صفحات مميزة

أيام سورية في اسطنبول/ يوسف بزي

وقفت الشابة الآتية من داخل سوريا وسط غرفة اجتماع ضم أكثر من ثلاثين شخصاً، هم من أبرز الناشطين السياسيين وقادة الرأي في الثورة السورية، رافعة ورقة وقد كتبت عليها ما يشبه الرسم التوضيحي. على رأس الصفحة كتبت “جنيف2″، وفي أسفلها كتبت “بشار الأسد”. من جهة اليمين كتبت خيار الذهاب إلى ذاك المؤتمر الدولي يليه خسارة الائتلاف الوطني للتأييد الشعبي والعسكري في الداخل واستمرار الاستنزاف وصولاً إلى نتيجة بقاء الأسد. ومن جهة اليسار كتبت خيار عدم الذهاب إلى “جنيف2″، ما يعني خسارة الائتلاف للتأييد الدولي وتوقف الدعم، ما يعني استمرار النزيف وبقاء الأسد.

الشابة خفضت الورقة وقالت جملة واحدة: نريد أن نعرف ماذا ستقررون؟

على هذا النحو التبسيطي، الشديد الإقناع، بدا مأزق المعارضة في كيفية الاستجابة لاستحقاق “جنيف2″، أو بالأحرى هي الحيرة السياسية في قيادة الثورة والتحكم بمسارها: نذهب أم لا نذهب؟ بأي شروط وبأي هدف ووفق أي آلية وما هي استراتيجية التفاوض.. إلخ.

الباحث السوري البارز، الآتي من واشنطن، سارع للقول أن علينا الذهاب إلى المؤتمر ولا خيار في ذلك، مقراً في الوقت ذاته إن هكذا قرار سيؤدي إلى رفض شعبي موقت، يمكن تعويضه إذا تم فرض مسارات متعددة للتفاوض وفق خطوات عدة، منها على سبيل المثال: الإفراج عن المعتقلين السياسيين، تأمين المساعدات الإنسانية عبر ممرات آمنة دائمة، أولوية إعادة الإعمار (المناطق التي يسيطر عليها النظام لم تتضرر)، بشروط دولية، وبإنشاء صندوق دولي للتمويل. إن تحقيق هكذا مطالب عبر تلك المفاوضات، بغض النظر عن التفاوض حول مصير النظام السياسي لسوريا، يُظهر حسّ المسؤولية لدى المعارضة ويضع النظام في موقف العداوة لمصالح الشعب السوري.

ما أن أنهى الباحث المرموق فكرته، حتى ارتفع صوت شاب: “أوسلو”. هذا ما تريده؟ أن نتحول إلى منعزلات تنتظر مساعدات إنسانية ومواد بناء ونرمي السلاح وننهي الثورة وننسى ما حدث؟

سياسي مخضرم اعتبر أنه لا يمكن الذهاب إلى مؤتمر جنيف قبل تحقيق إتفاق واضح بين كامل فصائل المعارضة السياسية والعسكرية وإلا “سنكون في أضعف موقف وسيتم فرض أي شيء على ممثلي الثورة”. فقاطعه عضو بارز في الائتلاف الوطني: هناك صعوبة بالغة ومتزايدة في توحيد البندقية في الداخل، وهناك شبه استعصاء في توحيد المعارضة في الخارج والداخل، بل إن استحقاق مؤتمر “جنيف2” سيضاعف من اختلافات المعارضة السياسية ومن تباعد الفصائل المسلحة.

هتف أحد ممثلي “الجيش الحر”: كل من سيذهب إلى المؤتمر سنضع اسمه على الحدود وسنعاقبه. فيما زميله أضاف بصوت متوتر: كل مؤتمر خارجي مؤامرة على الثورة.

السيدة المثقفة، المشهورة، استاءت من لهجة التهديد والتخوين وردّت على الشابين: هذا ليس صوت الداخل. هناك ملايين من السوريين يختنقون ويعانون في كل ساعة. يجب العمل على تخليص الناس والثورة من هذا الاختناق. من جهة نظام متوحش ومن جهة “داعش” و”النصرة”، الناس تريد وقف القصف والقتل. الناس تريد حلاً. لنذهب إلى جنيف بهذا الهدف.

أحد الناشطين الإعلاميين طرح فكرة أن يتم التواطؤ بين الجيش الحر وسائر الفصائل العسكرية المختلفة من جهة، والمعارضة السياسية من جهة أخرى، على أن يبقى العسكر رافضاً للمؤتمر فيما تقرر المعارضة المدنية المشاركة، فيكون الرفض العسكري ورقة ضغط بيد المفاوض السياسي ولا يذعن بسهولة.

الناشط السياسي والسجين السابق علّق على الفكرة: ليكن الهدف هو إفشال المؤتمر لا إنجاحه، وتحميل النظام المسؤولية، طالما أنه هو الآخر لا يريد النجاح للمؤتمر.

ديبلوماسي منشق شرح بهدوء أسباب ضرورة القبول بمبدأ التفاوض، بوصفه حتمية سياسية، واضعاً خريطة طريق أولية قبل المشاركة في المؤتمر، أولى بنودها تشكيل وزارة في المناطق المحررة تستند إلى اعتراف 183 دولة بشرعية الائتلاف الوطني، على أن يتم وضع استراتيجيا عامة مع الاستعانة بخبرات عربية وأجنبية، وتحديد الأولويات في بنود تفصيلية كثيرة تحاصر الخصم، مع فرض مبدأ “استمرارية التفاوض” بالتوازي مع “ثبات وقف اطلاق النار”، والأهم هو إيجاد شرعية حقوقية وسياسية للتفاوض في أطر محددة ببرنامج ومدة زمنية وتحديد الضامن الدولي ومن هي القوى الضاغطة، والفصل بين مجرى التفاوض وبين جسم الإئتلاف ورموزه وقيادته. فليس كل سياسي مفاوض.

الديبلوماسي المنشق، أسهب في تفاصيل أخرى عن الفارق بين “الحكومة الانتقالية كاملة الصلاحيات” و”الحكومة المختلطة”، وأن المصطلح الثاني يعني صغية “لا غالب ولا مغلوب” وهو أخطر ما يمكن أن تواجهه الثورة. الناشطة المقيمة في واشنطن قالت أن وزارة الخارجية الأميركية أبلغتها أن الوزير جون كيري يعتبر “جنيف 2” مشروعه وسيعمل على إنجاحه بهدف “تسليم السلطة” وإن على المعارضة السورية القبول بلا تردد بهذا المسار. وقالت: يبدو أن لا خيار ثان غير جنيف. فلتكن خطوة يُمتحن فيها النظام لا المعارضة.

قاطعها ناشط حقوقي: هل من مجال، بموازاة “جنيف2″، لفتح مفاوضات سرية مثلاً مع إيران وروسيا؟ هل هذا مفيد؟ ما رأي الدول الداعمة لنا (تركيا والدول العربية)؟ أسئلة كثيرة أخرى طرحها وبدت بلا إجابات واضحة.

استمر الإجتماع التشاوري لساعة اضافية، فيما كانت قيادة “الإئتلاف الوطني” جالسة، صامتة، تدوّن كل السجال بلا أي تدخل أو مشاركة في النقاشات.

في إحدى المقاهي الاستنبولية، بالقرب من ساحة “تقسيم” التقيت بالشخصية البارزة في “المجلس الوطني” المعارض وسألته رأيه، فأجاب باختصار: على ضوء تحدي “جنيف2 سينفرط “الإئتلاف الوطني” وسيزداد الشرخ بين الميدان والمعارضة في الخارج وستتضاعف مكاسب الإسلاميين، أما النظام فسيبقى كما هو في مناطقه، مجرد طرف محارب، بعدما تخلى عن الدولة ودمرها، وتحول عدواً لثلثي السوريين على الأقل.

في المحصلة، وبعد ثلاث سنوات تقريباً، باتت سوريا كلها مبتعدة كثيراً عن آذار 2011: انتهت حقبة الوضوح وارتفعت صرخة تلك الفتاة: “نريد ان نعرف ماذا ستقررون؟”.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى