صفحات الناس

أوقفوا براميل الجوع!/ روجيه عوطة

لا يوجد طعام كي نستعمل الملاعق…

 الطحين المفقود في اليرموك هو مسحوق الموت الذي يحمل الجلد اليابس كلونٍ له. هذا ما تؤكده الصور التي تصل إلى “فايسبوك” من قلب الحصار المضروب على المخيم، إذ تظهر فيها أجساد الفلسطينيين هامدة، لا رطوبة فيها، ولا دليل على السيلان في عروقها. ناشفة وجوه الأطفال، عظمها مستعد للكسر، وعيونها جاحظة، وأسنانها ناتئة، فكل عضوٍ، يوحي للمشاهد أن الجسم يغادر الجسم، وأن المنية قد أدركتهما.

نافل القول إن الذي يحصل في اليرموك كارثة بشرية، لا يرغب أحدٌ في معاينتها، وفي مساعدة ضحاياها. الفلسطينيون، مثل السوريين تماماً، موضوع تخلٍّ سياسي، وغض طرف أخلاقي، تالياً، هم موضوع إبادة جماعية، ومن ثم إبادة للإبادة. فأن يُقتل المرء جوعاً في مخيم اليرموك، أو قصفاً في مخيم “سوريا الأسد”، ذاك، يعني أنه سينعدم بلا أن يصبح رقماً، بلا أن يصبح أي شيء، كأنه لم يكن من قبل. “أنتَ أقصف، جوٍّع، ونحن لا نعدّ كي تقصف وتجوِّع أكثر”، هذا ما يقوله العالم، المتوقف عن إحصاء القتلى، للديكتاتور، الذي يأخذ بهذا القول، غير متراجع عن ارتكاباته.

 لكن، الإفتراض إلى جانب الفلسطينيين والسوريين، المحاصرين داخل المخيم، أو معه في أمكنةٍ أخرى. إذ ينشرون الفيديوات على “يوتيوب”، والصور في “فايسبوك”، وينسقون في رحابه التحركات والوقفات التضامنية، كما يعتمدون التغريد في “تويتر” كمشاركة في الدفاع عن اليرموك بالهاشتاغ الموحّد. فقد يكون هذا النشاط الإنترنتي علامة عجز واقعي، لكنه، من دلالة مقابلة، عبارة عن حركة، من الممكن أن تؤدي إلى تعزيز التفاعل خارج المواقع، وهذا ما يبدل حال من أحوال الحصار الأسدي.

 في هذا السياق، أطلقت حملة “أنقذوا مخيم اليرموك”، التي تبدو أنها لم تصدر عن جهة بعينها، بل أنها توزع العبارة نفسها، أو العنوان ذاته، على صفحات كثيرة، من قبيل “قاوم-الصفحة الرسمية”، و”مخيم اليرموك نيوز”، و”مخيم اليرموك:حصار، جوع، كرامة” إلخ. فتؤلف “أنقذوا” محور التضامن مع اليرموكيين، وعلى جدرانها، ترتفع الصور المؤلمة والتعليقات المنددة، بالإضافة إلى التناقش حيال سُبل تحدي الحصار وكسره، أو التصدي لتهديد المجاعة، التي تنذر بالخطر داخل المخيم.في النتيجة، تسعى هذه المحملة إلى إنقاذ المحاصرين، وتحريرهم، كما لو أنهم معتقلون، على ما فيه من تشابه بين الحصار والسجن، مثلما تشير سميرة الخليل إلى ذاك في حديث مع صديقتها رزان زيتونة.

إذاً، اليرموك معتقل، ويُعذب بالمجاعة، أو بالأحرى يُرمى ببراميل الجوع، التي تنزل على السكان، وتحصد أجسادهم الواحد تلو الآخر. هذا ما يزيل معالم المكان أولاً، ويلغي اللاجئين إليه ثانياً، لذا، كان الرد عليه بإعلان السبت، 11\01\2014، يوماً إعلامياً، تعمد خلاله عددٌ من الإذاعات العربية إلى البث من أجل المخيم، معينة ً مصدر أثيرها بعبارة “هنا اليرموك”. كما لو أنها مصرة على إبقاء المخيم حاضراً، وغير خاضع للتجويع خارجياً، واحتكار المواد الغذائية داخلياً، إذ ذكرت إحدى الصور المنشورة، أن كيلو الأرز في اليرموك قد بلغ المئة دولار أميركية، بسبب الطلب المتواصل عليه، أو ربما نتيجة وضع اليد عليه من قبل جهة تجارية محددة.

في كل الأحوال، تستمر الحملة في التفاعل مع المعنيين بها، علّها تبلغ هدفها، أو تعين في شق الطريق نحوه، وبالتالي، اختراق الحصار المضروبة على المخيم، أكانت العسكرية، أو الإنسانية، بالمأكل والدواء. فاللاجئون الفلسطينيون، الذين، ذات مرة، استقبلوا الهاربين السوريين في مخيماتهم، يشكلون صورة عما يرغب فيه بشار الأسد حيال المحكومين: الطرد، الإعتقال، القتل. بهذه الأفعال الثلاثة، يتسلط الديكتاتور سياسياً وحربياً، فيغتال طفلة ًمثل آلاء المصري، أو مريم الخمسين… طفلة، لم تحتج سوى إلى الحليب لتشرب، والكساء، كي تتقي البرد، لكن، برميل الجوع وقع على جسدها الصغير، وقتلها، ساحباً اللون من جلدها. أنقذوا مخيم اليرموك، أنقذوا ما تبقى لنا من دقيق الأخلاق!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى