صفحات سوريةعمر قدور

أوباما غيت/ عمر قدور

 

 

لم يرتكب أوباما، من حيث الشكل، خطأ فاضحاً بمراسلته المرشد الأعلى، إذ لا يوجد ما يمنع المراسلات السرية في الأعراف الدبلوماسية، بل لعل المراسلات السرية كانت على الدوام متمماً ضرورياً لما هو معلن فوق الطاولة، بخاصة في حالات الصراع عندما يتعذر الاتصال المباشر بين طرفين. مع ذلك، لا ينبغي الاستهانة بإثارة موضوع رسائل أوباما السرية الآن. ولعل إثارة الفضائح الرئاسية باتت من تقاليد السياسة الأمريكية ولوبياتها، فالرئيس الأميركي نيكسون ووجه بالفضيحة المعروفة ووترغيت التي اضطرته إلى الاستقالة بينما كان الكونغرس يستعد لعزله، الأمر الذي لم يفعل مثله كلينتون بعد اتهامه بالكذب وإعاقة سير العدالة في فضيحة مونيكا لوينسكي، مستقوياً بسلوك رونالد ريغان الذي لم يقدّم استقالته أيضاً رغم دوره المباشر في فضيحة “إيران غيت” التي كان مؤداها إرسال أسلحة إلى دولة تُعدّ عدوة للولايات المتحدة.

من التقاليد أيضاً أن تأتي إثارة الفضائح في الولاية الثانية للرئيس، بعد منحه فترة سماح في ولايته الأولى، وهو ما ينسجم مع التصويت الشعبي الذي راح يجبر الرئيس في ولايته الثانية على التعايش مع مجلس شيوخ وكونغرس هما من لون سياسي مغاير له. لذا، قد لا تكون مصادفة بحتة أن يُكشف عن رسائل أوباما السرية الآن، بالتزامن مع فوز الجمهوريين بالأغلبية في المجلسين، وبالطبع لا مصادفة إطلاقاً بتزامن الحدث مع اقتراب الموعد المستهدف لإنجاز الاتفاق النووي الإيراني. على ذلك، من المرجح أننا سنكون، فيما تبقى من عمر إدارة أوباما، على موعد مع رئيس يحدث إضعافه باطراد وعلى نحو ممنهج ومدروس.

من حيث المؤدى السياسي، ليس ثمة فارق كبير بين ما فعله ريغان وأوباما، فالأول أرسل إلى إيران أسلحة كفيلة بترجيح كفتها في الحرب مع العراق، والثاني كان واضحاً في رسالته الأخيرة إلى المرشد التي تنص على مراعاة المصالح الإيرانية في مناطق تواجد داعش، أي على الحفاظ على مناطق نفوذ إيران؛ مرة أخرى إيران التي يُعتبر طموحها النووي “على الأقل” خطراً على الأمن القومي الأميركي. لكن الاختلاف بين ريغان وأوباما يظهر في توسل الثاني صفقة لا تبدو إيران بحاجة إليها، أو مستعدة لها، لأن الكشف عن أربع رسائل من أوباما إلى المرشد، من دون تكرّم الأخير بالرد عليها، يفضح حاجة سيد البيت الأبيض إلى إنجاز ما، ويفضح من الجهة الأخرى فهم القيادة الإيرانية لذلك وعدم استعدادها لإسعافه بما يريد. فوق ذلك، وهذا مهم في الاعتبارات الداخلية الأمريكية، من المهين لصورة الرئيس الأميركي أن يواظب على مراسلة قائد آخر من دون أن يتلقّى ردّا. وإذا كانت البراغماتية الأميركية قد تتقبل شيئاً من هذا القبيل على مضض، في حال وجود منفعة ظاهرة، فإن نسبة كبيرة من الأمريكيين لا تشاطر أوباما رؤيته فيما خص الموضوع الإيراني، ولا ترى في مغازلة نظامها السبيل الأفضل للتوصل إلى تسوية تاريخية معها.

هذه المرة لم يكذب أوباما أمام القضاء الأميركي، على غرار ما فعله سلَفاه نيكسون وكلينتون، غير أنه أخفى حقائق اتصالاته المباشرة مع القيادة الإيرانية منذ خمس سنوات. ولا يكفي القول بأنه لم يُقدّم تنازلات عما هو معلن في سياسته لتبرير ذلك، لأن مجرد محاولة إقامة قناة تفاوض سرية على هذا المستوى يُخالف إحدى العقوبات المفروضة على طهران. أما على الصعيد الدولي فيبدو أوباما في موقع من كذب حقاً على حلفائه في التحالف الدولي ضد داعش، فهو لم ينسق معهم في شأن انضمام إيران إليه، ولم يعلن أن إحدى مهام التحالف هي تحاشي الإضرار بالمصالح الإيرانية في المنطقة، هذا من دون أن ننسى وجود دول في التحالف متضررة مباشرة من توسع النفوذ الإيراني. وإذا كان تخلي الإدارات الأميركية عن حلفائها، عندما تقتضي مصالحها هذا، أمراً معهوداً إلا أنه لا يحدث دائماً بمثل هذه “الخفة”، ولا يقرره رئيس يضرب بعرض الحائط نصائح وزرائه ومسؤولي سياسته الخارجية.

بعد انكشاف مراسلاته، وخسارة الديمقراطيين انتخابات الكونغرس ومجلس الشيوخ، ربما ينتظر أوباما من القيادة الإيرانية اغتنام ما يعتقد أنها فرصة ذهبية لهما. فالأخيرة لا يُتوقع أن تحظى بعد رئاسته بمرشح متلهف لتسوية معها، ومستعد لتقديم تنازلات مهمة؛ الأهم أنها لن تحظى برئيس ضعيف يحتاج إلى إنجاز لشخصه ولحزبه. أي أن أوباما قد يرى في ضعفه عامل إغراء للقيادة الإيرانية، إن رأت فيه فرصة لا تعوّض، لكن الأخيرة تدرك أيضاً القدرة المحدودة لرئيس ضعيف على تقديم التنازلات، ولا يُستبعد أن ترى في كسب الوقت غنيمة أكبر من اتفاق لا يرضي طموحاتها النووية، حيث من المستبعد أن ينقلب عليها أوباما في حال فشل المفاوضات أو في ما تبقى من ولايته.

ربما لا تتضخم فضيحة مراسلات أوباما لتأخذ مكانة في جانب فضائح الرؤساء السابقين، لكن انكشافها يؤذن ببدء مرحلة الإجهاز عليه، وأيضاً عدم السماح له باتخاذ قرارات كبرى وهو متحرر من ضغط التحضير للانتخابات النصفية. لقد اختار أوباما أن يكون ضعيفاً عندما امتلك مقومات القوة، وهذا بلا شك أسهل من أن يكون ضعيفاً رغماً عنه؛ أما المرارة فستكون أكبر في حال قرر بعض من أركان إدارته مغادرة السفينة في الأشهر القادمة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى