صفحات الثقافة

أيام الحداد الهادئة/ سحر مندور

يخيّم الهدوء على الحياة هنا، في هذه الأيام. كأن الماضي القريب، ذاك الذي لم يُنجَز بعد ليُسمّى ماضياً، أرهق الأعصاب وهدّ الحماسة، أعادها تحت السيطرة، لجمها، في مرحلة انتقالية تحثّ خطاها نحو واقعٍ جديد ينبثق من ذاك الذي سبقه. فخيّم الهدوء على أيام عيدٍ جاءت عطلته كتجسيدٍ لهذا الهدوء، فيها انصرافٌ نحو شؤون تفصيلية يقوى المرء على التأثير فيها، بعدما تأكد من جديد بأن أحداً لن يتردّد في إراقة دمه عند خروجه عن ذلك.

منذ قليل، شعرنا في بلاد الشام بأن الرأي هو مساهمة في صناعة القرار، أي قرار. وقد كان ذلك منذ قليلٍ فقط. شيئاً فشيئاً، واجهنا أفولنا وصعود الوجوه المزمنة ذاتها باقتراحات الحلول. شيئاً فشيئاً، انقلبت الصورة لكن بالمعطيات ذاتها، ولا جديد تحت شمسنا إلا قصة نكتبها بالصبر، وقصص نتلقاها بالظلم. مشهد الحرب الأهلية اللبنانية يكرر ختامه، يوم اجتمع مهدّمي الدولة على اتفاقٍ في ما بينهم ينظّم وقف النار. أن يعيد المدمّر بناء ما دمّره، مرة تلو الأخرى، هي قصة أنجبت الكثير من الدمار، وستنجب المزيد منه ما استمرّت. فتلك وسيلتها للبقاء.

تراكم وليس مفاجأة

اليوم غير الأمس، وجميعنا يشعر بذلك. لكنه يومٌ ابن ذاك الأمس، حتى ولو بدا غير ذلك. والأمس الذي شهد حماستنا للتغيير، ثم أبرز محدودية قدرتنا، إن على التأثير أو في التغيير، ليس بدوره ابن ذاته، ولا هو وليد الصدفة الفلكية. أمس التمرّد هو ابن يوم سبقه، وقد طال فيه عمر الظلم حتى تعنّت حرّاً معتدّاً بقدرته. ابن عقودٍ رُمي فيه كل صاحب فكر أو فكرة، كل صاحب تأثير أو قدرة، في سجونٍ تنفيه عن مجتمعه، تجرّد مجتمعه منه، لتعرّي الجماعة تحت رحمة السلطة المطلقة. والغد، الغد بدوره سيكون ابن هذا التراكم. وسيخبرنا عن فصول تراكمت، وأملنا أن نتطور خارجها لمرّة، هذه المرة.

لكن السياق عاد صراعاً بين خيرٍ وشرّ، في معادلة حكمتها النسبية حتى استشرت وغابت ملامحها الأصلية. العدو بات مجرماً بعقيدةٍ دينية يعيث في الأرض قتلاً عشوائياً، بلا مطالب تنظّم حركته أو تفسّرها. أضحى تجسّد مؤامرةٍ عالمية، تموّلها دولٌ بأهداف ضد دولٍ وأهداف، لا مساحة لصوت الناس فيها إلا عند الاستغاثة. بذلك، يصبح «الخير» قائماً على التخلّص من الفوضى المفاجئة التي خلقتها، و«الطموح» يشدّ نحو العودة إلى سابق الحال. لكن العودة بالزمن مستحيلة، سيكون واقعاً جديداً لا مفرّ، يصنعه المنتصر في حرب بين طرفين، واحدهما يُلبَس زيّ الشرّ المجرّد بما يتيح للثاني امتلاك الموقع المقابل، خير الصورة.

وبينما الناس يعرفون أن الخير ليس خيراً، تراهم يتوجسون عن وجه حق من الشرّ الجديد الذي برهن فداحة سوئه مراراً، في دولةٍ تلو الأخرى. يعرفون أن الخير ليس خيراً، لكنهم يعرفون أيضاً أن هذا «الشرّ» مارقٌ هنا. ويعرفون أن فصول «المؤامرة الدولية» تطوّرت لتجعل المعادلة كذلك، فتُبقي للناس موقعين: إما متفرجون أو ضحايا. متفرجون لا بد أنهم يترقبون هدوء الحال، أو ضحايا يُستند على أرقامهم للحثّ نحو المعادلة الجديدة. كل شيء يشدّ بالناس نحو الهدوء، أو الخمود بمعنى أدق. أن تخمد لتتفادى الموت في معادلة كلها خسارة. الناس شاهدوا كل شيء على الهواء مباشرةً، وشاهدوا الصور المفبركة. شاهدوا الموتى، وشاهدوا الخطباء. صنعوا التظاهرة، وعرفوا إمكانيات تطوّرها. تلك المعلومات التي تلقوها بكلفة عالية، وتلك القصص التي ستتراكم في بيوتهم، ستبدّل سلوكهم، ستنمو بقصتهم نحو تتمة أخرى. فهم يعرفون، مهما تكثّفت الخطابة، موقعهم من الجريمة. يعرفون أنهم ليسوا الشرّ وليسوا الخير، وأن الصورة التي ستعلّق على جدار الأيام التالية إنما عُلّقت بالتفاوض بين طرفين قاتلين، وليس معهم.

السيئ والأسوأ.. والشعب

تراكم الأيام أوصلنا بديهياً إلى هنا. تصوّر البعض أن للثورات قدرة على وقف الزمن، لكن اتضح لابن زمنه أنها ليست كذلك. هي انفجارٌ طويل تراكمت أسبابه، لن تكفي إعادة إعمار الحجارة لإخفاء ندوبه. والندوب لم تتشكّل بعد، ما زالت جراحاً يفرّ منها الدم. ومع أن الوقت مبكر جداً على المبادرة نحو تأجيل الأمل، لكن وقته سيحين عاجلاً أم آجلاً. تأجيل الأمل إلى بعد غدٍ، تتراكم فيه هذه الأيام، بوقائعها وذكرياتها، لتشقّ للموتى سياقاً في حياة بلدهم.

لقد سمع المرء خلال هذه الأيام عن مجزرة حماه التي وقعت في الثمانينيات ما لم يُسمع عنها منذ حدوثها. حينها، بقيت طي الكتمان عن أهل البلد الواحد، تم إخراسها إلى حين تحوّلها إلى ذكرى سحيقة. لكن أهل البلد نقلوا إلى سواهم غير ذلك. نقلوا إليهم المجزرة كأنها وقعت الآن، تحرّرت من معتقلها لتجد في مجازر اليوم سياقاً يتسع لتفاصيلها، محطة راسخة في الذاكرة، ما زالوا يتعاونون على بناء صورتها الكاملة، بجمع النتف من ذاكرة شخصية وأخرى، من بيت وآخر، والآذان كلها حشرية، الآذان كلها حاجة إلى السمع.

سياق التاريخ بطيء، لكنه يتقدّم. ولا بد أنه سيتقدّم بنا، نحن الشعوب التي خرجت من بيوتها بعدما استفحل الظلم وطال مداه وندرت فوائده.. هذه الشعوب، التي يُطلب منها اليوم الاحتفال بسابق الحال بعدما خبرت الأسوأ الممكن إثره، الأسوأ الذي لم يأت من فراغٍ وإنما من تراكم حكم العقود الماضية. تسمعهم يحكون عن ضرورة الاختيار اليوم بين سيئ وأسوأ، وكأن الكيانين، السيئ والأسوأ، غير مترابطين وإنما مُسقطان بقفّة من السماء. يحكون عن ضرورة الاختيار، والخيار ليس متاحاً للواقف في موقع المسؤولية المواطنية: إما أن تقاتل هذا وذاك وتموت، أو تنكفئ لمصلحة هذا أو ذاك وتموت أيضاً. فالخيار بين موت بطيء انتظم المجتمع على إيقاعه، وبين موت همجي حلّ في لحظة الذروة وأطاح بكل من تواجد في محيطه. السيئ والأسوأ هما شعار المرحلة، ولسخرية القدر يبدو المجتمع وكأنه البريء بينهما، فاقد مسؤولية التدخّل بينهما، الدماء التي لا يختلف خطيبان على ضرورة حقنها. وهو فعلاً كذلك، هو بريء من الطرفين المتسلطين عليه، المتحاورين حوله، المتفاوضين على رزقه وأيامه. لكنه قد خرج من بيته يوماً مطالباً بالقليل، ولا بد أنه سيخرج لاحقاً مطالباً بكل شيء آخر. سيخرج، متسلّحاً بخبرةٍ في التنسيق الجماعي، ويأسٍ من جدوى مفاوضة الحاكم.. لكن اللحظة ليست لحظة الأمل، ولا الرهان على تراكم. وإنما هي استمرار في تلقي المصائب، والإنهاك في محاولة التعامل معها. هي لحظة أقرب إلى لحظة الموت، سيتاح للحداد أن يحلّ إثرها، على عكس ما عاشته حماه. ومن بعده، من بعد الحداد، يبنى على الشيء مقتضاه.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى