صفحات العالم

أوباما متمسك بلاءاته الثلاث في الأزمة السورية

راغدة درغام

أزال وزير الخارجية الأميركي جون كيري، بعضَ الغموض عن سياسة إدارة أوباما الثانية نحو سورية أثناء جولته الأوروبية هذا الأسبوع واجتماعاته الثنائية بنظرائه الأوروبيين وبوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف. بموازاة ذلك، وفي عاصمة كازاخستان آلما آتا، أوضحت إدارة أوباما أمرها أيضاً في شأن ايران أثناء جولة المحادثات المعنية بالملف النووي الإيراني بين ايران والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا. حصيلة الأمر باختصار شديد، أن أوباما وطّد في إدارته الثانية سياسةَ الحوار تحت أي ظرف كان، أسفر عن نتيجة مرجوّة أو لم يسفر، وأنه اتخذ قرار إيلاء مهامّ قيادة الملف السوري إلى كل من موسكو وطهران، كل على طريقته. توقيت وضوح توجهات الإدارة الثانية أتى قبيل وصول جون كيري إلى تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية وقطر. في تلك المحطات، لن يسمع كيري الإطراء على السياسة الأميركية المتدحرجة إلى الوراء، والتي يراها البعض شهادة أخرى على «سمعة الخيانة» التي رافقت مراراً علاقة مختلف الإدارات الأميركية بـ «الأصدقاء». سيستمع إلى التأفف والامتعاض، والتحذير من عواقب وخيمة لما يترتب على مصادقة إدارة أوباما على دور إيراني في مصير سورية بالذات، بعدما أسمعه رئيس حكومة العراق نوري المالكي من بعيد أن تسليح المعارضة السورية وتمكينها سيتحوّل إلى «حرب أهلية في لبنان، وانقسام في الأردن، وحرب طائفية في العراق»، فأجواء منطقة الشرق الأوسط مفعمة بضجيج دق طبول الحرب المدمرة بين السنّة والشيعة، وهي حروب بالنيابة عن ايران ودول في مجلس التعاون الخليجي ساحاتها شرق أوسطية بامتياز، انطلاقاً من سورية. وما في أذهان قيادات المنطقة وشعوبها سؤال أساسي يطارد الإدارة الأوبامية الثانية مهما حاولت الظهور بمظهر المهرول بعيداً من المنطقة، والسؤال هو: ما هي الاستراتيجية الأميركية البعيدة المدى نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ وهل الإدارة الحالية حقاً بريئة من صنع الحروب المذهبية بين السنّة والشيعة، أم أنها في واقع الأمر ضليعة في صنع هذه الحروب؟

هذه الأسئلة لن تطارد فقط إدارة أوباما عبر الوزير الجديد جون كيري، وإنما أيضاً قيادات مجلس التعاون الخليجي -ومصر وتركيا بنسبة أقل-، إذ عليها الآن مراجعة نفسها بجدية بعد أن أوضحت إدارة أوباما نفسها وأزالت الغموض، فلا داعي للاختباء وراء الإصبع أو دفن الرؤوس في الرمال، سيما أن المرحلة الآتية يمكن أن تتحول إلى جحيم للجميع إذا لم توضع سياسات جديدة تأخذ في الحسبان ما أوضحته إدارة أوباما الثانية في مطلع عهدها.

وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي، لخّص ما أسفرت عنه محادثات كازاخستان، عندما قال إن «الأمور وصلت إلى منعطف، وأعتقد أن اجتماع آلما آتا سيكون علامة فارقة» في العلاقات بين طهران والدول الست. صالحي كان في الواقع يتحدث عن العلاقة مع الولايات المتحدة، فهي الأهم والركيزة في الاستراتيجية الإيرانية النووية والإقليمية والثنائية على السواء.

صالحي قال إن المرونة التي أبدتها الدول الست -والكلام ضمناً عن الولايات المتحدة- «تدل على توجه لتغيير استراتيجيتها إزاء ايران، ما قد يشكل منعطفاً مهماً في مسار التفاوض».

ظاهرياً، تعلَّق ما انصبت عليه محادثات آلما آتا بالملف النووي الإيراني، أما واقعياً، فشكّلت تلك الجولة من المحادثات انطلاقة العلاقة الثنائية بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية في الإدارة الأوبامية الثانية.

نووياً، تراجعت الدول الست عما كانت طالبت به طهران، وقدمت إليها المزيد من الترغيب بقدر أقل من التهديد، عبر عرض الاكتفاء بـ «تقليص» مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة و «تخفيض» العقوبات المفروضة على ايران، مقابل «تجميد» تخصيب إيران اليورانيوم بنسبة 20 في المئة. صالحي وصف تلك المقترحات بأنها «الأكثر واقعية ومنطقية»، مؤكداً على «حق» ايران بتخصيب اليورانيوم بأي نسبة كانت، 5 في المئة أو عشرين في المئة، ووصف المحادثات بأنها كانت «إيجابية، وأتاحت السير على الطريق الصحيح»، وقال إن «العملية بدأت» و «أنا متفائل جداً في شأن النتيجة، التي ستكون في مصلحة الجانبين».

ما فعلته السياسة الإيرانية الحذقة، هو أنها أقدمت على «احتواء مضاد» في مطلع عهد إدارة أوباما الثانية، عبر لغة التفاؤل والتجاوب مع المرونة، التي عبر عنها وزير الخارجية الإيراني في أول لقاء مع الدول الست في عهد الإدارة الثانية، فطهران تعرف تماماً ماذا تريد من واشنطن، وتدرك تماماً ما لا تريده واشنطن من ايران في زمن أوباما، فلقد حصلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على هدايا قيّمة جداً من الرئيس السابق جورج دبليو بوش، عبر حربيه في أفغانستان والعراق، اللتين كانتا خدمة مجانية لإيران، وهي لا تزال عازمة على الاستفادة من رفض الرئيس باراك أوباما الانسياق الى مواجهة مع إيران، إما مباشرة في عقر دارها، أو حينما تشن حربها في سورية بصورة مباشرة وتنتهك قرارات مجلس الأمن من دون أن يجرؤ أحد على محاسبتها أو معاقبتها.

منذ البداية أوضحت طهران لإدارة أوباما الأولى، أن ما تريده يرتكز إلى ثلاث أولويات: أولاً، علاقة ثنائية مباشرة مع الولايات المتحدة قوامها الاعتراف بشرعية الثورة الإيرانية والجمهورية الإسلامية وعدم التدخل في شؤونها بأي شكل من أشكال المساعدة للمعارضة الإيرانية أو حركات الإصلاح. ثانياً، أن تدرك واشنطن أن إيران لن تتخلى عن «حق» تخصيب اليورانيوم بالنسبة التي تلائمها، لأن إيران -قيادة وشعباً- لن تتراجع عن جهودها وطموحاتها النووية، التي تصفها بأنها سلمية، بينما يراها الغرب طموحات عسكرية نووية. ثالثاً، إقرار واشنطن بدور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الإقليمي، إنْ في العراق أو في سورية ولبنان، فطهران لن تقلص هذا الدور، وما أرادته من واشنطن هو أخذها هذا الدور في الحسبان والإقرار والاعتراف به عندما ترسم سياساتها الاستراتيجية نحو المنطقة.

جون كيري قدَّم دفعة أولى إلى طهران على صعيد العلاقة الثنائية، عندما قال الأربعاء الماضي إنّ في إيران حكومة «مُنتخَبة»، وهذا ما كان قاله وزير الدفاع الجديد تشاك هاغل، المعروف بمواقفه المعارضة للضغوط على طهران أثناء جلسات استجوابه قبل تصديق مجلس الشيوخ على ترشيحه. هاغل قال حينذاك، آخر الشهر الماضي، إن في إيران «حكومة مُنتخبة وشرعية، وافقنا معها أو لم نوافق». كيري قال بعد شهر تماماً وهو في فرنسا بجانب نظيره لوران فابيوس، إن «إيران بلد لديه حكومة مُنتخبة، وهو عضو في الأمم المتحدة»، وأضاف: «ومن المهم لنا أن نتعاطى مع الدول بطريقة تخدم مصالحنا في العالم».

هذه الشهادات الصادرة من كيري وهاغل، هي تماماً ما سعت طهران لاستصداره عن الإدارة الثانية، فهي مواقف جذرية، وتلغي عملياً ما كان صدر عن واشنطن في الإدارة الأولى أو قبلها، من تشكيك بنزاهة الانتخابات في ايران عام 2009، ومن تهم الى الحكومة الحالية بتزييف نتيجة الانتخابات.

إذاً، تبدو واشنطن هذه الأيام وكأنها في صدد تلبية مطلب أول لطهران ويهم القيادة الإيرانية على أعلى مستوياتها، وتبدو أيضاً في صدد تلبية مطلب آخر يخص الملف النووي، كما بيّنت المحادثات في كازاخستان، وتبدو كذلك في صدد تلبية مطلب ثالث، في سورية بالذات وعبر العراق.

ففي العراق، بات واضحاً أن إدارة أوباما لا تمانع نفوذاً إيرانياً واسعاً وعميقاً، وذلك بعد انسحاب الولايات المتحدة منه محمّلة بأثقال الكلفة الباهظة لحرب حققت لإيران الإنجازات الإقليمية وليس للولايات المتحدة. إدارة أوباما تفضل غض النظر عن المخاطر التي تحدق اليوم بالعراق، والتي وصفها نوري المالكي بأنها قد تتحول «حرباً طائفية» بين السنّة والشيعة، وهذه الحرب -كما هدد- هي رهن بما ستنقلب إليه المعادلات العسكرية على الساحة السورية، في الحرب الضروس الدائرة بين القوات النظامية المدعومة مباشرة من ايران وحلفائها وبين قوات المعارضة السورية، ومنها من تُصنَّف بأنها من «القاعدة» ومن «جبهة النصرة» وغيرها. بكلام آخر، تهدد الحروب الطائفية والأهلية والتقسيمية بتغليف أي منطقة يكون لإيران نفوذ فيها، انطلاقاً من أن القيادة الإيرانية تعتبر نفسها القائمة على حقوق الشيعة أينما كان، وهي الحروب ذاتها التي يخوضها الجهاديون السُنَّة أينما خُصِّبت لهم التربة لشن حروبهم الطائفية بأي ثمن كان.

إدارة أوباما الثانية تبدو وكأنها إما ترى في الحروب الطائفية بين المسلمين إنهاكاً متبادلاً للآخر لا علاقة للمصالح الأميركية الكبرى به، أو أنها تهرب إلى الأمام، خشية تحميلها مسؤولية ما ستسفر عنه سياساتها في سورية بالذات. وفي هذه المرحلة، ما زال أوباما متمسكاً بلاءاته الثلاث: لا للتدخل العسكري الأميركي مباشرة أو بشكل غير مباشر، ولا للدعم العسكري للمعارضة السورية مباشرة أو بشكل غير مباشر، ولا للحل والحسم العسكري في سورية. اللا الرابعة، أي لا لبقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة، تتأرجح على أوتار العلاقة مع روسيا، فلقد قررت إدارة أوباما الثانية أن تصبح مهمتها تقديم الدعم للدور الروسي القائد في سورية، من خلال الضغط على المعارضة السورية للتحاور والتفاوض مع استمرارية الأسد في العملية السياسية الانتقالية ومن خلال رفض السماح بتسليحها، فلقد حجَّم جون كيري نوعية المساعدة للمعارضة وقلّصها الى طبية وغذائية مقابل خضوعها لإصراره على حضور مؤتمر روما لـ «أصدقاء سورية».

روسيا تعهدت بالضغط على الحكومة السورية مقابل الضغوط الأميركية على المعارضة، ولكنها قالت سابقاً إنها حاولت مراراً الضغط على الأسد ولم يكن في وسعها التأثير عليه، ولمحت في الماضي تكراراً إلى أن الفاعل الحقيقي لدى النظام في دمشق هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية وليست هي، بالرغم من إمداداتها العسكرية للنظام وحمايتها له ديبلوماسياً وسياسياً.

مَن الصادق؟ وأين الضمانات؟ فلقد تفاءل العالم بنقلة نوعية في التفاهم الأميركي-الروسي في جنيف قبل 9 أشهر تماماً، عندما تم الاتفاق على عملية انتقالية من الحكم الحالي إلى حكم جديد في دمشق. اليوم، يُقال إنه بعد تحييد «عقدة الأسد»، وذلك عبر الكف الأميركي عن مطالبته بالتنحي والرحيل، وبعد إبعاد الحل العسكري، عبر حجب المساعدات العسكرية للمعارضة، بدأ السباق بين بطء الوتيرة الديبلوماسية وبين وعود التسريع في تفعيل وعود جنيف بعد تغيير شروط العملية السياسية الانتقالية… كل هذا فيما الكارثة الإنسانية تتفاقم، والتطرف ينمو، والحروب الطائفية تنذر بيوم أسود رهيب.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى