صفحات المستقبل

أول الحقد رصاصة


دارين الحلوي

بعد أكثر من ثلاثة عقود بات بإمكاني زيارته في مقبرته البعيدة. عمي الذي قتل برصاصة غادرة ومنعنا من يومها حتى من الاتيان على ذكره. حتى عندما كبرنا لم يكن السؤال عما حل به ولماذا كبر أولاده من دون والد. اليوم فقط بعدما تطهرت من مرض يدعى العنصرية أصبت به لسنوات.. وما كان الشفاء منه في متناول اليد.

كان لافتاً في الاعتصام التضامني مع الشعب السوري الذي نظمه ناشطون لبنانيون في ساحة الشهداء الاسبوع الماضي مشاركة ناشطين سوريين فيه الى جانب المعتصمين. هؤلاء الذين قربوا المسافات بين البلدين والشعبين. شوق الى سوريا ورغبة مفاجئة لزيارة مدن لم أسمع عنها إلا في الاعلام. لكنها تمر في طيات ذاكرتي وكأني اعرفها منذ صغري. أحفظ شوارعها الداخلية وتربطني بأهاليها مشاعر دافئة.

مدن رأيتها أوراقاً ترفعها ايدي لبنانيين وسوريين في الاعتصام وتنادي باسمها وتضيء لها شموعاً على أمل أن لا يتأخر فجر حريتها.

في ساحة الشهداء التي نادت بخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، أضيئت شموع التضامن مع الشعب السوري الذي يقتل على أيدي الجيش نفسه. شموع قالت عنها مناضلة سورية إنها “شموع بلسمة لجراحنا.. لبنان أيها الغالي يا منفى الوطنيين الأحرار حتى اللبنانيون منهم”.. كلمات اعادت الى ذاكرتي عماً لم أعد أذكر شكله.

أن تذكّرني المدن والمناضلون السوريين بعمي ليس بأمر عادي. أمر لا يسعني إثره الا أن أشكر الشعب السوري على “معروف” ربما لم يكن مقصودا. شكر لاشخاص اسقطنا عليهم، دون ارادة أو تعقل، حقداً غير مبرر. يُشكرون لأنهم تمكنوا من تنظيف ذاكرة سوداء مشتركة. حملنا اوزارها لعقود وحمّلتنا عنصرية ثقيلة الوطأ.

استعيد وأنا اقرأ التعليقات على التحرك ذكرى ذاك العم الذي اصطادته رصاصة ماكرة لا لشيء، فقط لأنه استنكر الانتظار الطويل وغير المبرر عند أحد حواجز الجيش السوري. كان مستعجلا الوصول الى مدرسة أولاده ليقلهم الى البيت. عندما طال انتظاره وغيره من المواطنين في الشارع خرج من سيارته ليتكلم الى العسكري السوري ويطلب منه ان يفتح السير عله يصل الى اولاده قبل ان يصبحوا في الطريق. سخر منه الجندي. جرى اخذ ورد بين الرجلين وكاد ان يتطور الامر. استدرك عمي الموقف بعد ان نهره العسكري طالبا منه العودة الى سيارته. عاد أدراجه كاتما غضبه، فإذا برصاصة تعاجله وتسقطه أرضا.

يموت عمي برصاصة عبثية أو بعثية لا فرق. المهم انه مات برصاص الجيش السوري. وأول الحقد رصاصة. أولاده الثلاثة ورغم مرور نحو ثلاثة عقود لم يستفيقوا من صدمتهم. كانوا صغار جدا عندما قتل والدهم. اليوم كبروا وصاروا آباء. لكنهم حتى اليوم يعيشون على هامش الحياة. على رصيف تمنوا لو ان والدهم سار عليه ليصل اليهم في مدرستهم. ربما استطاع الرصيف ان يبقيه الى جانبهم اليوم. هم اليوم هكذا. العالم بالنسبة اليهم ينتهي بحدود شخص كل منهم، ليتمكن من حماية عائلته، بمعنى البقاء الى جانب افرادها.

أولاد عمي الثلاثة عاشوا على رصيف الحياة ونحن تحول ألمنا الى حقد تعتق مع مر السنين، فغدا عنصرية، ارهقتنا بحملها وما عرفنا سبيل الخلاص.

اليوم فقط بات بإمكاني أن أزور عمي في مقبرته البعيدة ربما في يوم سبت من ايام الجنازات المفتوحة. سأحمل اليه باقة من الياسمين… وسأدعوه لنغني سويا مع السوريين، تماما كما اشاهدهم يفعلون عبر مقاطع الفيديو. اغان تبدو كأنها تراتيل تخرج من افواههم لتعانق ارواح الشهداء في السماء.. سنصدح سويا انا وعمي… سوريا نحنا معاكي للموت..

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى