صفحات الثقافة

أوجاع الكرسيّ/ عقل العويط

مرحبا أيّها الكرسيّ. ما أجملكَ، وإن مخلَّعاً، أو مغمّساً بالدم، يقول الحاكم مخاطِباً مرآته.

يقف الرجلُ هذا، أمامكَ، فيبتسم، ويتلمّظ، ويقول واثقاً ومندِّداً إنه إنما يفعل ذلك كلّه من أجل الوطن.

لكن مهلاً، أيّها الكرسيّ المحبوب والمعبود، هل حقّاً أنتَ متماهٍ مع المتربّع عليكَ، ومع الوطن؟!

عن هذا السؤال الساذج حقّاً، يجيب صوتٌ منافسٌ، صارخاً من تحت الركام: لو كنتُ مكان عشّاقكَ، أيّها الكرسيّ، لفعلتُ ما يفعلون.

* * *

هل كلّ هؤلاء الذين يَقتلون شعوبهم، ويدمّرون أوطانهم، ويشتّتون الدساكر، ويعيثون في المدن والقرى، ويرتكبون المعاصي، ويغتصبون فنون العيش، هل يفعلون ذلك كلّه، من أجل أوطانهم حقّاً، أم من أجلكَ، أيّها الكرسيّ؟

هل هم يعشقون هذه الأوطان، ويدافعون عنها، ويحفظونها من المؤامرات الصهيونية، والظلاميات الدينية، ويدرأونها من الانحلالات والتفكّكات والموت والوقوع في براثن الأعداء، أم أن عطركَ الخشبيّ الميمون قد أعمى بصائرهم قبل أنوفهم، وجعلهم عبيداً لمجدكَ الباطل؟!

ليتني أصدّق أنهم يحبّون بلدانهم!

بشّار الأسد بن حافظ الأسد، هل يعشق سوريا حقّاً؟ و”أعداؤه” الأحباب من جماعات التكفير والهجرة، وداعش، والنصرة، ودولة العراق والشام، هل يحبّون سوريا، ويدافعون عن حريتها، ويدرأون… دينها الحنيف؟ و”حزب الله” هل يعشق الله حقّاً؟ ومقامات الأولياء وأضرحتهم؟ وفلسطين، هل يعشق فلسطين؟ وماذا عن لبنان؟

والسيسي، هل يعشق مصر حقّاً؟ ربما يجب أن نسأل أيضاً عن “الأخوان المسلمين” هناك، وعن “حزب النور” وجماعات التكفيريين والسلفيين من كلّ حدب وصوب؟ ثمّة مَن ينبّهنا إلى وجوب عدم نسيان حسني. هل لا يزال حسني يعشق مصر؟

ثمّ، بأيّ سؤال نسأل عن أولئك الذين يسهرون على البارئ وعتباته وأماكنه الحرام في العراق والسعودية وإيران، وعلى نفطه، هل جميع هؤلاء يعشقون الله وحريات الشعوب حقّاً؟

وهؤلاء الأطفال المقيمون في عراء الجبال وصقيع الضمائر، وفي صفاقة العقول، هل تريدهم الأوطان حقّاً، أم الكرسيّ، أن ينزحوا من أحلام بيوتهم، وأن يتشرّدوا، ويموتوا، تحت عيون الحكّام، وحرّاس الآخرة، والملائكة، وفي أيدي العدالات الدولية في العالم؟

وماذا عن الأمهات، والثكالى، والأيتام، والأرامل، والعشّاق، والشعراء، والدونكيشوتيين، والرومنطيقيين، والثوّار التوّاقين إلى معانقة قمر الحلم والفجر، وهذه الأرض المشرقية الجميلة، هل يجب أن يموت هؤلاء جميعهم، أيضاً وحقّاً، من أجل هذا الكرسيّ أم من أجل الأوطان؟

ليتني أصدّق.

يصعد صوتٌ من أعماق المرارة والخيبة صارخاً: ربما كان ينبغي لنا أن نكون أكثر واقعيةً، حين حلمنا كثيراً، بل ربما حلمنا أكثر مما تتيحه لنا المعطيات الخبيئة والظاهرة، وحين توهّمنا وأوهمنا شعوبنا بأنه لم يبق أمامنا أكثر من خطوة، أكثر من خطوتين، لكي نصل إلى الفجر. ثمّ حين مشينا الخطوتين، وجاهد غيرنا وكثيرنا الجهاد المستميت، لم يصل أحدنا إلى فجر. أإلى هذا الحدّ نحن مخطئون؟!

هل كان ينبغي لنا أن نفهم ماكيافيلي أكثر، أن نقرأ أكثر، أن نتّعظ أكثر، أن نختبر أكثر، أن نكون محنّكين أكثر، أن نسهر أكثر، أن نتيه أكثر، أن نتعب أكثر، أن نحفر الغيوم أكثر، أن نُراكِم الأحلام أكثر، أن نعايش الموت أكثر، كي نقترب من أن نصل أكثر؟!

ما أقلّ فهمنا للسياسة، ولشؤون الدول والحكّام والأنظمة! ظننّا لوهلةٍ أنها قد تكون شبيهةً بأحوال الينابيع والشموس، وأحياناً بأحوال المشاعر، أو بالغيوم التي نشيّدها في الحبر وفي غياهب الصفحات. وكم ظننّا أن شيئاً من ذلك يمكن أن يتحقق على أيدي الأطفال والصبايا والأمهات وفتية المدارس وطلاّب الجامعات، وعلى متون الأغاني والقصائد وإيقاعات الشعوب.

حين أدرك أصدقاؤنا ورفاقنا وأحبابنا ونحن، أن الشغلة هي شغلة القَتَلة والآلهة فحسب، وأنها اختصاص هؤلاء حصراً، كان ثمة الشيء الكثير من لحوم أفئدتنا وثياب بلادنا قد استلّته الأنواء وجعلته يئنّ تحت التراب. فيا لجهالتنا!

ربما كان ينبغي لنا أن ننتظر أولادنا وأحفادنا، فآنذاك كان الوقت ليكون ملائماً، أكثر، لإقناع الله بضرورة الخروج إلى الفجر!

والآن، هل نعود أدراجنا؟ وإذا عدنا أدراجنا، فهل يكفي ذلك لكي تعود إلينا أوطاننا، والأرض، والأهل، والأحباب، والأطفال، والموسيقى، والأمهات، والكلمات، والثوّار و… الأحلام؟

وإذا عدنا أدراجنا، أفيجب أن تبقى الكراسي، وجلاّسها، حيث هي، وحيث هم، وإن مخلّعةً، أو مغمّسةً بالدم؟!

* * *

مرحبا أيّها الكرسيّ. إيّاكَ أن تهنأ أو تطمئنّ. فبعد ليل، أو بعد فجر، ولو بعد دهر، ستتخلّع تحت جالسيكَ.

دمكَ الذي ينزف من جروح أوطاننا وأشجارنا، سيجرفهم إلى حيث يستحقّون!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى