صفحات الثقافة

أولئك الذين لا يحبّون الظهور/ نجوى بركات

 

 

 

هنالك نوع نادر جداً من الكتّاب الذين لا تعنيهم الشهرة. بل إنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك بكثير، إلى درجة التخفّي تحت اسمٍ مستعار يلتصق بكاتبٍ ليس هُم بأية حال، وأحيانا أخرى إلى خيارٍ أقصى، هو ببساطة عدم النشر. لكأنّ حياتهم لا تعني، في نظرهم، شيئا يستحق الإفصاح عنه. فخارج الكتابة، لا استثناء فيهم، لا خاصية. والكتابة، في مستواها الخالص الموسوم بخاتم الحميم والدفين غير الممسوس، هي ما يُكسبهم معنىً.

تماما كمن يعثر في قاعه على منجم ماس، لا يتقاسم هؤلاء الكتّاب مكان كنزهم والآخرين، يخافون على صفائه، يخشون الإغراءات، الإطراءات، حسابات الربح والخسارة، والتشويش على كل ما يصنع هوية الكتابة، قبل أن تصبح أرضا مشاعا في أيدي الآخرين. وقد يرى هؤلاء أن كتابتهم كائنةٌ في مكانٍ قصيّ، وأنهم، بحيواتهم التافهة التي هي دونها بكثير، كائنون في مكانٍ آخر، فما لزوم المفاخرة ولِم وبمَ الاعتزاز؟ أبجمع ما لا يُجمع، لا بالحلال ولا بالحرام؟ يدرك الكاتب الذي يحبّ الكتابة حدّ التقديس أنّ كل ما هو خارجها مضرّ بها. فهناك، من جهة، ذلك الخيط الرفيع الذي يسير عليه، ليقبض على الفراشة النادرة. ومن جهة أخرى، الحياة الغبية بمعاييرها التي من طموح وأرقام ومغالاة.

كتب فرناندو بيسّوا، وهو أحد أكبر كتّاب العصر وأهمهم، الكثير الكثير، ولم ينشر إلا اليسير اليسير. بعد رحيله، وجدوا في حقيبة له أكثر من 27 ألف نصّ بين شعر ونثر ومسرح، وقّعها باسمه وبأسمائه المستعارة الأخرى التي خصّ كلاً منها بشخصيةٍ مختلفة. في حياته، لم يشتهر، عمل مترجما تجاريا ولم يتوقف يوما عن الكتابة. لم يسئ إليه ألّا يُنشر، بل لربما دفعه الأمر إلى مزيدٍ من الإبداع والتجريب والحداثة. فقد كتب بيسّوا بحريةٍ قلّما بلغها كاتب، أبدع خارج الزمن والمكان ومعايير التأثير والتلقّي، فأنتج ما تعرّف إليه القارئ وأحبّه على مستوى كوني. منذ رحيله في العام 1935، تظهر كتبه وتترجَم وتقرأ في العالم أجمع، ما يجعله من أكثر الكتّاب إنتاجا ووجوداً وحيوية، على الرغم من وفاته منذ أكثر من ثمانين عاما.

وإن بدا بيسّوا مثالا متطرّفا أقصى، فإن كتّابا غيره هربوا من أضواء الشهرة، واعتزلوا العالم والأضواء بشكل تام. من بينهم الكاتب الشهير ج. د. سالينجر (1919) الذي عرفت روايته الأولى، “الحارس في حقل الشوفان”، انتشارا مدّويا، وقد بيعت منها الملايينُ فور نشرها في 1951. وما زالت مطلوبة جدا، بعد أن تُرجمت إلى 30 لغة، وبلغت مبيعاتها 65 مليون نسخة. قضى جيروم ديفيد سالينجر أكثر من أربعين عاما منعزلا عن الآخرين، في بيتٍ صغير وشبه حقير، يرفض استقبال الصحفيين أو الناشرين، أو الردّ على أية أسئلة. كان يتعاطى مع شهرته على أنها لعنة أصابته، طالما أنها ما كانت أبدا من أهداف الكتابة بالنسبة إليه. كان سالينجر رجلا يحبّ الدخول في ذاته، راغبا بوحدته، بحيث إن النساء الكثيرات اللاتي تعرف إليهن، في أحيانٍ كثيرة، من خلال مراسلتهن، وأقام معهن علاقات أو اقترن بهن، لم يصمدن طويلا أمام رغبته تلك بالوحدة.

مثال ثالث ومعاصر، هذي المرة، هو ظاهرة الكاتبة الإيطالية، إيلينا فيرّانتي، التي تلاقي رواياتها، ضمن رباعية نابولي، الصديقة المذهلة، رواجا هائلا حول العالم منذ نحو ثلاث سنوات. إيلينا فيرانتي هو اسم مستعار لكاتبة (أو لكاتبٍ) إيطالية ولدت في العام 1943 في نابولي، وكتبت سبع روايات ودراسة واحدة، نشر أوّلها في 1992. والآن، وبعد أن دخلت قائمة المائة شخص الأكثر تأثيراً في العالم لعام 2016، وبعد أن اعتبرتها “ذا إيكونوميست” “أهم روائية معاصرة ربما”، كما فعلت “نيويورك تايمز” و”فايننشال تايم” و”نيويوركر” و”نيويورك بوك ريفيو”، ما زالت لم تكشف هويتها، ولم يعرف عنها كائن ما كان.

قالت فيرانتي، في إحدى المقابلات القليلة التي ردّت على أسئلتها كتابيا: “بفخرٍ أقول إن عناوين كتبي معروفة في بلادي أكثر من اسمي. وهذي، على ما أظنّ، نتيجة جيدة”.

أجل، قد تكون نتيجةً جيدةً بالفعل أن تُعرف الكتبُ من دون أسماء أصحابها!

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى