صفحات الثقافة

أورفيوس مروضاً البهائم بعزفه، فسيفساء سورية من متحف الشهباء/ محمد رشّو

في بلدة قصروك في كوردستان يربّي جاري عبد الستار القطط والأفاعي والنسور معاً في بيته، مقتنعاً بأن على الإنسان أن يجعل الأعداءَ أصدقاء.

أبناؤه تعلّموا ألاّ يخافوا: الكبير الفتى يستدعونه لاصطياد الأفاعي من الحقول والمنازل. الصغير الذي لم يبلغ الثانية بعد يلاعب إحداها، يمسكها من الذيل ويتركها تلتفّ حول رقبته وتنسلّ تحت قميصه. هي ليست بلاستيكية بل سوداء طويلة، وأخرى زيتونية تدعى شاهمار، أي ملكة الأفاعي. بحوزته قطط كثيرة، نسران أطلق عليهما: آشتي وراستي.

قالت روز ميري إن عينيهما بيضاوان في الظلام، وإحدى وثلاثون أفعى يطعمها اللحم والسكّر والماء، يغيّر لها التراب مرتين في الشهر، ومن جلدها الذي تبدلّه يصنع عقاقير لمرضى القرحة والكولون. لم يؤذِ أفعى طوال عمره. و”حين أسمع أن سيارة دعست أفعى”، يقول، “أحسب أن إنساناً قد قُتل”.

في الليل، حين تنام حيواناته في الحديقة الأمامية، النسور على الشجر، الأفاعي في الصندوق، القطط تحت سيارة الكيا السوداء، يدخل غرفته وينظم مدائح للرسول يغنّيها في المولد السنوي لأتباع عبد القادر الجيلاني.

يبدأ النقر على الدف ويتذكر الحروب، الحروب التي فرّ منها صغيراً برفقة عائلته، الحروب التي خدم فيها مجنّداً في إيران، الحروب في الجبال بجانب البيشمركة ضد حكومة بغداد، الحروب مع الأخوة،

الحروب الطويلة القذرة البعيدة

الحروب التي كأنها تحدث الآن.

* * *

2

كل شيء هادئ في عينكاوا. الحياة المرتبة بعناية، لباقة عمال الريسيبشن، الذين يلتفتون منزعجين حينما يعمل مثقب ضخم خلف جدار التواليت بين فينة وأخرى. شخص أجنبي أصلع يشبه مايك تايسون يتصنع الفكاهة مطلقاً Fuck متوجهاً بكلامه إلى غرسون بنغالي ربما أو هندي يتحدث الإنكليزية بطلاقة. تذكرتُ فجأةً الليلة التي عرض فيها التلفزيون السوري قبل أكثر من عشرين عاماً مقابلة مع امرأة تعيش في بطنها أفعى. يستغرب المذيع (ربما كان توفيق الحلاق) وجود الأفعى في بطن امرأة، لكن الطبيب يفسر الحالة بعد ان تدلي السيدة بشهادتها. فالسيدة شربت من النبع ماء يحتوي أفعى صغيرة وليدة عبرت البلعوم لتستقر في البطن.

نحن المشاهدين في البيت لم نكن مستغربين بتاتاً لأننا نعرف السيدة، فهي من بلبله من بيت ملتجي، ونعرف النبعة التي شربت منها: مياهها مليئة بالشراغيف والطحالب وتقع تحت شجرة الدلب أسفل جبل غريه مزن، كنا متأثرين لأن التلفاز كان قد وصل للتو ونشاهد كل ما يعرض فيه، ولأن السيدة كانت تتحدث الكردية، نعم الكردية، ولا تتقن العربية مطلقاً، فاستعانوا بمترجم.

السيدة تتكلم بصوت ميت بعد أسبوع، البنغالي يحمل الكؤوس الملطخة بالكابوتشينو، توفيق الحلاق لا يزال مدهوشاً، مايك تايسون يغيّر محله وهو يغمغم Oh my God فالمثقب بدأ يعمل مرة أخرى.

* * *

3

ترسل لي الآنسة كيت إيميلها لأرسل إليها إيميلي. كيت من ساحل العاج قُتِلتْ والدتها مع والدها الدكتور إيسوفو أيوبا، الرجل المهم، على أيدي المتمردين بدم بارد. تعيش الآن في مخيم للاجئين في تامباكوندا – السنغال يرعاها قسٌّ طيب وتستأذنه لتراسلني على كومبيوتره الخاص حين يكون في كاتدرائية ماري رين ولا تطلب سوى أن أستردّ مال أبيها من بنكٍ روسي وأدفع لها ما يكفي لشراء تذكرة الطائرة لتلحق بي وتقضي بقية أيامها برفقتي. لا يهمّها أنني متزوج، ولا فارق السنّ. يرى صديق لي أنها ستورّطني في أمرٍ ما، وربما وراءها عصابةٌ ما. لا آبه لما يقوله صديقي وما يمكن أن تكيد له كيت. ما أنا على يقين منه أنها تخاطب الرجل الخطأ لكنني سعيدٌ بذلك. أهمل كل شيء وأرسل إليها: عزيزتي كيت إنتظري (ريثما تهدأ الحرب في حلب أو أجدد أوراق الإقامة هنا، هذا ما أحذفه لاحقاً) إنتظري ما هي إلا أيام وأبحر بسفني من كوردستان لأسترد أموالك من بلاد الروس. سأضع خوذتي تحت قدميكِ وأخاطبكِ في حضرة الأشداء: عزيزتي هيلين، أرض أفريقيا لا تليق بكِ. سنستقر حيثما تريدين.

* * *

4

عند جسر الحسينية تبدو الجبال في البعيد قطيعَ ديناصوراتٍ نافقة.

الماء قليل قليلٌ، المجرى ديكورٌ محتمل لمجدٍ قديم من شتاءٍ مضى. يتوقف سائقُ سيارة هونداي فجأةً وقبل أن يهرول ليتبول جانب شاحنة تركية، يصدمه بيكاب آتٍ من جهة دهوك ويلقيه في السماء. جنديٌ يتمشى بتثاقل أمام محرس الجسر. يظهر ويختفي تحت شجرة كينا، بارودته الكلاشنيكوف على كرسي بلاستيكي حيث كان يجلس منذ قليل.

الجندي لا يلتفت إلى الحادث الذي لم يقع. المحلات مغلقة تغرق في ضجرٍ يكتنفه قلق يكتنفه حرّ لا يطاق وما من بشرٍ سوى رجل يسبح أسفل الجسر ربما هو رأسٌ طافٍ وما من جسد تحت الماء. ليس الحظ ما تفكر فيه أو عشبة جلجامش أو سيارة تقلك إلى أربيل بل هاجس غريب لا يزال يراودك منذ أسبوع: لماذا تنتحر النساء في كوردستان؟

* * *

5

“ذات يوم ستنبح الطيور في كوردستان”، علّقتُ مستهزئاً حين عبر بجوارنا طيرٌ يغرّد بغرابة في حديقة سامي عبد الرحمن. أفكّر في أخي الذي قُتِل في الحرب منذ عشرة أيام. “لا يزال في مشفى حرستا، حفروا قبره، وخيمة العزاء أقيمت على البيدر، لكن لا طريق من الشام إلى حلب”، قالت كيبار.

لا حاجة للتخمين أنها كانت تبكي على الهاتف. الآن لا أخشى شيئاً. كرهت إسمي الذي يحمله سياسيون ومرتزقة. وقصصت شعري الطويل حتى أكون لا أحد. وقع أسوأ ما كنت أتوقعه: حياتنا أصبحت تُبَثُّ مباشرةً على التلفاز. سوى ذلك، أربيل لا تُحتمل، جميلة في البروشورات.

ريزان أمسك علبة سبراي ويطارد صرصاراً يفر على حافة باب التواليت. بروين شاردة تحضّر صحون الفواكه وتحلم بمنزلٍ في نيوزيلاندا.

* * *

6

حياتي ترجمة سيئة للحياة، أقلّد الشعراء الغنائيين وأضيف وأنا أحكّ بظفري مكان الـ”باس وورد” في بطاقة الموبايل: أمنحكم ما منحتنيه الحياة. أمنحكم اليأس. الشاشة في صدر المول تعرض كليبات صاخبة يرقص فيها شبّان فوق جبال كوردستان بملابس فولكلورية، وأخرى يذرف فيها المغنّي الدموع من أجل حبيبة مفترضة، واضح من ملامحها أنها عارضة أزياء وأجنبية. زيزو الصغيرة لم تتعرف إليَّ أسفل السلّم الكهربائي. كانت مشغولة بالزبائن، تناولهم بطاقات اشتراك في اليانصيب الذي سيجري في التاسعة. تركت غسان هنا البارحة. مصادفته تعني أن الأحد هو السبت وأنه سيبقى في كافيه الطابق الثاني منتظراً حركة من النادلة التي ترتدي الجينز الأسود وتقيم لاجئة في ضاحية كاسنزان. في الطريق إلى دائرة الإقامة أتأمل ملصقاً عملاقاً لراغب علامة مطلاً على أربيل، مرتدياً بذلة أنيقة خلفه أضواء مدينة ما، ينظر نظرة من يملك كل شيء ويبتسم ابتسامة من يعرف أنه محبوب. أمعائي تزعجني من عشاء متأخر بعد منتصف الليل، قبعتي الرياضية غامقة لكثرة ما تعرقت. يبدو أن لا شيء يؤلم في الصباح أكثر من الندم في الصباح. كدت أصدق انني عالق في حلم. أصرخ من دون أن يخرج صوت مني. أعرف أنني أحلم

لكن لا أقدر على الإستيقاظ.

* * *

7

أحببتُ رواية ما ثم بدأت أتصرف مثل بطلها الشاب الذي لا شيء في حياته سوى قراءة الروايات أثناء الحرب. في كاراج السيارات بأربيل كان مدير المكتب يعلك علكة كبيرة ينفخها بشكل بالونات مطاطية ثم يفجرها برشاقة فيما العمال جالسون بتثاقل على الكنبات يرتشفون الشاي ويحملقون في المشاهد الأخيرة من فيلم لدينزل واشنطن تحاصر فيه الشرطة مشفى اختطف فيه السيد جون رهائن لينقذ ابنه المريض بالقلب. يا خليل، يا فتى، فلتكن بندقيتك على كتفك، الحرب لا ترحم. انتظرنا أكثر من ساعتين،

وما فعلناه كنا نخمّن جنسيات الذين يمرون قبالتنا نحو ساحة نيشتيمان: البنغال الذين يقطعون الحدود مُهَرّبين ليعملوا عمال نظافة، اللبنانيون المغامرون في عينكاوا، الأتراك الذين أينما ذهبت، البغداديون، الإيرانيون، الأكراد السوريون الذين حسبوا أنهم يدخلون الأرض المقدسة لاجئين ثم اكتشفوا أنهم ليسوا سوى غرباء والغرباء ليسوا سوى شياطين.

“لا تثق بالسائقين”، قالها الطبيب الذاهب إلى باتيفا. قاطعته ساخراً: “وبالشراميط والسياسيين”، لكنه أضاف مغمغماً كأنه لم يسمعني وكأنما يقتبس كلاماً مترجماً من مكان آخر: “ثق بالكلام القليل العابر الذي يتركه المنتحرون في فندق ما”.

في طريق دهوك بكى أحدنا في التاكسي بدون سبب حين ذُكِرَت حلب.

باتيفا، باتيفا. يا خليل، يا فتى، العن الحكومة واذهب إلى الجبال ولتكن بندقيتك على كتفك. لا أحد يرحم.

 شاعر كردي سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى