رفيق شاميصفحات سورية

أول ثورة يفجرها أطفال

 


رفيق شامي

صديقي فوزي،

تحية لك يا شجاع، وتحية لبنات وأبناء هذا الوطن الجريح الشهم.

أتابع من منفاي بطولاتكم وإذا صحت الروايات فإن مفجر النهضة العارمة في درعا سواء كان ذلك  بشكل مباشر أو غير مباشر كانوا أطفالا لم يتجاوزوا العاشرة، بخوا ببراءة على الجدران  ما جاش في أنفسنا جميعا. الأطفال يا عزيزي شعب خاص لا يعرف الرياء والمداهنة، عندما أحكمت المدرسة القبضة على أفواههم ذهبوا إلى الجدران ليخزنوا عليها شتيمة، ساخرين بمن ألهتهم سلطة بلطجية. كتب الأطفال ما عجز عنه فلاسفة لنصف قرن. كتبوا كلمات الثورة الأولى ببراءة لا حدود لها.

وأتت آليات النظام لتلتهم هذا الضوء الذي تسرب من درعا دون أن تدري لغبائها أن خيمة الصمت الثقيلة التي ألقوها فوق رؤوس البشر بدأت تتشقق وبدأ ضوء الدنيا وهواءها النقي يتسرب للصدور المقهورة وبدأت أغاني تونس الرائدة ومصر العظيمة وليبيا البطلة تتسرب لداخل الخيمة. وأنا أظن أن السلطة لو وعت ذلك لما أطلقت رصاصة واحدة. ظنت بخبرائها المنخوري الذهن أن الأمر لا يزال تحت خيمتها، بعض عنزات صغيرة بدأت بالقفز ويكفي أن ترديها قتيلة ليسكت القطيع.

لكن أهالي درعا كانوا في مكان آخر، مكان جرحت فيها كرامتهم فراجعوا حساباتهم ونظروا بجبهة مرتفعة لوضعهم: عطالة عن العمل، ذل دائم في التفتيش عن لقمة اليوم، أحكام عرفية منذ أكثر من نصف قرن، نهب لأموال الشعب دون حياء، إرهاب زعران دون عقاب. عند هذا الحد من اليقين خرجوا للشارع بأيديهم وصدورهم لكن نداءاتهم كانت أعتى من مدفعية ثقيلة: “ما في خوف بعد اليوم !” هذه القذيفة أصابت جذع 15 جهاز مخابرات. كيف اليوم ما في خوف؟ وأين نتيجة كل جهدنا وتعذيبنا وسجوننا؟

كل الهتافات التالية كانت رائعة لكن هذا الهتاف الأول كان قذيفة من نوع خاص يفهمها كل سوري وتصيب أعداء الشعب بهلع. لأن شعبا بدون خوف سيكشف كل ما صنعه هؤلاء الأعداء على مدى عشرات السنين.

يا إلهي، ما هذه العبقرية يا درعا الحبيبة؟

لا شعارات قومية ولا دينية ولا طائفية رغم أنها  قد تأتي وقد تتردد سواء من انتهازيين أو من حقد آني وغياب لوعي تحت وابل الرصاص، ومن يتفلسف على هذه الجماهير من خلف مكتبه الأنيق ويعد على أصابعه كم مرة نادى هذا وذاك ضد طائفة ما إنما هو جبان وأمي، لا يدرك ان الثورات تجذب أيضا رعاعا وأن عليها دوما كما في مصر واليمن وتونس وليبيا ألا تسقط في حبائل هؤلاء. البحرين سقطت ليس لعنف القتلة السعوديين فقط بل لأن الثوار ساروا إلى فخ الطائفية.

لا، شعب درعا أوعى من هذا بكثير وصبور كالجمل بحمله الكبير. صمد لوحده لأيام، بكى شهداءه ولم يركع، أعلن أنه لن يتوقف حتى ولو بقي وحده مما دفع لإيقاظ المدن الأخرى.

شعب درعا يسطر بطولة فريدة تجاوز فيها بجرحه الذي منحه وعي ثوري أحكم من كل حكم الكتب، ومثقفي الوطن وأحزابه بما فيها تلك المعارضة الشريفة والغير شريفة، وكشف زيف أحزاب مهترئة بالسلطة وهي ليست سوى ذنب لها. وتحاول جاهدة وبشكل مضحك أن تظهر وكأنها على حياد. لا حياد بين السوط والظهر الذي يلسعه فإما مع الجلاد أو مع الضحية.

في هذه الساعات علينا جميعا مراجعة مواقفنا، وضعها تحت مجهر. ولكي لا يكون المقصود من كلامي فذلكة أبدأ بنفسي:

أقر أني وحتى أيام قبل الثورة التونسية فقدت الأمل لأن المنفى طال ولم تظهر في الأفق أية بادرة أمل. لكن ما هو هذا الأفق الذي كنت أنظر إليه طوال هذه السنين؟ في غياب أي تحرك شعبي سواء اعتصام أو إضراب لم يبق في الساحة سوى قوى الأحزاب المعارضة والتي أبدت لبعض اللحظات شجاعة في مطالبة خجولة بالإصلاح ومد اليد الشجاعة للحوار مع السلطة إلى أن انهارت أمام طغيان السلطة وأمام خيانة الإخوان والتحاقهم بأكبر مزيف للمعارضة عبد الحليم “النووي”.

وأقر أن هلع كبير كان يسيطر علي كلما فكرت بمجازر حماة وتدمر حيث لم يتوانَ النظام من قتل آلاف الأبرياء، دون أن تطاله يد. وفي هذه النقطة بالذات تكتشف الخوف في قرارة نفسك والذي زرعه هذا النظام بعناية ومهنية عالية المستوى. فهذا المجرم رفعت الأسد يقاضي من يتهمه بالقتل في فرنسا بوقاحة ويعيش في كنف ساباتيرو. ساباتيرو هذا رئيس وزراء إسبانيا، يسمي نفسه اشتراكي إسباني وهوحفيد بطل من أبطال الجمهورية الإسبانية، قتله الفاشيون عام 1936. يعيش مدمر حماة وقاتل تدمر هناك تحت حماية حرس خاص متاجرا بالموت وأسلحته. وهذا الخوف ليس بالمبالغ به فالابن الأسد كأبيه. وهتاف “بالدم بالروح نفديك يا بشار” الذي يلفظه زعران عديمي الأخلاق يأخذ هنا ليس معنى نية هؤلاء بالاستشهاد فهم جبناء محوا الجولان من خارطتهم. بل هم يقصدون نحر الشعب فداء لمن يرتزقون له بمعاش. هذا هو الدم الذي يقصدوه وهذه الأرواح البريئة التي يزهقوها هي ما يعنوه. والشيء المخزي أن لا يهتف أي واحد منهم دون رشاوى والمخزي أكثر أن هؤلاء سيغيرون فور سقوط السلطة، أية سلطة، ألوانهم بحيث تنتحر الحرباء خجلا لسرعتهم فيوقعون عرائض تدين الديكتاتور الذين ركعوا أمامه البارحة ليلعقوا ولسنين لعابه. لذلك صرت أقرف من قوائم التوقيع التي تضم مثقفين ومثقفات كانوا للأمس يجلسون في حضن صدام ومعمر والطالح اليمني أو بشار السوري وغيرهم. وهم كانوا أول من كان يهاجمنا بفم عريض كالتمساح لأننا رفضنا العودة الخانعة للوطن ولدمشق التي نعشق، لأن عروض العودة كانت محشوة بالمطبات.

شعبك يا  درعا، إبن حوران الطيبة، دخل التاريخ بأحرف نارية، أدخله عنوة من أراد إخراجه للأبد من تاريخ الأمم، ظننا إنه بالإمكان عزل شعب فأتى أطفال ليقولوا له، درعا صارت تونسية!

عزيزي فوزي،

لا أبالغ إذا قلت لك أني كنت في السابق أعتقد، عند متابعتي لردة فعل بن علي والقذافي ومبارك والطالح اليمني على مطالب بديهية للجماهير الغفيرة، أن هذا الرئيس مريض وذاك أهبل وثالثهم تعمي المخدرات بصيرته، لكني الآن وأنا اتابع الإعلام السوري بمشعوذته الشعبانية وقمامته الفضائية توقفت عن إعادة كل هذا التعامي والبذاءة إلى وضع مرضي، بل هو ناتج عن رعب من فقد رشد لضخامة المفاجئة. مثله مثل من تلقى صفعة دون أن يدري من أين أتت، وهذا بدوره دليل ضعف النظام رغم كل ما يبديه من ثقة بالنفس المدجج بالبربرية.. وهذا الرعب يصيب كل الأنظمة العربية فهي تعتبر وعن قناعة أن شعوبها حقيرة لا كرامة لها ولا حتى إدراك ولذا ترى أحدهم صار يصدق أنه هو وليس أي آخر العبقري الوحيد، قائد الأمة والخبير العسكري والعلمي الأوحد وحكيم السياسة وثعلبها ومقاوم الإمبريالية. كل ذلك والوطن في أعين أي مراقب حيادي بلد متأخر تهيمن عليه قبيلة ويجوع فيه غالبية عظمى من مواطنيه للخبز أو الكرامة أو الحرية أو كلهم معا. صار الديكتاتوري كاتب رواية ومفكر من وزن الكتاب الأخضر (و القذافي ليس أسوا ولا أفضل من الآخرين إلا انه يمتاز عنهم فقط بظهوره التهريجي الذي يتقن أدائه). تريد أن تسمع ما يقوله أحدهم فيصدمك مستواه الفكري الذي لا يزيد عن مستوى طالب متوسط الذكاء في الصف الرابع أو الخامس ولذا تراهم يحيطون أنفسهم بمرتزقة الكلمة الذين تمرسوا على سفك دماء الحقيقة.

فكيف لهم ألا يصعقوا إذا نهض هذا الشعب هازما كل مخابرات العالم التي تكالبت على مساعدة الأنظمة العربية في صراعها مع شعوبها.

خزنت الأنظمة أسلحة العالم فخرج الناس بأيديهم وصدورهم ودحروها، مُنِعَت الأحزاب، فنسيها الشعب وخرج دونها حرا أصيلا يوجهه عقله وقلبه الذي لا يزال يحمل بوصلة حضارة كبيرة، بدون توجيهات قياداتها المركزية التي لم تتجاوز في كل تاريخها دور التابع والمقلد والناسخ. مُنِعَت الكتب وكُمَت أفواه  الكتاب، فخرجت الناس دون أن تقرأ يدفعها جرح عميق وصل إلى عظمها. وهو أبلغ من الكتب.

يمكن للمرء أن يتصور بسهولة كيف تفجرت مرارة بن علي والقذافي ومبارك والطالح اليمني غيظا وهم يرون أصدقاء الأمس الغربيين يخذلوهم علنا من أمريكيين وألمان وفرنسيين وإنكليز وإسبان وطليان، لم يبق إلى جانبهم أحد، الكل يتبرأ من صداقتهم ويعتذر لشعبهم؟ وهو كذاب مثلهم. عندما كنت اراهم وهم يترنحون في أيامهم الأخيرة كنت اقول لكل من له آذان ليسمع: هذا الغبي يستحق هكذا إهانة. لقد لجأ لمخابراتهم ومصارفهم واسلحتهم وها هم يبينون له بالضبط ما رأيهم به. خائن حقير يستحق السحق قبل فضح وجوههم هم أمام شعوبهم.

فهل يتعظ بشار الأسد؟

لا أظن أن المسألة مسألة رجل شاب يدعى بشار الأسد ومقدرة فهمه لسؤال أو لعظة. إنما هي مسألة حاكم سجين نظامه بالذات. من يسجن عشرين مليون سوري لا يمكن له إلا أن يكون عبدا بسلاسل نظامه بالذات.

كيف يرد النظام السوري على غليان الشارع المكتوم دهرا؟ يُخوِنُ هذا الشعب الجائع للخبز والحرية والديمقراطية ويصوره كلعبة في يد مدسوسين. لا يسأل نفسه لأنه سيصطدم بمسؤوليته. 30 أو 40 أو 50 سنة اضطهاد وأحكام عرفية ووعود لم تشبع فأرة. رغم ذلك تحلى أهل درعا الأبطال بمستوى مذهل للوعي، حتى في عنفهم الوحيد كانوا حكماء أحرقوا كرمز ثلاث بنايات قصر عدل إختفى منذ انقلاب البعث ومبنى البعث سبب ذلهم و مبنى شركة الحرامي الأكبر مخلوف.

لكن علي أن أقر ان النظام السوري صدق في تسمية القتلة الذي أطلقوا الرصاص على الأطفال وعلى طبيب وعلى مدنيين بالعصابات.  والله هذه هي أول جملة صادقة منذ اندلاع الثورة في درعا. ومن يطلق النار غير عصابات قتلة للنظام نفسه؟ بثينة شعبان تعجز بوجهها المليء ولأول مرة بالخوف عن التمويه، والمخابرات التي ارسلتها للمنصة خانتها، وحتى في اللحظات التي كانت تعد فيها بشكل مهلهل بالتفكير “بإمكانيات” إلغاء الأحكام العرفية كانت الأجهزة تعتقل وبكل المحافظات مئات الشرفاء…ونيران المدافع الرشاشة تحصد أرواح ابرياء من جديد… كان اليابانيون يمارسون عادة الانتحار بشرف بعد خطيئة كبيرة (هاراكيري) ولو أرادت الأنظمة بكل أذنابها أن تنفذ هذه العادة لما بقي أحدهم على قيد الحياة.

عزيزي فوزي،

كم يبلغ قهر الحكام في هذه الأيام والحياة تفضح كل كذبهم في شأن التقارب بين البلدان العربية التي دفعتها سلطاتها الديكتاتورية لغربة مقيتة صار الأتراك فيها اقرب لفلسطين من بعض أبناء يعرب.

هذه الأنظمة فرحت بإسرائيل وساعدت منذ اللحظة الأولى على زرعها في قلب شعوب المنطقة، ولو لم تأت بها خطط إمبريالية لكانوا اخترعوها، فليس هناك من ثبت سلطة الأنظمة العربية بإخلاص مستمر ووسائل ذكية مثل إسرائيل. منحتهم بالمجان ودوما، عند الحاجة، غطاء الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، وتأجيل كل إصلاح إلى ما بعد تحرير فلسطين، ولاك فوه الحكام العرب إسم فلسطين كما لاك الحرية والإشتراكية والمحبة والعروبة، حتى مج لفظها الناس لكي لا يقلدوهم ويحولوها من مأساة لملهاة. قلت مرة: الأنظمة العربية تشابه المفاعلات الذرية كل من يقترب منها ويتعامل معها يتلوث… حتى عظمة المأساة الفلسطينية لم تتمكن من حماية بعض المفكرين الفلسطينيين فحولتهم الأنظمة العربية لطبالين لناصر وصدام والقذافي والأسد وسعود ولأمراء الخليج…حتى أن بعضهم لم يشعر بخجل وهو يضرب بسيف هذه الأنظمة ضد شعراء وكتاب البلد المنفيين والمسجونين…

ألم ينعق متسلطوا أنظمة “الجامعة المهترئة للسلطات العربية” ليل نهار أغاني استحالة الوحدة، وها هي الشعوب ترقص فرحا منذ انطلاقة شرارة الثورة التونسية الرائعة والشجاعة لتبين مدى قرب قلوب وعقول الشعوب لبعضها، فهاهم المواطنات والمواطنين في البلدان العربية بكل شعوبهم كردية، أمازيغية، شركسة، آشورية أو عربية وبكل أطياف معتقداتهم، من علمانيين وسنة وشيعة وعلويين ودروز ومسيحيين يشعرون بالتآخي مع كل الثوار في كل أصقاع البلدان العربية. وهل هناك أجمل من هكذا وحدة اختيارية وبكامل الحرية، إنسانية بعيدة عن العنصرية والطائفية؟ والأنظمة وكل خبراؤها لم تستطع أن تؤسس سوق مشتركة.

هناك مقولات سخيفة لا وقت لدي لتفنيدها كمثل تلك التي ترددت عن الملك حسين إبان حربه القاتلة ضد الفلسطينيين في أيلولهم الأسود. قيل الملك حسين إنسان شهم وبريء لكن حاشيته من أقذر البشر…هذا كرره أتباع بن علي ومبارك والقذافي وغيرهم وأغبياء المخابرات السورية يدفعون مثل هذه الأقوال للشارع دفاعا عن الأسد الذي يريدون ألا يمس أسمه بتلويث من الشارع. كنت أقول لكل غبي، إذن فليقاضي الأسد إبن خاله مخلوف بسبب المليارات التي سرقها عبر شركاته كلها. وليقاضي الدولة السويسرية التي كشفت للعالم وبكل لغاته ان لبشار الأسد رصيد مالي (أي دون أخذ حصاته في الشركات وودائعه الثمينة المخزنة في سويسرا) يبلغ حوالي مليارين دولار. مليارين لشخص وسوريا يذلها الغرب من أجل قرض لا يتجاوز 50 مليون دولار؟ كم مليار سرق القاتل رفعت؟ وهل أنحصر الأمر على هذه العائلة؟ بالطبع لا. فقط الطائفيين من أمثال القبيح عميل الوهابيين يوسف القرضاوي يحلو لهم التركيز على ذلك، أما من يحب الوطن وبه ذرة شرف فإنه يرتفع عن كل تلميح طائفي ويقول أن السرقات قام بها جيش جبار لا دين له ولا شرف من كل الطوائف.

وما الذي استفاد كل هؤلاء المتسلطين من هذه الأموال التي سرقوها؟ غباؤهم فاضح بشكل أنهم لم يفقهوا بديهية أن من يموت يذهب خالي اليدين وأن الكفن لا يملك جيوبا؟ التهموا بجشع الأخضر واليابس، حرقوا الأرض بعد نهب قمحها. دفنوا مقابل قروش مواد مسمة ومشعة لمافيا أوروبية في أرضنا الجميلة. وما الذي جنوه؟ 10، 50، 150 مليار دولار سرقت من دم وخيرات الشعب؟ ولماذا كل هذا؟ هل يستطيع أحد هؤلاء الأغبياء وأحفاد أحفاده أن يأكل مليار واحدة؟ وهل يعلمون أن ورثتهم الأغبياء سيخسرون أغلب هذه الأموال في سراديب ومتاهات البنوك العالمية التي لا يفهمون شيئا من حنكتها، أو أنها ستعاد لموطنها سواء أخفيت في سويسرا أو البحرين او هونولولو. سيلاحق الشعب المالك لكل هذه الأموال وعبر القضاء الدولي وبإخلاص دولة ديمقراطية تمثل شعبها كل عملاء السلطة وناهبي خيرات الوطن بأمان ومصداقية وسيُجبَر الجميع على إعادة المنهوب. هل هذا ما طمح إليه هؤلاء المتسلطين على رقاب الشعب؟ بالتأكيد لا.

يقول لي البعض أن هناك جناح  في السلطة ينوي الإصلاح وأنا كإنسان يأمل الخير ولو كان معلقا بخيط عنكبوت، أتوقع وجود مثل هذا الجناح وإن كان مقصقص (أي غير قادر على الطيران على حد تعبير مربي الحمام الدمشقيين) فقد يكون له دور خير في تطور البلد نحو الحرية والديمقراطية بسلم وتفاهم واشتراك لكل الأطراف دون دماء. لكن هذا الجناح ينام على ما يبدو، والدماء البريئة بدأت تسيل بغزارة وشهداء الحرية يسقطون يوميا بالعشرات، عزل من كل سلاح إلا محبتهم للحرية، فأين هم الإصلاحيون، وأين أجنحتهم؟ لماذا لا يقفون ليقولوا هذا الشعب يطالب بالإصلاح ونحن نستند عليه في رفع أصواتنا. بالطبع قد يقول لي أحدهم لو قالت حمائم الإصلاح ذلك لأفترسها صقور السلطة في غمار سكرتهم بالدم، لكن لا بد من هكذا  موقف إذا أراد هذا الجناح أن يستحق هذه التسمية وإلا تحول لطرف مشترك مباشرة في مسؤولية عن القتل ودم والضحايا. لابل أعتبر هؤلاء أسفه خلق الله، فهم يشاركون بعرس الدم ويلوحون خفية للشعب الثائر أنهم معه…ليكونوا مستقبلا استمرارا ليد السلطة البائسة بوجه آخر. هذا أخبث مطب لكل ثورة.

نحن مجبرون على الأمل، وكما قال الرائع سعد الله ونوس محكومون به، أن ينجح السوريون بإنتقال سلمي لمجتمع ديمقراطي في سوريا وطننا الحبيب ودمشق معشوقتي الجميلة.  لكن لحظة الأمل هذه لا تدوم طويلا عندما يطلق جبناء وبأمر السلطة الرصاص على حشود الناس الطيبين. الانتقال السلمي يحتاج لشجاعة فائقة لنساء ورجال لا يهابون أحد ويحبون شعبهم، هؤلاء يتحلون بشجاعة تحيل كل تصرف عسكري لعمل قذر جبان. وهذه الشجاعة من شيم شعبنا لا من خصال سلطته. السلام والتسامح يحتاج لقلب حكيم بعقل شعبه. وهذا النوع من الناس نادر جدا وتواجده في السلطات العربية والسورية معدوم.

هل ستحدث مجازر طائفية؟

أملي يملي علي أن أقول لا، معاذ الله. لكن الحقيقة تناديني بالتروي.الزمن القادم وحده سيجيب على هذا السؤال، لكن هذا لا يعني عدم اتخاذ موقف، بل على العكس تماما.  علينا جميعا أن نبني سدا منيعا ضد أية أحقاد تنال طائفة ما أو أقلية، ثقافية كانت أم دينية طائفية.

شعبنا مستعد للعفو والتسامح وسيقف دائما ضد اي طائفية إنتقامية من أي طائفة. الدروز والعلويون واليزيديون والسنة والأكراد والآشوريون كما هم المسيحيون والعلمانيون إخوة، عدوهم من يطالب بالثأر من أحدهم، كلهم أبناء وبنات هذا الوطن الجميل. لا مكان قيد شعرة للطائفية. لنفتح قلوبنا وبيوتنا لكل سوري وطني مهما كان مذهبه وفكره. ولنكف عن التخوين فهو غذاء سام من مزرعة النظام. وأقسم بمحبة دمشق لو كان هناك قضاء عادل في قطر لرفعت دعوى بتهمة جريمة التحريض على القتل وعلى الحرب الأهلية ضد هذا الشيخ الغبي يوسف القرضاوي. عقوبة مثل هذا الجرم تصل هنا في المانيا لخمس سنوات.

علينا جميعا الدفاع وبكل قوانا عن مجتمع مستقبلي لسوريا، حر لا مكان فيه لخمسة عشر جهاز مخابرات مسلطة على الشعب بل لجهاز مخابرات واحد ذكي مسلط ضد إسرائيل. كل أظفر طفل، كل دمعة أم مريرة أصعب علي من كل تسامح يوفر حياة هذا الطفل أو ذاك الرجل أو تلك المرأة على اي طرف. من أجرم بحق الشعب سيتعلم بغض النظر عن إنتمائه الطائفي أن القضاء الحر سيعطيه فرصة للدفاع عن نفسه ويحكم عليه بعدل قانوني.

هناك ظاهرة مؤلمة لا بد من الحديث عنها. السلطة بكذبها وسرقاتها وتمويهها وعجزها عن الاعتذار صبغت المجتمع بهذه الصفات فأنت ترى حتى أطياف من يسمون أنفسهم معارضة يجبنون عن الإعتراف بالحقيقة، ولذلك سيتخلى الشعب السوري عنهم في نهضته، إنتفاضته أو ثورته كما تخلى الشعب التونسي والمصري والليبي واليمني عن كل أحزابه في ثورته. أنا لا أعني بذلك أي حزب يشترك (ولو إسميا) بالسلطة فهؤلاء لا يستحقون الذكر، سواء كانوا بكداشيين أو ضراب السخن، ولا أولئك من مافيات السلطة التي تحولت بين ليلة وضحاها لمعارضة من أمثال عبد الحليم النووي. لا، أنا اذهب إلى أبعد من ذلك، لأن الوقت حان أن نتوقف عن الكذب دون أن نتهرب من ذلك بالتعاضد مع نيكاراغوا. سأسمي حزبين كمثال:   فلا إخوان سوريا أقروا لليوم بحصتهم من الجرم الذي وقع على الشعب السوري في الثمانيات من القرن المنصرم وبأموال سعودية، وكأنهم يأملون أن ينسى الشعب ذلك، ولاهم ابتعدوا حتى اليوم عن مموليهم الوهابيين رغم معرفتهم بدور السعودية ولذلك لا يعتذرون حتى عن ترك المعارضة واللجوء لعبد الحليم النووي بأمر مباشر من السعودية ولا بإلقاء أنفسهم أمام النظام دون أن تتحرك سلطة هذا النظام ولا قيد أنملة باتجاه إصلاح فعلي. كل هذا يأملون أن ينساه الشعب، لكن الثوار لا ينسون وهم سيحولوهم عبر بطولتهم وثورتهم لأقزام.

ثم لنأخذ كمثال أحد أشرف أحزاب المعارضة الرسمية، الحزب الشيوعي (المكتب السياسي)، والذي تحول فيما بعد لحزب الشعب الديمقراطي. والذي عانى أعضاؤه نساء ورجالا من مرارة السجون وصمدوا كأبطال ومنهم الثوري الكبير رياض الترك، وصديقي الحميم منذ أيام شبابي أمين مارديني. لم يتجرأ هذا الحزب إلى اليوم، واكرر، رغم شرفه وعلو هامته، عن مراجعة صريحة لأخطاء تاريخية كبيرة له. حتى صار كثيرون يتمسحون به ولقذارة أصابعهم تلوث ثوب (وفي بعض الأحيان جسد) هذا الحزب.

هذه الأحزاب سيتجاوزها الشعب إن لم تستيقظ من نومها وتتقدم محترمة نفسها للشعب وبكل تواضع ووضوح، مادة يدها لتساند يده، متعلمة منه لا معلمة له، واثقة أن هذا الشعب قادر على الصفح وعلى الثورة عبر كل التاريخ ومن له عينان ليرى وأذنان ليسمع عليه أن يتعظ قبل فوات الأوان.

رفيق شامي

كاتب

ألمانيا

خاص – صفحات سورية –

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى