صفحات الرأي

أيتام بن لادن و«تقديس» العنف والفشل

 


حسام عيتاني

يمتد المنتحبون على مقتل أسامة بن لادن على خط يبدأ ممن بلغت به المكابرة حد انكار الحقائق السياسية البسيطة للعالم المعاصر ومعناها، إلى من لا يعلو فهمه للجهاد والعمل العام عن ممارسة الثأر والانتقام ورد الصاع صاعين.

لا تنقص الدلائل محاجّة تقوم على أن ما من عمل واحد قام به تنظيم بن لادن، عاد بفائدة او نفع على أي من القضايا التي انبرى هو وصحبه لحملها. بل أن العكس صحيح. فالبناء على اسطورة الجماعات الجهادية المسلحة و «انتصارها» على الاحتلال السوفياتي لافغانستان، وحصر السياسة بالعنف، والرد على استبداد قائم هو استبداد السلطات العربية باستبداد مقابل وكامن يحمله المشروع الجهادي، عناصر جاءت تكمل الوجه الآخر من اسطورة التأسيس. ذلك أن ترك بلد محرر نهباً لعصابات قطاع الطرق والمجاهدين السابقين المتناحرين، لا يشي بقدرة على بناء دولة، والأسوأ أنه سلوك لا يستطيع اتاحة المجال لحياة طبيعية وتقدم شعب ومواطنين وممارسة سياسية سلمية تنبثق من لدن الجماعة التي خرج المجاهدون من صفوفها داعين الى تحريرها.

لم يبال المجاهدون العرب في أفغانستان بمتابعة بناء الدولة التي حرروا أرضها، على ما تقول اسطورتهم. ولا أعاروا بالاً إلى التعليم والصحة وجباية الضرائب، او، بكلمات أخرى، إلى كل ما يجعل من مساحة جغرافية يحتلها بشر، كياناً سياسياً صالحاً للعيش البشري. هذا فيما تعج تواريخ الاسلاميين بتفاصيل الصراعات والتقاتل بين الفصائل المختلفة، وذلك قبل ان ينصرف الجمع شذر مذر، ويعود كل منهم إلى بلده حاملاً افكاره عن تكرار التجربة الافغانية بين ظهراني أهله.

صحيح هو الزعم القائل إن «القاعدة» وأخواتها (بحسب عنوان كتاب للزميل كميل الطويل)، جاءت كلها في سياق الصراعات داخل المجتمعات العربية وان تركيزها على العنف هو ثمرة ردها على ما صبته الحكومات العربية على المجتمعات العربية، خصوصاً القوى المعارضة، من عسف وظلم، فيما رفعت الحكومات هذه شعارات القومية العربية والتقدم والاشتراكية في مصر وغيرها من الدول.

الجانب الثاني الذي قلدت هذه الحركات فيه الحكومات مضطهديها هو الفشل في كل ما فعلته. ويضاف إلى الضيق الشديد الذي أظهرته حركات العنف الجهادي، بمسائل الاجتماع والاقتصاد وإحالة كل ما يتشعب منها إلى ردود مختزلة من النصوص الدينية، رؤية معوقة للسياسة لا تترك مجالاً للناس والشعب والجموع والجماهير وإرادتها ومصالحها. بل عملت الجماعات على احتكار الحق بالنطق باسمي الخالق والمخلوق وانحسرت اعداد المنتسبين اليها على مجموعات من «الغاضبين» الذين يعيشون في خوف من الاحتكاك مع مواطنيهم خشية الاختراق الامني والتعقب من قبل السلطات.

ووراء المخاوف «التقنية» هذه تنهض ممارسات تصدر عن مقولة «الفرقة الناجية» التي لا تتسع صفوفها لكل الدهماء، كما تصدر كرد فعل على فئوية السلطات العربية التي واجهت الحركات الجهادية من جهة، وزودتها بأساليبها ورؤاها من الجهة المقابلة، وفي المقدمة منها الانفصال عن الناس والإعلاء من شأن نخبوية دينية – عسكرية والنظر الى من هم خارج التنظيم على انهم إما اعداء واما مرشحون للتجنيد وتنفيذ مهمات امنية. لكن أي سياسة وفعل سياسي ينتجمها رهط من الفتية الغاضبين في زمن بات الغضب فيه مرادفاً للعجز والقصور؟

بعيداً من محاولات التشخيص السياسي – الاجتماعي لتنظيم «القاعدة» وما يدخل في بابه من جماعات، وبعيداً من الجدال الاخلاقي والقانوني في شأن اغتيال بن لادن وحق أي دولة في ارسال جنودها لانتهاك سيادة دولة مستقلة وقتل رجل مطلوب للقانون، بعيداً من كل ذلك، يقدم عرض العمليات التي «استلهمت» نهج القاعدة في الدول العربية والاسلامية وفي خارجهما حصيلة بائسة خلاصتها كوارث جلبها هذا السلوك على الشعوب العربية والاسلامية قبل غيرها.

وإذا ضربنا صفحاً عن تفجير السفارتين الاميركيتين في كينيا وتنزانيا والهجوم على المدمرة الاميركية مقابل الساحل اليمني، أي ما أمر به بن لادن بعد إعلانه جبهته العالمية «لقتال اليهود والصليبيين» عام 1998، ونظرنا إلى انعكاسات هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على ما كان الحدث العربي الأهم في ذلك الحين أي الانتفاضة الفلسطينية، لبدا واضحاً وضوح الشمس ان اسرائيل تلقفت الاعتداءات على نيويورك وواشنطن وسارعت إلى اقناع الولايات المتحدة والعالم بان ما تواجهه اسرائيل جزء من الهجوم الارهابي الاسلامي، خصوصاً بعد تصاعد نزعة عسكرة الانتفاضة وتفشي ظاهرة العمليات الانتحارية التي لم تقدم للانتفاضة سوى الانتكاسات والتراجعات ووفرت لاسرائيل ما ارادت من ذرائع لمواجهة الهبّة الفلسطينية ابتداء من عملية «السور الواقي» وحصار ياسر عرفات في مقره في رام الله وصولاً الى عزل السلطة وتدمير مؤسساتها وسمعتها سواء بسواء.

والأمر ذاته يصح على ما اقترفته «القاعدة» في العراق واندونيسيا وبريطانيا، وعلى ما قامت به في الجزائر عبر حلفائها وما تديره في بلاد المغرب والساحل الافريقي. وإذا كان لقائل ان يقول ان استراتيجية الجهاديين المسلحين عادت بالنفع في بلد مثل اسبانيا التي اعلنت سحب قواتها من العراق بعد ايام قليلة من تفجيرات محطات قطارات مدريد في آذار (مارس) 2003، وان في هذا نصراً واضحاً لملاحقة العدو الى عقر داره وضرب المدنيين في بلدهم ليضغطوا على حكوماتهم من اجل تغيير سياساتها في منطقتنا، يكون كمن يقول نصف الحقيقة «فالعدوانية الأميركية» لم تثبط همتها الهجمات على البرجين، بل أنها بدل أن تكتفي باحتلال افغانستان، البلد المضيف للإرهابيين المسؤولين عن الهجمات في ما أطلق عليه «حرب الضرورة»، أضافت الى لائحة أهدافها العراق في «حرب الخيار». وها هو حال العراق على ما نعلم ولا نُسرّ.

يقول كل ذلك أمراً مزعجاً، ليس عن قلة نضج بعض الأقلام والسياسيين العرب الآسفين على غياب بن لادن، والذين لا ينفكون في الوقت ذاته يرددون نظريات التآمر بينه وبين «صناعه» الاميركيين تارة ويدينون قتله غيلة تارة أخرى، بل ايضاً عن ضآلة زادنا من القدرة البسيطة على ربط الاسباب بالمسببات والغاية من الممارسة السياسية.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى