تنظيم “داعش” لاجتذاب المقاتلين إلى صفوفه، مع اختلاف بعض التسميات الأيديولوجية فقط، ففيما تتحدث دعاية النظام عن ترك العلم والشهادات والعودة إلى الوطن بعد الدراسة في الجامعات الغربية للالتحاق بصفوف جيش النظام “لأن الغرب شريك في الحرب على سوريا” و”لرد الدين للدولة التي دفعت الكثير من أجلنا”، تتحدث إصدارات “داعش” المماثلة عن المقاتلين الذين “تركوا علوم الدنيا من أجل الجهاد” وتحديداً المقاتلين الأجانب، الفرق هنا أن “داعش” يجعل أولئك المتعلمين قادة للاستفادة من دراستهم، بينما لا تتخطى مكانتهم لدى النظام عساكر وجنوداً مساكين من دون رتب، خاصة إن أتوا من اختصاصات كعلم النفس أو التاريخ والإنسانيات على سبيل المثال.

وكما أصدر “داعش” في الأشهر الستة الماضية إصدارات مرئية متكررة حول الجيل الثاني من مقاتليه، وارتباط الجهاد برابط الأبوة والتربية داخل العائلة الداعشية، تحديداً إصدار “أولئك آبائي”، تقدم دعاية النظام السوري نفس المبدا، ففي سياق الحلقة يتحدث جنود النظام عن العلاقة الأبوية التي تربطهم بالجيش والحياة العسكرية، والتي تشمل تحقيق أمنيات آبائهم القديمة بالالتحاق بالجيش أو العلاقة الأبوية مع الضباط المشرفين عليهم، مع الإشارة للأب القائد للوطن “بشار الأسد” من حين إلى آخر.

بموازاة ذلك، تتخطى الحلقة كافة الحدود الأخلاقية، في تطفلها الدنيء على أحزان الناس الذين قتل أبناؤهم في صفوف جيش النظام، مع عرض لعدد من الأمهات والأباء المفجوعين بعدما قتل أبناؤهم، وهم يتحدثون، مجبرين على الأغلب، عن فرحهم بموت أبنائهم من أجل الوطن! وهو أسلوب دنيء تتبعه دعاية النظام من أجل تشجيع السوريين في الداخل على إرسال أبنائهم لساحات القتال وعدم الخوف من النتيجة مهما كانت مؤلمة، ثم القول التبريري أن الموت حتى لو حصل فإنه ليس مشكلة بل هو شرف واستمرار للحياة.

ما لا تقوله الدعاية هنا أن الحياة المقصودة ليست حياة الناس أو حياة الشعب السوري، بل حياة رموز النظام والطبقة الحاكمة من مصاصي الدماء والراقصين على جثث الآخرين. كما أنها دعاية يائسة وليست ناجحة مع توجه معظم الشباب السوريين، من الموالين قبل المعارضين، للهرب خارج البلاد من الخدمة العسكرية، حتى أن أعضاء في مجلس الشعب طالبوا قبل فترة بوضع حد للتجنيد الإجباري غير المحدد بفترة زمنية محددة، حيث يصبح مصير الشباب في البلاد التجنيد الأبدي أو الموت.

يذكر أن النظام السوري أصدر مؤخراً قرارات برفع سن التجنيد الإجباري من 42 سنة إلى 57 سنة حسبما نشرت وسائل إعلام موالية، كما أصدرت جامعة دمشق مطلع العام الجديدد إعلاناً تعسفياً وجهت فيه إدارتها إنذاراً للطلاب الشباب المتغيبين عن الدوام، بأن ترسلل  أسماءهم إلى شعبة التجنيد مباشرة، حيث يعمد الطلاب لتأجيل تخرجهم لمنع تجنيدهم التعسفي.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى