صفحات الرأي

أوروبا.. وتاريخ من الوحدة والتفكك/ المثنى حجي

 

 

-1-

تمثل الإمبراطورية الرومانية الأولى ومركزها إيطاليا أول محاولة كبرى لتوحيد أوروبا، وشمل العالم الروماني أجزاءً من شرق المتوسط وشمال أفريقيا، لكن هذه المحاولة في بداياتها لم تكن تحت شعارات قومية أو دينية، بل كانت رسالة حضارية عبر الولاء للمواطنة الرومانية التي تشمل عدداً كبيراً من الشعوب والعرقيات المختلفة التي تقع تحت سلطة القانون الروماني، وحتى النظرة الاحتقارية للرومان تجاه من وصفوهم بالبرابرة كانت بسبب اعتقاد الرومان بتفوق أنموذجهم الحضاري وليس تفوق عرقي ولا ديني.

بدأ الأمر بالاختلاف بعد استيلاء المسيحية على السلطة في روما ابتداء من القرن الرابع الميلادي، إذ أخذت الإمبراطورية الرومانية طابعاً مسيحياً مقدساً وعمل الأباطرة والباباوات لبقاء التوحيد الأوروبي تحت دعاوى دينية، وشنوا حروباً صليبية مدوية داخل أوروبا ونجحوا في إبادة كل الأديان الأوروبية وغير الأوروبية الوثنية السابقة للمسيحية باستثناء اليهودية التي صمدت للامتحان، إلا أن الإمبراطورية سقطت في النهاية تحت ضربات البرابرة الجرمان والقوط والفاندال الذين استولوا على روما واسقطوا الإمبراطورية الرومانية الغربية. استمر حلم توحيد أوروبا عبر التاريخ وإن لم يأخذ في بداياته شكل أفكار ثقافية عليا، بل أخذ أشكال حالات توحيد قسري نتيجة لطموح ملكيات في توسيع رقعة أراضيها، ولكن في أحيان ثالثة كان نتيجة لظهور تهديد خارجي أدى لظهور إحساس بوجود قيم أوروبية مشتركة حتى مع اختلاف المواقع والقوميات وظروف القبائل والملكيات الأوروبية، وهذا التهديد أدى لظهور نزعة دفاع مشترك في مواجهة المخاطر الخارجية.

مثّل النجاح السريع والمذهل للفتح الإسلامي في الأندلس أحد أكبر هذه التحديات للروح والثقافة والدين في القارة الأوروبية التي أدت لتصاعد الإحساس بالخطر الإسلامي على الثقافة الدينية في أوروبا، مما دعا أوروبا إلى التكتل خلف ملك فرنسا شارل مارتل الذي استطاع أخيراً إيقاف الزحف الإسلامي على مشارف باريس في موقعة بواتييه الشهيرة، ولكن لم يقل الإحساس الأوروبي بالخوف من التهديد الخارجي بعد انتصار بواتييه، إذ قام الملك شارلمان حفيد شارل مارتل بتأسيس «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» الثانية على مساحة أوروبية كبرى، شملت دول قلب أوروبا التي حملت تاريخياً هم الدفاع عن المصالح والقيم القومية والدينية لأوروبا وهما ألمانيا وفرنسا، اللتان تقومان بهذا الدور منذ ذلك الوقت، مروراً بالحروب الصليبية على المشرق العربي، وحتى الوحدة الأوروبية الحالية.

سعت الدولتان بعد ذلك للتشكيل والسيطرة على القارة الأوروبية، إذ نجح نابليون بونابارت في إقناع شعبه أن له رسالة تاريخية بإنشاء الحضارة والإمبراطورية الفرنسية، فزحف في كل الاتجاهات محاولاً توحيد أوروبا، ولكن أحلامه انتهت في وارترلو على يد دوق ولينجتون، ثم جاء دور الألمان مرة أخرى عندما نجح بسمارك في توحيد ألمانيا مُطلقاً الإمبراطورية الألمانية التي عرفت بـ«الرايخ الثاني» وانتهى الحلم على يد الحلفاء في ١٩١٨، ثم سعى أدولف هتلر لتوحيد أوروبا تحت راية «الرايخ الثالث» لفرض إرادة وحضارة الشعب الجرماني على أوروبا أولاً ثم بقية البشرية، وانتهت محاولته بشكل مأسوي في ١٩٤٥.

نلاحظ أنه خلال تاريخ الصراع الأوروبي حول تشكيل الهوية والقيم الأوروبية والدفاع عنها كان إسهام بريطانيا محدوداً مقارنة مع فرنسا وألمانيا، فكانت بريطانيا تحس دائماً بنزعة الاختلاف والتفرد عن بقية أوروبا، وحتى عندما قررت بريطانيا إنشاء إمبراطوريتها العظمى ذهبت بجيوشها وطموحاتها إلى القارة الأميركية وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، وظل حضورها العسكري في أوروبا محدوداً.

كان الإحساس الوطني تطور بقوة خلال عصور النهضة كرد فعل على طغيان العامل الديني وشهد نمواً متسارعاً بعد الثورة الفرنسية ونضوج مفهوم الدولة القومية، وفي أغلب أوقات صعود الحراك الوحدوي سواء العسكري على طريقة نابليون وهتلر أم الديني على أساس الإمبراطوريات المقدسة وسعي الكنيسة لبسط هيمنة على عالم متقارب الانتماء الديني كان العامل القومي هو السبب في عودة التفكك أو مقاومة التوحيد القسري، فلم يقبل الفرنسيون التوحيد تحت شروط ألمانيا النازية ولا قبلت القوميات الأوروبية الاستسلام للهوية الفرنسية لنابوليون بونابارت.

منذ نهاية الحرب العالم الثانية لجأت أوروبا لتعزيز مفاهيم وحدوية، ولكن وفق آليات جديدة بدأت باتفاقات تجارية حول الفحم والطاقة، ثم تطورت تدريجياً تحت تأثير عامل المصلحة الاقتصادية أولاً، ثم لتحقيق قدر من التكامل لتعزيز بقاء أوروبا، وتطور الوضع تدريجياً بمباركة وحماية الولايات المتحدة التي وجدت لها مصلحة في أوروبا قوية وناجحة اقتصادياً للوقوف أمام التوسع السوفياتي الذي هدد العالم الغربي، وقامت بريطانيا خلال هذه الفترة بدور مرموق على صعيد الدفاع العسكري عن أوروبا، أما في ما يتعلق بالشأن السياسي لعبت ليس فقط دور الشريك المشاغب لبقية دول الاتحاد، بل دور الزوجة الخائنة، فكانت توازن بين انتمائها الأوروبي من ناحية وانتمائها البروتستانتي الأنجلوساكسوني في علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، واستطاعت التكسب على الجبهتين، فبريطانيا لم تخرج بعد من عقلية التميز والميل الانعزالية، فرفضت أصلاً دخول الاتفاق النقدي ورفضت التخلي عن الجنيه الأسترليني، واندمجت بتردد في الهوية الأوروبية، لكن على رغم العمل والبحث عن المصير الأوروبي المشترك لم تفلح أوروبا في تطوير قومية أو هوية أوروبية موحدة، على رغم المصالح الكبيرة المشتركة، فعادت القوميات الجزئية للظهور بقوة حتى وصلت إلى ما رأيناه من نتائج الاستفتاء الذي جرى في بريطانيا.

التطورات الأخيرة في أوروبا التي توجتها نتائج الاستفتاء البريطاني الذي نجم عنه اختيار إحدى أكبر دول أوروبا الانفصال عن الاتحاد الأوروبي لم تكن وليدة اللحظة، بل إن تراكماتها ومسبباتها كانت ظاهرة للعيان منذ مدة طويلة، فحتى قبل البداية الحقيقية للاتحاد الأوروبي كان بادياً للعيان أن إلقاء بعض دوله الهشة اقتصادياً والضعيفة الأسس التعليمية والإنتاجية وقدرات الصناعة والابتكار مثل اليونان في حلبة منافسة حرة مع عمالقة أوروبا في الاقتصاد والعلوم والصناعة مثل فرنسا أو ألمانيا وخصوصاً بعد توحيدها تشبه فكرة مطالبة شخص عادي بمنافسة مفتوحة على الحلبة مع بطل العالم للملاكمة، وهي منافسة نتائجها الكارثية واضحة مقدماً على الدول الأقل قدرة على المنافسة، فاليونان التي انهارت صادراتها السلعية والخدمية بسبب عدم تمكنها من المنافسة في الوقت الذي سعى سياسيوها للإفراط في الإنفاق الاجتماعي ودولة الرفاه استناداً إلى اقتصاد ألمانيا وفرنسا، استيقظت على إفلاس، ورفضت أوروبا إنقاذها إلا بشروط مذلة وضعت مستقبل اليونان السياسي والاقتصادي في يد ألمانيا، وقد تتبعها البرتغال وأرلندا وآخرون.

-2-

< أسس الاتحاد الأوروبي نخب ليبرالية عولمية وقادته في كل مراحله بسبب الخوف من السوفيات في البداية ثم نشوة الانتصار في الحرب الباردة والاعتقاد بالانتصار النهائي للحضارة الغربية، ويبدو أن الأوروبيين عندما وضعوا القوانين الموحدة للاقتصاد والهجرة لم يخطر ببالهم أن العالم يعيش بشكل مختلف وأن الحروب والمآسي ستجبرهم على إعادة النظر.

ازدادت العنصرية الأوروبية بشدة بسبب مشكلتي ملايين اللاجئين من دول أوروبا الشرقية الذين شكلوا ضغطاً على سوق الوظائف في الدول الأغنى والأعباء المتزايدة على الدول الغنية لمساعدة الدول الأفقر، وظهر ارتفاع كبير في قوة اليمين في هذه الدول وزيادة في جرعة العنصرية التي أصبحت واضحة بشكل متزايد، تلتها موجات الشعوبية التي وصلت إلى مرحلة خطرة من رفض الاستمرار في الاتجاه ذاته، وهو ما نتج منه أول رد فعل كبير في الاستفتاء البريطاني، وفي حال انسحاب بريطانيا، التي مثلت عضو ليبرالياً، سيميل الاتحاد إلى المزيد من السياسات المحافظة في ما يتعلق بالمسألتين الأكثر خطورة، وهما ملفي الهجرة والأمن، والمؤكد في كل الأحوال أن أوروبا لن تعود كما كانت.

أوروبا وعلى رأسها بريطانيا ستدفع ثمن القرار البريطاني في أشكال عدة، منها بعض التراجع الاقتصادي، إذ تراجع الجنية الإسترليني فوراً وضاعت ترليوني دولار من أسواق الأسهم، ومن المتوقع أن يواجه الاقتصاد البريطاني الركود، وكذلك من المؤكد أن أوروبا لن تسهل خروج بريطانيا من الاتحاد بأقل الخسائر، بل على العكس قد تلجأ دول أوروبا إلى رفع خسائر بريطانيا من الخروج، والتباشير بدأت بمطالبة ألمانيا لبريطانيا بالإسراع في تقديم طلب الانسحاب من الاتحاد، ثم بخفض «موديز» لتصنيف بريطانيا الائتماني لإرسال رسائل للدول الأخرى التي قد تفكر في تكرار التجربة.

خروج بريطانيا لن يكون سريعاً وسهلاً، بل سيكون هناك عامين لإعادة التفاوض على الاتفاقات كافة ولن يكون الخروج رخيصاً، بل ربما يكتشف المواطن البريطاني في الأشهر المقبلة أن ثمن الانفصال أكبر من ثمن البقاء في الاتحاد، مما يغير اتجاههم من الانسحاب التام إلى تعديل الاتفاقات للوصول إلى مرحلة أدنى من المشاركة مع أوروبا كالاتحاد الجمركي.

واجهت الوحدة الأوروبية منذ بدايتها جدلاً حاداً بسبب عوامل عدة، منها اضطرار كل دولة للتنازل عن جزء من سيادتها الوطنية لمصلحة الكيان الجديد، مثل إقرار السياسات النقدية الخاصة بها، ثم أجبرت على التخلي عن عملتها الوطنية وانتقلت القرارات النقدية لمصلحة البنك المركزي الأوروبي، كذلك دخول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد أدى لظهور أعباء مالية كبيرة تتحملها الدول الغنية غرب أوروبا مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا لدعم اقتصاديات شرق أوروبا.

يتركز معظم التيار الذي صوت لمصلحة الانفصال عن أوروبا في سكان أطراف إنكلترا، إذ يقل الاختلاط السكاني مع المهاجرين وترتفع نسب العنصرية وفي من تجاوزوا عمر ٥٠ عاماً، وأما سكان لندن المختلطة عرقياً وفئة الشبان فصوّت معظمهم للبقاء في أوروبا، أما المقاطعات الأخرى مثل أسكتلندا وأرلندا فصوتوا لمصلحة الاتحاد الأوروبي، لأن الأقليات تفضل دمج بلادها في كيان قاري واسع لتذويب قوة الكتلة القومية الحاكمة عبر الانتماء إلى كيان أكبر وأكثر تعددية يشترك فيه الجمع في القرار فيعجز اليمين المحلي الحاكم عن فرض شروطه داخلياً، مما يفسر إصرار الأقليات الانفصالية في أسكتلندا وأرلندا في بريطانيا وإقليمي كاتالونيا والباسك الإسبانيين وشمال إيطاليا وبلجيكا على البقاء في الاتحاد الأوروبي.

ما قد يحدث هو عودة الروح الاستقلالية لأسكتلندا، فأحد أهم أسباب تصويت الأسكتلنديين لبقاء بلادهم مع بريطانيا هو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، فالانتماء إلى كيان أوروبي كبير ومتعدد من شأنه تذويب العنصرية الإنكليزية المحلية، وانفصال بريطانيا الآن وانتصار اليمين الإنكليزي قد يؤدي إلى عودة صعود اليمين القومي الأسكتلندي الذي يرى أن تضحيته باستقلال أسكتلندا لمصلحة الوحدة مع بريطانيا لم يعد لها معنى بعد أن فرض اليمين الإنكليزي شروطه بالانفصال عن أوروبا.

واجه الاتحاد السوفياتي وجود أزمات كبرى أدت إلى تفككه في ثمانينات القرن الماضي، ابتدأت من أزمة اقتصادية طاحنة، تلتها تفجير الأزمات الداخلية كافة من سياسية وقومية وعقائدية، وأدت أزمات الهوية بين المركز والأطراف إلى تفكك عملي كامل للاتحاد، وهو ما لا نتوقع حدوثه بالدرجة نفسها في الاتحاد الأوروبي، كونه بني على أساس قناعات حرة احترمت القرار السياسي والاقتصادي والوطني للدول المشتركة، فهو اتحاد اختياري، لكن قاومت الجماعات اليمينية هذا الاتجاه من اليوم الأول، واستطاعت تصيد الأخطاء المتراكمة للقيادات السياسية التي لم تستطع حل الكم المتراكم من القضايا السياسية والأمنية للاتحاد، لكن يمكن القول أن البقاء في الاتحاد الأوروبي ما زال يملك زخماً كافياً، ولكن لم يعد ممكناً حل القضايا عبر الحلول «الترقيعية»، بل إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى «بيريسترويكا» تعيد ترتيب الكثير من الأوضاع، أو قد تلجأ أوروبا لامتصاص موجة اليمين والانفصال باستحداث إصلاحات تعيد لحكومات الأعضاء بعض صلاحياتهم الوطنية، وتحد أو تجمد الهجرة إلى بلادهم لسنوات مثلاً لامتصاص مخاوف السكان على أمن بلادهم وهويتهم الوطنية، وذلك قبل أن تتجه موجة الإحباط والانفصال إلى دول أخرى مثل إسبانيا، التي لديها أزمة في إقليمي كاتالونيا والباسك، أو أقاليم شمال إيطاليا أو بلجيكا، مما يعزز فرضية تشدد هذه الدول في مفاوضات انسحاب بريطانيا لرفع الثمن عليها، لأن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيشجع على مطالبة أسكتلندا وأرلندا للانفصال عن بريطانيا، وإن حدث ذلك سيفتح باباً واسعاً لتفكيك كل من إسبانيا وبلجيكا وإيطاليا وأقاليم أخرى في القارة.

الولايات المتحدة التي تحملت جزءاً مهم من أعباء إعادة بناء أوروبا عبر مشروع مارشال الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، تريد أوروبا قوية لكن ليس لدرجة منافستها في القرار الدولي، وتريدها مستقرة مزدهرة اقتصادياً لتتحمل جزءاً أكبر من تكاليف الدفاع عن القارة التي تتحمل الولايات المتحدة جزءاً ضخماً منها، في الوقت الذي تعاني فيه الولايات المتحدة من تراجع اقتصادي كبير لن تسعد بالانفصال الذي سيهدد قوة ودور بريطانيا وأوروبا في الدفاع عن القارة أو دورها القيادي في حلف الناتو في مواجهة التوسع الروسي الخطر في جورجيا ثم أوكرانيا والقرم.

أما روسيا الأكثر سعادة بانسحاب بريطانيا كونها الخصم التاريخي والسياسي والعرقي السلافي منذ عهد القياصرة، ستسعى بكل الوسائل لتفكيك القارة عبر إلهام وتشجيع الجماعات اليمينية في أوروبا لفرض الإرادة التوسعية لروسيا.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى