صفحات الثقافة

أول وآخر رسالة/ هنادي السهوي

 

 

إيطاليا

 

منـذ أن أخـبرها بأنّ لإيـطاليا علـى الـخريطة .. شـكلَ رِجْـلٍ ولها قَدَم ..وأنّ جزيرة صقلية كرة صغيرة أمامَها ..

وأنّـها لن تضربَ الـكرة بقدمها المملوءة بالخلاخيل وتسجّلَ هدفاً..في مرمى أغنية ايطالية

بل كلّ ما ستفعلهُ أنّها ستحتضنُ الكرةَ وتركض بها مثل طفلةٍ صغيرةٍ..نحوه

لم تتوقف عن حياكة كنزات دافئة من أيّـة أغنية تسمعها… للمرمى الذي ثَقبتْهُ الوَحْدَة.

 

بماذا فكرت المرأة الريفية المجنونة من جنوب فرنسا عندما قررت أن تعصر برجليها العنب ثم تحجز بثمن النبيذ برج إيفل ليوم كامل، حتى تتمكن من رؤية حبيبها، وحدهما فقط تحت البرج الداكن!

في المرّة الأخيرة كتب لها ذلك المجنون من تحت برج “بيزا” المائل في إيطاليا رسالة خاطبها فيها بـِ ابنتي :

أتخيلك دائما تنزلين خمسين طابقاً إلى قَبو النبيذ..وأن هناك دائماً زجاجات نبيذ معتَّقة من عام 1930..

لا أدري سبباً واضحاً لهذا التاريخ ربما لأنه في هذا العام انطلقت أول بطولة لكأس العالم في كرة القدم..وربما أيضا لأنه في هذا العام تمّ اكتشاف كوكب بلوتو..

ثم في تلك اللحظة التي تقولين فيها كلمة  :

–  ألو..

تلمس أصابعك إحدى الزجاجات فتقع بعدها خمسون قنّينة نبيذ وتنكسر على أرضيّة القبو الخشبيّة..لتفوح رائحة “صنوبر”.. وتشهقي لكن هذا المشهد لا ينتهي هنا لا أتوقف عن تخيل أن صناديقاً خشبية مملوءة بحبات عنب صغيرة تحاصر منزلي.. وأن عرائش العنب تسير عارية الركب نحو غرفة نومي..  وأن هناك دائما المزيد من تلك الزجاجات التي تصنع ليعاد المشهد مراراً وتكراراً ..من أجل شهقة الخوف والارتباك تلك !

كتب لها أن تلتقيه تحت البرج المائل..

وختم رسالته:

سأنتظرك.. دون أن أميل ولا 5 سم حتى.. من الجيد أن أراك بعد كلّ هذا لأنني أيضاً استيقظ من حلم اليقظة وأنا أشهق ..

هل ستأتين آنّا ؟

 

أيُّ حبلٍ سريّ يربطُ بينَ برجٍ يزورهُ العشرات كلّ يوم وبين برج يخافهُ الجميع لأنّه ترجمة فكرة ” لغم الانهيار !”

أيّ حبلٍ سريّ يربطُ بين امرأة باعتْ موسم العنب لتحجز برجاً بأكمله وتلتقي برجل إيطاليا الذي يقول أنه يريدُ أن يموتَ وهو يشاهد فيلم سينما !

يومٌ كاملٌ توقفَت فيه قاعة المرايا ومتحفا اللوفر والشمع، وحقولُ العنبِ الشبقة والنساء اللواتي لا يعرفنَ كيف يكنّ جميلات أمام قبلة عاشقين جديدين .. توقفوا عن فعلِ أيّ شيء سوى مراقبة كيف سيلتقي رجل يقف تحت برج بيزا وامرأة تقف تحت برج إيفل!

وكيف تلمس امرأة تخضرّ فقط لو شمّتْ رائحة المطر بإصبعها المغموس بدبق العنب.. سينما بالأبيض والأسود.

كيف ترقص.. البراري لغزالة تهرب من حفيف الريح بخاصرتها.

كيـف تـغدو امرأة هـي فرنسـا ومـصر لرجـلٍ مثلِ نابلـيون

“كيف تكون جزيرة صقلية هي الهدف الوحيد الذي لم يتمكن ماردونا من تسجيله حين كان لاعباً في نادي نابولي الإيطالي”

كيف يميل التاريخ… 5 سنتميترات

كيف تخطئ امرأة في موعدها.. لتعتقدَ أنّ برج إيفل هو المائل ..

فيميل..

 

وفاةُ مخترع الايميل

 

هـل كـانَ ” توملينسون ” يعرفُ أنّ أولَ رسالة إلكترونية أرسلها في عام 1971، بين جهازين لا يتنفسان ستكون دافئة كقدمي حبيبين تحتَ الغطاء؟

لو عـرفَ ربّما قبل أن يرسلَ شيئاً كرسالةٍ إلكترونية باردة، لحاولَ أن يعرف كيف يطلق عبارة ” أول وآخر رسالة ” على رائحة المنديل الذي طرزته أمي لحبيبها الأول وكتبت على طرفه:

“متى الايام تسمح لنا بالتلاقي

ويجمع شملنا بعد الفراق

ويحظى قلبي بالذي أهواه”

لو عرفَ فقط مثلاً أنّ رسالة قادمة من فيروزة بحمص .. هي حفنة من حبات الكستناء عبرتْ ثلاث أغنيات لأمّ كلثوم في ذلك الشتاء ولم تبردْ

إنها ثمانية آلاف رسالة.. كلها بدأت بين رجل وامرأة يثرثران مثل حائط فيلم

“رسائل جولييت ” يعتقدان أنهما كلّ العشاق في العالم، أنهما كلّ الأطفال اللذين شاهدوا قصة الأميرة والوحش، وأنهما  سلفادور وغالا .. وأبو محمد الذي يشعل الحطب في حوش الدار الساعة السابعة مساء ويقول:

” رطبين هلحطبات يا أم محمد وما يطقطقو متل حلقاتك يوم تجوزنا ”

ثمانية ألاف رسالة مختفية كحبات الجوز تحت الورق اليابس ..

أو أربعة صناديق بريد معلقة على شوارع العاصمة باريس وضع فيها أهلها طوال سنة رسائلهم وكتبوا: “رسالتي الأولى ” وتأخر عليها الساعي ثلاث سنوات كاملة

– أنا مو سوبرمان يا بـنت !.. لم اخترعْ ايميلا مثلاً يا هبلة ..

-أنت محق .. ولكنك كنت طوال الوقت تخترع شيئا لهذا العالم

كنتَ أنتَ من اخترعت / الألف بي وبوباية/

اخترعت الكهرباء.. وصرخت مثل المجنون حبيبتي لقد أضاء كوكب المريخ !

أنتَ من اخترع الماء الدافئ.. وسلطة التونة وكيساً ورقياً مذهلاً لشحاطة قياس 38

كنت أنتَ من اخترع الكيوي.. وأرانب الفصح ..وضحكاتي 72

لو أنّ مُرسل أول رسالة ايميل لم يمت اليوم ..

لو أنه أمعن النظر.. في طعم الطوابع

لو أنه تمهل فقط قبل أن يرسل أول رسالة الكترونية في هذا العالم ..

ليعطي الوقت الكافي لأمي أن تُخرج منديل فيروزة وتقول : “أخ يا كل شي فيني” مع أن قلبها  فقط هو الذي يؤلمها

لو عرف فقط أن أم كلثوم مرة فتحت رسالة من شوقي ظنت أنها مليئة بالنقود فغنت بعدها: ” سلوا كؤوس الطلا ”

لو اشتغل ” توملينسون ” مرّة ساعي بريد بين الطابق الخامس والرابع

بين آندي وميليسا في فيلم رسائل الحب..

هل كان راوده الشك للحظة واحدة بأن رسالته الأولى ” قابلة للنسيان تماما”..؟

*شاعرة من سوريا

ضفة ثالثة

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى