محمد تركي الربيعومراجعات كتب

أوليفيه روا: إسلام اليوم يعيش تحت الحصار في فرنسا/ محمد تركي الربيعو

 

 

يظهر الإسلام في فرنسا اليوم بمثابة مسألة شبه وجودية، حيث يبدو وكأنه يطعن في هوية البلاد نفسها، أو على الأقل في طبيعة مؤسساتها، مما يستدعي التعبئة للدفاع عن «القيم الجمهورية» وعن «العلمانية».

كما تسهم حملة الترهيب والمحاكمة غير المبررة، التي نشهدها تجاه الإسلام في إعادة تكوين المشهد السياسي والفكري الفرنسي، إذ نجد فيها العديد من المكونات المتنافرة. ولا شك في أن أكثر الناس عداء لوجود المهاجرين وللإسلام هم أولئك الذين يرون أن الإرث المسيحي يشكل جزءا من الهوية الفرنسية والأوروبية، وبناء على ذلك يرون أن الإسلام غير قابل للاندماج، حتى في شكل «علماني». يضاف إلى ذلك عداء الأوساط التي تدعي الانتماء إلى الجمهورية والعلمانية، التي تتصور الأصولية الإسلامية أكثر تهديدا مما كانت عليه نظيرتها الأصولية المسيحية، كونها على علاقة وطيدة بالنزعة العالمثالثية ومعاداة السامية.

ولعل هذا السجال الناشب على نحو سيئ المشوش الحزبي، والمشبوب بالعاطفة، هو ما يمثل محور اهتمام الأنثربولوجي الفرنسي أوليفيه ورا في كتابه المترجم حديثا للعربية «الإسلام والعلمانية» ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، 2016.

حيث يعتقد روا أن سبب هذا الموقف الجديد تجاه الإسلام يعود في جذوره إلى ثمانينيات القرن الماضي. ففي اللحظة التي بدت فيها العلمانية المناضلة على شفا الانقراض لعدم توافر المناضلين، إذ بها تستجمع قواها لتنهض مجددا في مواجهة عدو جديد هو الإسلام. وفيما كان النزاع مع الكنيسة الكاثوليكية قد هدأ ظهرت أشكال جديدة من التدين، ليست كلها مرتبطة بالإسلام: اليهود السفرديون المرحلون من الجزائر إلى فرنسا يبثون ورعا مكشوفا في اليهودية الفرنسية، ويضع الإنجيليون البروتستانت والحركات المستهوية للجمهور مسألة الإيمان في المرتبة الأولى، ويهجرون جدران الكنيسة أو المعبد الأربعة لكي يظهروا أنفسهم في الشارع، وتتكاثر البدع.

ولذلك كان من الطبيعي أن يكون الإسلام في قلب هذا الإحساس بالقلق، خاصة أن له وزنا ديموغرافيا مقارنة بباقي الحركات، ما قد يعني أن أي سيرورة تطييف إسلامية قد تؤدي إلى فقدان التوازن في المجتمع الفرنسي، أولا عبر تجزئة المجتمع من الأسفل، وعبر وصل «الغيتوات» بإسلام عالمي غير مرتبط في نطاق الدولة الأمة من ناحية، وقادر على نقل نزاعات الشرق الأوسط إلى قلب فرنسا.

ورغم أن هذه الرؤية لم تكن غريبة عند اليمينيين في فرنسا، بيد أن الجديد في هذه الرؤية -كما يرى روا- أنها أخذت تؤثر على الأوساط اليسارية التي عرفت في السابق بدفاعها عن حقوق المهاجرين ضد الجبهة الوطنية اليمنية المتطرفة، عبر تولد قناعة لديها بأنه من الملح فصل الإسلام عن الهجرة، بمعنى القبول بفكرة اندماج الآخر في المجتمع الفرنسي، غير أن الإسلام يبقى عائقا، «ما من ضغينة على المهاجرين، ولكن نريد مسلمين علمانيين». بمعنى أن اشكالية اندماج المسلمين في فرنسا، إنما أخذت ترتبط بمدى القدرة على تدجين الإسلام ليتناسب مع قيم العقلانية الفرنسية، ما أدى إلى حجب الشأن الاجتماعي والاقتصادي كعوامل أساسية في ما يتعلق باندماج هؤلاء المهاجرين.

ونتيجية لذلك أخذت تعزى مجموعة القضايا التي تطرحها الضواحي والإدماج أو فشله، والطائفية، إلى الواقع الديني أي الإسلام. وبدلا من حصر الديني أخذت العلمانية تعيده باستمرار إلى صلب النقاش وتفسر به أوجه الخلل الاجتماعي. فاذا ما انكفأت الضواحي على نفسها، وارتدى المراهقون ملابس خاصة للتعبير عن هوية أو مطلب غذائي للاعتراض داخل المدرسة، فالخطا يقع على عاتق الإسلام. وينظر إلى الدين كسبب وليس كغرض، ومن جراء ذلك يتم الرد على الديني، حيث ينصب بصورة نهائية كميسم هوياتي وحتى اعتراضي.

الأصولية والمجال العام في فرنسا

من ناحية أخرى يرى روا أن حملة الدفاع عن العلمانية التي نشهدها اليوم ترمي، على وجه الدقة، إلى تقديم الأصوليين الجدد وغيرهم من دعاة الإحياء الديني كأعداء. غير أن أشكال «الأصولية» التي تبرز اليوم بعيدة عن أن تمثل تهديدا على نحو منهجي، ذلك أن عودة الديني في أوروبا والعالم الإسلامي اليوم، ليست تعبيرا عن ديمومة الدين، بمقدار ما باتت تعبر عن إعادة تركيب للديني وفقا لترسيمات لم تعد تعمل في إطار الثنائي التقليدي دولة كنيسة. وإنما تتجه نحو الفرد الذي يكون قادرا على أن يضع حياته تحت التأثير الحصري للديني، والذي يعمد من أجل ذلك إلى قطع الصلة مع محيط الأكثرية.

ورغم أن هذا «المولود» الديني الجديد لا يدرك أنه دنيوي أو مدنون ويرى نفسه على العكس معرفا ومبررا بالديني كليا. ولمّا كانت هذه العلاقة بالديني تعزله عن وسطه الاجتماعي أو تحمله على أن يخلق مجددا مجالا مطيفا فهو يرسم من تلقاء نفسه خطا فاصلا بين «عالم مطهر» وبقية المجتمع. وبذلك فإن هذه الأصولية كما – يرى روا- هي وليدة ما يدعوه اصطلاحا بـ»الدنيوة» التي تؤدي إلى فقدان البداهة الاجتماعية للدين ولزوم أن يعرف المرء نفسه علانية كمؤمن أو غير مؤمن. لا لأن غير المؤمن يناضل ضد الطائفة الدينية وإنما لأن شروط الانتماء إلى جماعة دينية تصبح أضيق: يجب إظهار الدين.

ومن هنا، فان ما تعاد صياغته على هذا النحو هو مفهوم الطائفة المسلمة نفسه في رؤية الأصوليين الجدد، حيث لا ريب في أن الطائفة مغلقة، غير انها تنظر إلى نفسها بوضوح كأقلية في مجال مدنون بالفعل: يعترف بدنيوة المجال العام، لكن المراد أن يتم تسجيل الطائفة فيه على أنها دينية. والمقصود بذلك شكلا من خصخصة المجال العام أكثر من كونه غزوا للمجتمع. وبهذا المعنى لا تكون الأصولية غير ملائمة للدنيوة لكنها تطرح مشكلة العلاقة بالدولة. وفي هذا الاتجاه يمضي النقاش في موضوع الارتداد مثلا. ففي البلدان المسلمة حيث تطرح هذه المسألة على بساط البحث يسترعي الانتباه موقف بعض الأصوليين البارزين الذين لم يطالبوا بإنزال عقوبة الموت بـ»المرتدين» بل إقصائهم قانونيا عن فئة «المسلمين». ولذلك وجدناهم في مصر على سبيل المثال يطالبون بإبطال زواج المفكر نصر حامد أبوزيد بذريعة أنه لم يعد مسلما، وذلك بسبب كتاباته النقدية للدين. وفي باكستان كانت الحملة العنيفة التي قادها أبو الأعلى المودودي ضد القاديانيين (أو الأحمدية) في الخمسينيات من القرن الماضي للاعتراف بهم كأقلية غير مسلمة (وعلى العكس من ذلك فإن الحملة التي قامت في إيران ضد البهائيين كانت تهدف إلى ردهم إلى الإسلام من جديد). ولذلك تلوح وراء راديكالية هذه الحملات رؤية تفيد بأن المسلمين يشكلون طائفة دينية محضة، يمكن أن يبتعد عنها المرء (أو يبعد) ما يعني إذن « القبول بإقامة مجال دنيوي: وهو المجال الذي لا تطبق فيه قوانين الدين».

ومن هنا يعتقد روا- أن البناء الاصولي الجديد، إذ يعرف جماعة المؤمنين لا بمفردات اجتماعية وثقافية ولكن بالتطوع، يبني في الواقع مجالا «آخر» غير مجال المجتمع المحيط، عبر فصل الديني عن الاجتماعي، وبشكل لا تطبق فيه القاعدة إلا على المؤمن. والحال أن هذا المفهوم الطائفي الجديد، الذي غالبا ما تتقاسمه أديان أخرى، يسبب مشكلة للعلمانية لأنه يفترض إنشاء مجال مدنون في المجال العام. بحيث يكون هناك مجالان متجاوران وليسا منفصلين: يعيش المؤمن دينه في المجال نفسه الذي يعيش فيه غير المؤمن، لكنه يقيم في هذا المجال بطريقة مختلفة. وهذا ما لا يمكن للعلمانية الفرنسية أن تتقبله، لأن الدولة هي التي تحدد المجال العام: وهذا المجال لن يكون متعدد المعاني.

ومن هنا وبرأي – روا- لا ينبغي قراءة حركية الأصوليات الجديدة داخل المجال العام بمفردات منذرة بالاستيلاء على السلطة السياسية، بمقدار ما يجب النظر إليها باعتبارها إحدى مفرزات الأشكال المعاصرة لعودة الديني من جانب، ولكونها من جانب آخر تتعلق بميل شديد لدى الفرنسيين لإدراك مسألة العولمة وتجلياتها على الصعيد الهوياتي والديني من خلال نموذج معين من الدولة الأمة اليعقوبية.

باحث سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى