صفحات الرأي

أوهام «الإسلامية ـ الديموقراطية»… الاستشراقية أيضاً


دلال البزري

الفكرة أنتجتها مراكز «التفكير» الاميركية، تلك التي تنصح القادة السياسيين. والفكرة مفادها انه لا بأس من تولّي أحزاب الاسلام السياسي السلطة في مرحلة ما بعد الثورات العربية. لماذا؟ لأن هذه الاحزاب أتت بالاقتراع الديموقراطي، وهي سوف تتفاعل مع مترتباته، وبفضل براغماتيتها المعروفة، سوف تعمل على تلبية تطلعات وحاجات وحقوق الشعب الذي اختارها، فتُعجن هكذا بالوقائع والمصالح وتتحول الى ما يشبه الاحزاب المسيحية الديموقراطية التي عرفتها دول أوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية. بهذه العملية تندمج أحزاب الاسلام السياسي بالحركة الكونية الراهنة ذات المرجعية الحداثية وما بعد الحداثية. ويكون كل شيء تماماً.

المسؤولون الاميركيون، ومن بعدهم الاوروبيون، تلقّفوا الفكرة برشاقة عجيبة، وراحوا يوزعون التصريحات والمقابلات، من انهم لا يخافون الاسلام السياسي، خصوصا «الوسطيين» من بين صفوفه (السلفيون «وسطيون»؟)، وان الموضوع بأسره… يفضي الى «المسيحية الديموقراطية». الاعلام الغربي لم يختلف عن ذلك بدوره. فكانت تلك التحليلات لخبراء وباحثين، يقولون، بأسلوب التخصص، ان نعم وارد هذا التحول. لا شيء يقف في وجهه سوى احترام الاتفاقات المرعية؛ وعلى رأسها، اسرائيل والاقتصاد، من دون ان يذيّلوها بالأقل أهمية، مثل الاقليات والحريات والنساء. (آخر صيحات هذه الموضة الفكرية اطلقها الصحافي الاميركي توماس فريدمان من القاهرة، الذي أعلن عن «إنبهاره» بالاخوان المسلمين المصريين، بـ»فكرهم وتخطيطهم»، اذ لا يفكرون في «الغاء اتفاقية كامب دايفيد». لكن فريدمان تميز عن نظرائه من المحللين الغربيين، وبدل «الديموقراطية-المسيحية» نصب توماس جيفرسن، رائد الديموقراطية الاميركي، اذ قال: «ان الفرصة متاحة امام اي دولة عربية للانتقال من حسني مبارك الى توماس جيفرسن»).

كل هذا التحول نحو ما كان في ماض قريب فزاعة الديكتاتوريين واصدقائهم من حكومات الغرب، يمضي وحيدا. ففي الداخل الغربي لم تهتز الاسلاموفوبيا والعنصرية، بل صارت في بعضها اوراقا انتخابية رابحة، وفي بعضها الآخر كبش فداء الازمة الاقتصادية الطاحنة. بات بذلك الغرب يمشي بسرعتَين ازاء الاسلام: سرعة داخلية ما زالت تنظر الى قوافل المهاجرين اليها، في عزّ ازمتها الاقتصادية، بصفتها خطرا على هويتها وأمنها؛ وسرعة خارجية تنظر برضى وتفاؤل الى تولّي الاسلام السياسي السلطة في بلدان ما بعد الثورات.

وكما هو متوقع، فان هذا «المزاج» الغربي، الجديد نسبيا، انتقل بسرعة البرق الى بعض الاقلام العربية ومتكلميها، خصوصا تلك المتعاطفة مع الاسلام السياسي، او الراغبة بمد الجسور مع أحزابها، أو المسلّمة بقدرها مع سلطتها المقبلة، أو المكتفية بهذا القسط من الثورة….

مؤخرا طلع واحد من هؤلاء على الشاشة وقال، من منطلق «نقدي» تجاه الاحزاب الاسلامية، بأن نعم تستطيع الاحزاب الدينية الاسلامية ان تأخذ منحى الديموقراطية المسيحية. ولكن عليها، بغية تحقيق هذه المأثرة، ان تقوم بنهضة داخلية، ان تراجع افكارها، ان تنتقد نفسها. يقولها بثقة وتفاؤل، وكأن الامر على مرمى نظره…

المهم ان اقلامنا لم تسلم من هذه الفكرة التي انتجتها مراكز تفكير اميركية وتسلّلت الينا، وصارت خشبة خلاصنا في تفكير موضوع الاسلام السياسي. فبعدما كانت كل ثقافتنا وجيناتنا تفسران استثناءنا اللا ديموقراطي، وعزوفنا الصميمي عن الديموقراطية، ها قد باتت اكثر جماعاتنا بُعداً عن فكرة الديموقراطية وممارساتها قابلة لأن تتحول الى شيء يشبه المسيحية الديموقراطية.

والحال ان هذه الفكرة تعيدنا بدورها الى رديفتها، أو ربما أصلها. من منا لا يتذكر توصيف آخر لحالاتنا عشية اندلاع الثورات؟ تلك التي تفيد بأننا، بالاوضاع التي نحن عليها، نشبه أوروبا في قرونها الوسطى الظلامية التي سبقت نهضتها، وبأننا نحتاج الى ما احتاجته اوروبا من وقت لنبلغ ما بلغته الآن من تحضّر ومنعة ورفاه، أي قرونا كاملة… وكانت الصفة التي تسِمنا بها هذه الفكرة، اننا «متخلفون»، أي متأخرون عن اللحاق بالركب. واننا قد نصل، وقد لا نصل… فكرة الديموقراطية المسيحية هذه هي ابنتها. من اننا الآن نمر بنفس المرحلة التي مرت بها اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، واننا، ان شاء الله، سوف ننجو، وان متأخرين. ذلك اننا ما زلنا متأخرين، ولكن ليس كما كنا سابقا: المسافة التاريخية الآن تقلصت، وبدل ان يكون بينا وبين الغرب قرون من البعد، صار هناك مجرد عقود. ما زالت المركزية الغربية مهيمنة على فكرنا، وما زالت المعايير تصاغ بناء على هذه المركزية الغربية، على الرغم من اننا «استعدنا هويتنا وحميناها» مع الاسلام السياسي.

الآن، هل يمكن للاسلام السياسي ان يحقق هذه القفزة النوعية والتحول الى ما يشبه الديموقراطية المسيحية؟ ما دمنا بصدد المقارنة مع التاريخ الاوروبي، علينا احترام مراحله ايضا: المسيحية-الديموقراطية نشأت في بيئة دينية كان الدين فيها قد تعرض للحداثة، كما تعرضت جميع المجالات الاخرى. المسيحية الاوروبية شهدت عمليتين اصلاحيتين كبيرتين الجناح الديني فيها هو الثالث في ثورة الحداثة الاوروبية، الاول والثاني هما السياسة والاقتصاد. المسيحية الاوروبية نشأت في بيئة دينية حداثية تطغى فيها النسبية على كل الموضوعات، الدينية واحدة منه. هل اسلاميو اليوم قادرون على مجرد التفكير بذلك؟ هم الذين يملكون أكثر القراءات حرفية للنص الديني؟ أكثرها تعرضا للاسقاطات السياسية؟ هم الذين لا يعرفون لا الاسلام الاخلاقي ولا الروحي، لا يقرون بغير تفسيرهم الحزبي الضيق للدين، المطرّز بالوسْوسة والموعظة؟

واذا فعلوا، اذا عرضوا عقيدتهم للنقد، وبعد ذلك للاصلاح، فلن يبقوا اسلاميين بل مسلمين: أي مجموعات متمسكة بدينها، لها قراءة اخلاقية او روحية للسياسة، وتحاول ان تضفيهما على قراءتها للسياسة. وساعتها، لن يكون هناك مبرر لتسميتهم بالاسلاميين، بل «مسلمين»؛ ويكونوا ديموقراطيين «مسلمين»، على غرار الديموقراطيين «المسيحيين».

والمشكلة الاضافية هي ان مجموعات الاسلام السياسي ليست ديموقراطية لا في النظرية ولا في الممارسة. في صلب العقيدتين الاخوانية والسلفية لا وجود للديموقراطية ولا بلورة نظرية ديموقراطية او مقولات ديموقراطية. اما في الممارسة فالوضع أكثر حدّة. السمع والطاعة هما عنوان العلاقات بين قاعدة مذعنة وقيادة شبه مقدسة. هؤلاء اللاديموقراطيون لن يصبحوا ديموقراطيين لمجرد انهم هبطوا بمنطاد ثورة ديموقراطية، لم يشعلوها ولم يقودوها ولم يشتركوا بها الا بعدما لاح نصرها.

وبالتأكيد لن يفلحوا في هذه المهمة وهم على رأس السلطة. فهذه الاخيرة، أي السلطة، تفترض، خصوصا في المرحلة الانتقالية، قدرا كبيرا من الثبيت والضبط والإمساك والتمكين، وقدراً آخر من الصراع بين الاجنحة او الاحزاب المنافسة، ثم قدراً أكبر من التعامل «البراغماتيكي« مع الخارج، الغربي منه والشرقي، الصديق منه والعدو. هكذا وظائف ومهمات ليست هي المؤاتية للقيام بما قد يؤدي الى الديموقراطية المسيحية… كل هذا معطوف على «النموذج التركي»، العامل بالـ»بالباطن»، هو الأقل ديموقراطية من بين الدول الاوروبية التي كانت تريد تركيا الانضمام اليها قبل ان تخيب وتتّجه شرقا.

ثم لنفترض وضعا آخر، محتمل: ان يكون طلب المجتمع الناخب لا يريد غير هذه الاسلامية. وان يزايد الاسلاميون دينيا، استجابة لهذه الرغبة وتصعيدا لها، كما فعل أسلافهم، بغية نيل المزيد من الأصوات والحفاظ على الكرسي الغالي. ساعتها تكون قد دقّّت ساعة الورشة الكبرى: ورشة المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى