صفحات سوريةعمر قدور

أهي لحظة تسليم درعا؟/ عمر قدور

 

 

لم تكن تحضيرات النظام بدء الهجوم الأعنف على درعا لتسير دون ملاحظة من قبل غرفة “الموك” في الأردن، فالغرفة الشهيرة ذات الطابع الاستخباراتي الدولي تملك معلومات دقيقة تقيّم على أساسها حجم الدعم الممنوح للجبهة الجنوبية. ولا يخفى على المتابع تحييد هذه الجبهة تقريباً منذ بدء التدخل العسكري الروسي المباشر، ما يعني أنها كانت باردة عموماً في ظل تفاهمات أمريكية-روسية، مثلما لا تخفى أيضاً تكملة تلك التفاهمات بتفاهمات روسية-إسرائيلية وتفاهمات أردنية-روسية.

الفيصل في معركة درعا الحالية، مثلما كان في معارك أخرى مشابهة آخرها معركة حلب، هو دور سلاح الطيران الذي يصب كلياً في خدمة قوات النظام والميليشيات الحليفة، حيث من نافل القول أن صمود أية قوة مدافعة تحت سياسة الأرض المحروقة هو صمود معنوي يؤخر النتيجة المعروفة سلفاً. بات من نافل القول أيضاً أن الحملات الإعلامية المواكبة لنظيرتها العسكرية قد لا تعدو كونها تغطية للنتيجة المعروفة، فالنظام غالباً يحشد ماكينته الإعلامية، لتصوير انتصاره القادم، عندما يكون متأكداً من عدم وجود فيتو دولي على تقدمه. هذه المرة أتت التسريبات الإعلامية مبكرة، ومفادها قبول دولي بوجود قوات النظام على الحدود الأردنية على ألا ترافقها ميليشيات من حزب الله أو مثيلاتها الشيعية. إذا صحت هذه التسريبات التي يؤكدها الهجوم الحالي فالأمر يتطلب معركة تحفظ ماء الوجه ليس إلا، وفي الوقت نفسه تزيح أي فصيل معارض لفكرة التسليم عبر توليه عملية الدفاع وسحقه من خلالها.

تلهف النظام للسيطرة على درعا مفهوم لرمزيتها إذ توصف بمهد الثورة، والنظام من هذه الناحية يتعامل بمنطق ثأري يستثمره أمام قاعدته لإثبات نهاية الثورة وإحكام سيطرته على بؤرها الرمزية. قد يكون للحليف الإيراني حسابات أخرى تتعلق بالاقتراب من الحدود مع إسرائيل، لكن حسابات الأخيرة أكثر دقة، فهي لا تمانع سيطرة النظام بمفرده على حدودها مثلما تفضّل حتى إشعار آخر بقاء نظام بشار معترضة فقط على تحالفه مع إيران، وهذا ما يتفق أيضاً مع رؤية إدارة ترامب والعديد من دول المنطقة.

في الجانب الرمزي أيضاً لا نستطيع، إذا ثبت التواطؤ على تسليم درعا، إلا أن نلاحظ ذلك الاتفاق على التخلص النهائي من إرث الثورة، باعتبارها ثورة سورية بأهداف سورية في المقام الأول. فتسليم درعا، وحصر اهتمام غرفة الموك بالسيطرة على الحدود مع العراق، يعنيان التفرغ كلياً لإقامة منطقة عازلة بين النظام ونظيره العراقي مع التضحية التامة باستمرار أي ضغط عسكري عليه من جهة الجنوب، بخاصة لأن جبهة الجنوب هي الجبهة الأكبر المتبقية، والوحيدة التي يمكن من خلالها تشكيل خطر حقيقي على مركز النظام في دمشق. المسألة هنا ليست في إسقاط النظام عسكرياً، وإنما في هدر ورقة التهديد المباشر بالقوة التي قد تدفعه لتقديم تنازلات ضمن عملية تفاوض.

أصلاً لسنا بحاجة إلى القول بأن الثورة ليست في حسبان مجموع المصالح الخارجية المتصارعة في سوريا، مثلما لا يمكننا إغفال واقع ارتهان فصائل سورية كبرى لتلك المصالح. ما هو مختلف هذه المرة هو التخفف الفاضح من أي التزام تجاه القضية السورية الأساسية، واختزالها بالسيطرة على الشريط الحدودي مع نظام العراق الواقع تحت الوصاية الإيرانية. هذا السياق يغري بافتراض وجود مقايضة ما، حتى إذا كانت مقايضة ضمنية غير صريحة، مفادها تخلي الحليف الروسي تحديداً عن ذلك الشريط الحدودي مقابل تخلي غرفة الموك عن الجبهة الجنوبية.

سوريا، وفق الافتراض السابق، لا تعدو عن كونها رقعة من الأرض ضمن لوحة نفوذ أكبر تشمل المنطقة ككل. درعا تفصيل صغير جداً ضمن اللوحة الأكبر، وأن تُستهدف في اليوم الأول للهجوم بعشرات البراميل المتفجرة فذلك يعني تركها بلا غطاء جوي أو سياسي على الإطلاق، وللمصادفة سيعلن فصيل “أسود الشرقية” المدعوم للسيطرة على الحدود مع العراق إسقاط طائرة للنظام، بعد أن كان الطيران الأميركي قد تدخل في وقت سابق لقصف رتل من قوات النظام وميليشياته الحليفة وهو في اتجاه معبر التنف الحدودي. في الواقع لا حاجة لأدلة كثيرة على أن التركيز الأمريكي منصب فقط على ذلك الشريط الحدودي وفق هدفين لا ثالث لهما؛ هزيمة داعش ومنعه من إعادة التمركز في البادية السورية، وفصل تواصل طهران البري مع سوريا. ما تبقى من سوريا ليس ضمن قائمة الاهتمامات الأمريكية، ولا يبدو أنه ضمن الحسابات الإقليمية.

سيكون من السذاجة لو فكر السوريون مؤخراً في تدخل قوى دولية وإقليمية لصالحهم بعد سنوات من المقتلة العلنية، لكن ذلك لم يكن ليمنع من التفكير في سيناريوهات تتضمن تقاطعاً في المصالح مع تلك القوى، مع رجحان كفّة الدم السورية طبعاً. بالتأكيد لا يملك السوريون سذاجة كافية لافتراض وقوف قوى خارجية معهم كرمى لأهداف ثورتهم، وإذا لم يفعل هذا طيلة سنوات ما يُسمى بالعالم الحر فلم يكن متوقعاً من قوى غير ديموقراطية أصلاً. تسليم حلب من قبل على النحو الذي شهدناه، وتسليم درعا إذا تمّ، يعنيان القطيعة الفعلية بين تطلعات السوريين ومجمل المصالح الخارجية، وبحيث يكون الارتهان الداخلي لتلك المصالح صافياً وخالصاً. لا نخطئ بالقول هنا أنه ارتهان غير وطني على الإطلاق، وهذا ليس على سبيل التخوين، فعندما تتوقف المعارك “العسكرية وغير العسكرية” على جزء من سوريا لا يُعتبر الجزء الأهم في مشروع التغيير فالأمر يعني تنفيذاً حرفياً لأجندات الخارج، ويعني انخراطاً في صراع تقسيمات النفوذ دون أفق إيجابي للمسألة السورية ككل.

لقد كانت درعا حتى الآن، رغم الدور السلبي لغرفة الموك في عهد أوباما، ورغم تواتر الضغوط الإقليمية على ثوار الجبهة الجنوبية، هي نافذة الأمل الوحيدة بضغط حقيقي على النظام، وبسبب هذا الضغط هي نافذة الأمل بألا تسير مخططات التقسيم بقوة الأمر الواقع. ليس للسوريين أن يحسنوا الظن مرة أخرى إلى أن يتم تسليم درعا، وإن كانوا لا يملكون قدرة التصدي للنظام ولمن يقودون “الثورة المضادة” في عموم المنطقة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى