صفحات الثقافة

أيام بلا أيام

ريم عبد الغني

بين دمشق وبيروت، تنوس أيامي بلا أيام. على درب كان يوماً قوس قزح. بين مدينتين وصلت بهما ذكرياتي وآمالي… والآن صار درب آلام، بين وطن لا يمنح مأوى. ومأوى لا يمنح وطناً…

[ [ [

على مشارف دمشق ينتعش قلبي، أعب هواء عرفته مضمخاً بضوع الياسمين والجوري… لكنه الآن مشوب بالدخان ورائحة الدم..

[ [ [

من شرفتي العالية بحي المزة، جلست أملأ عيوني من وجه الشام…

الشمس تغيب… والظلام يهبط على أقدم عواصم الدنيا… «شامة الدنيا» كما ناجاها نزار… لكن غروب اليوم يبدو مختلفاً… فالمدينة لا تتلألأ بالأضواء كالعادة… ما أكثر النوافذ الموصدة… أين شلال النجوم الذي لا ينسكب إلا في ليل قاسيون؟…

دمشق كسيرة الخاطر… توشحها غلالة قلق… كأنها أرملة رجل حي..

[ [ [

أرتجف لسماع دوي عظيم. لا يرمش جفن لجليستي. يبدو أن أهل الشام اعتادوا دويّ القصف وقصص الموت، هم الذين طالما صدّروا الأصوات الجميلة والقصص الرومانسية إلى كل مكان…

ألفوا الانتظار الطويل خلف حواجز التفتيش، بعد أن كانت الطرقات مفتوحة آمنة حتى في آخر الليل، من أقصى شرق المتوسط إلى أقصى غرب العراق…

[ [ [

الحدود، معاناة تتكرر. مشهد السيارات المحملة بمتاع وفرش جمعتها حبال الخوف… كيف يمكن لإنسان أن ينتقي ما يريد حمله من وطنه؟

بالنسبة لي أريد وطني كله، كيف أحمله كله فوق ظهري؟… ومن قال إنه يرضى أن يبتعد عن وطنه؟

[ [ [

أسراب تجتاز الحاجز الحدودي مشياً على الأقدام. وجوه أنهكها القلق. رجال ونساء وأطفال، يحشرون بمرارة أمام كوة شرطي متبرم. يختم أوراق دخولهم. يمحو ماضيهم ويحيلهم أرقاماً في قوائم مساعدات المؤسسات الدولية. أليس حراماً أن يستقبل بهذه الطريقة من فتح أبوابه للقادمين من كل مكان؟…

ألم نشرع أبواب بيوتنا وقلوبنا لإخواننا اللبنانيين في حرب لبنان 2006م؟ تعالت النفوس حينها فوق صغائر السياسة لتتكلم برقيّ لغة الضمير والإنسانية.

أستحضر مشهد الحافلات المغادرة بآلاف العائدين بعد الحرب، وأياديهم الممدودة للوداع، فغمرني الأسى على بلدي الذي احتضن قلبه دهراً كل طارق، من لبنان وفلسطين والعراق واليمن وغيرها… واليوم ـ يا حسرتي ـ يلفظ أنفاسه وراء ظهور تنكره…

[ [ [

خواء وانتظار مؤلم..

كانت تطاردني، وصرت أطاردها.. عقارب الساعة…

كنت أفيض بما لا أتسع له، ويقتلني اليوم غياب توقي إلى أي آت…

أخبار مجنونة ينقلها الأثير من كل مكان… أي كابوس يرزح تحته العالم في هذه الفترة؟ صبرنا الله نحن المليارات التي كُتب عليها أن تكــون شاهــدة على مخــاض يتوعــدنا مولوده…

نتابع بذهول خارطة عالم يتغير، هيولى طالما سلمنا بها عالماً واضح الملامح…

الثوابت تختل، والصفر الاعتباري يبحث لنفسه عن مبدأ جديد… والقطيع يجر الأقدام نحو الفناء. ونظرة اليأس الحزينة لأرتال الخراف، هي ذاتها تلك التي طالما حيرتني ـ ذات طفولة ـ في عيون «الكبار»…

[ [ [

هذه الأيام الصعبة، متى تنقضي؟

إلى متى تمضي أيامنا بلا أيام؟

متى… متى ـ يا رب ـ تنتهي هذه المحنة؟

وهل نعيش لنشهد انبلاج فجر حقيقي؟

طوبى لأهل الكهف. ليتنا ننام مثلهم اليوم، لنصحو بعد أن يستعيد العالم عقله…

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى