صفحات العالم

أيـــن تقـــف تركيـــا ممـــا يجـــري فـــي سوريـــا؟

 


محمد نور الدين

واجهت تركيا بسهولة الانتفاضات العربية الأولى في تونس ومصر. انقضت هاتان الانتفاضتان في فترة قصيرة، وأمكن لتركيا أن تدعو على لسان رئيس حكومتها رجب طيب أردوغان الرئيس المصري حسني مبارك للتنحي فيما سقط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قبل أن يتسنى للأتراك توجيه نداء له بالرحيل.

ومع نشوب الانتفاضات في اليمن والبحرين ومن ثم ليبيا كان الوضع مختلفا لدى الأتراك. مصالح اقتصادية في ليبيا، وتخوف من تحوّلها إلى عراق ثان، وما يعنيه ذلك من تعزيز نزعات التقسيم التي تتمدد، ولن تبقي أحدا خارج دائرة تأثيرها.

وفي البحرين التحذير من كربلاء ثانية، ومن الفتنة المذهبية التي لن تبقي أيضا أحدا خارج دائرة تأثيرها. وفي اليمن الموقف التركي واضح، ولكنه أقل اهتماما وهو أن على الرئيس علي عبد الله صالح أن يلبي مطالب الشعب.

كل هذه الدول، بالنسبة لتركيا، في كفة والوضع المستجد في سوريا في كفة أخرى. انتقال الاضطرابات من الدول العربية إلى سوريا أمر مختلف في ما قد يعكسه من تداعيات كبيرة جدا على الخريطة السياسية والتوازنات في الشرق الأوسط، فسوريا ليست بلدا عاديا في المنظومة الإقليمية، بل هو مفتاح لأكثر من قضية: من المقاومة في لبنان وفلسطين والوضع في العراق والعلاقات العربية ـ الإيرانية وخط التماس بين التيارات الأصولية والتيار العلماني المواجه لها، فضلا عن الصراع مع إسرائيل.

تركيا من هذه الزاوية هي الأكثر تضررا من أي تغيير جذري في دمشق لغير صالح استمرار النظام الحالي وإن بصيغ تحديثية أو تجميلية.

في نهاية العهد العثماني اعتبر البعض من الأتراك أن مستقبل تركيا مرتبط بابتعادهم عن العرب والمنطقة، وشاع المثل الشعبي الذي يعكس هذه النظرة «لا وجه العربي ولا حلوى الشام».

غير أن السياسة الخارجية التركية الجديدة التي انفتحت على العرب والمسلمين، وكل المحيطات الإقليمية الأخرى لتركيا كانت معاكسة لتوجهات النخب التركية التي تعاقبت على السلطة على امتداد القرن العشرين وصولا إلى العام 2002.

تشكل سوريا لتركيا حجر الزاوية في علاقاتها العربية بل الشرق أوسطية كذلك. فالعامل الجغرافي لا يزال ألف باء الجيوبوليتيك في العلاقات بين الدول، وتركيا لا يمكن أن تتجاهل أولاً بلدا جارا، وثانيا له 800 كلم من الحدود، وهي أطول حدود برية لتركيا مع دولة أخرى.

وفي ظل تقسيم العراق إلى فيدراليتين لم يعد من بوابة برية لتركيا إلى العالم العربي سوى سوريا على اعتبار أن الحدود البرية للعراق مع تركيا هي جزء من «الدولة الكردية». وحتى لو لم يكن هناك فيدرالية كردية على حدود تركيا في العراق فإن سوريا بحكم موقعها الجغرافي الوسطي تبقى البوابة الأهم لتركيا إلى العالم العربي والشرق الأوسط.

لذا كان التوجه التركي تجاه العرب يرتكز على إقامة علاقات جيدة مع سوريا قبل أي طرف آخر. وفي التجربة التي رفدت عنصر الثقة وقفت سوريا بالكامل أمنيا وسياسيا إلى جانب أنقرة في مواجهة عناصر حزب العمال الكردستاني، ووقعت معها مؤخرا اتفاقية تعاون شامل ضد الحزب. وكان الرئيس السوري بشار الأسد متعاونا جدا عندما قال انه مستعد لاستقبال العناصر الكردية من أصل سوري المنضوين في حزب العمال الكردستاني المتواجدين في جبال قنديل في شمال العراق.

وإذا أعدنا التذكير بأن المشكلة الأخطر التي تواجهها تركيا هي المشكلة الكردية ظهر جليا أهمية استمرار السياسة السورية الحالية في هذه النقطة مع تركيا.

وكذلك فإن الشريط الكردي الموجود داخل سوريا على الحدود مع تركيا يثير قلق أنقرة الشديد في حال انفلات الوضع في سوريا، ويثير من جديد المخاوف من عودة المقاتلين الأكراد لتسخين الجبهة الجنوبية لتركيا، ليس فقط امنيا بل ما يعنيه أيضا التواصل الجغرافي بين شمال سوريا الكردي وجنوب شرق تركيا الكردي.

وعلى الصعيد السياسي، كانت سوريا بوابة النفوذ التركي في المنطقة عندما ساهمت دمشق في تغيير النظرة العربية إلى الأتراك، وهي من آخر معاقل الايديولوجيا القومية العربية التي يمثلها حزب البعث.

ولقد كانت العلاقات بين تركيا وسوريا نموذجية في كيفية انقلاب علاقات بين دولتين متخاصمتين إلى علاقات صداقة وتحالف. وكانت سوريا أول بلد عربي يلغي تأشيرات الدخول مع تركيا فانفتحت الحدود وتفاعل السكان على جانبي الحدود وألف البلدان مجلسا للتعاون الاستراتيجي وانتعش الاقتصاد التركي في بعض جوانبه.

وساهمت سوريا في رفع رصيد تركيا في المنطقة في أعقد قضية، وهي الصراع العربي ـ الإسرائيلي حين أصرت سوريا على أن تكون أنقرة هي الوسيط مع إسرائيل رافضة أي دور لفرنسا بهذا الخصوص، وهو الدور الذي رفع من رصيد تركيا الإقليمي والدولي.

ومن خلال العلاقات التركية الجيدة مع سوريا أمكن لتركيا أن تمارس دورا ما في لبنان لم يكن ممكنا أو على الأقل إيجابيا من دون الرضى السوري.

وتعرف تركيا جيدا أهمية أن تكون علاقاتها جيدة مع سوريا في البعد المتعلق بالعلاقات التركية ـ الإيرانية، كما في التواصل والتأثير في حركات المقاومة الفلسطينية المعارضة مثل حماس والجهاد الإسلامي والوضع في غزة، وأيضا في البعد المتعلق بكسر الاصطفافات المذهبية المنتشرة في العالم العربي والإسلامي.

إن بلدا له كل هذا الثقل في السياسة الخارجية التركية الجديدة لا يمكن أن تتركه أنقرة يفلت من يديها. وإذا كان من غير الممكن لبلد مثل تركيا، يسير بزخم ليكون بلدا ديموقراطيا، أن يدافع عن تقييد الحريات السياسية في بلد ما، فإن اردوغان فاتح الأسد أثناء وضع حجر الأساس لسد الصداقة على نهر العاصي قبل أسابيع بضرورة إجراء إصلاحات ديموقراطية، وقد وعده الأسد بذلك.

الإصلاحات المتوقع الإعلان عنها من جانب دمشق قد تصب في هذا الاتجاه. واتصال اردوغان أمس الأول بالأسد جاء في إطار التأكيد على ضرورة المضي في إصلاحات تريح الوضع وتنزع فتيل اتساع الاحتجاجات لتغرق سوريا في فوضى وحرب أهلية، في رسالة قوية أن تركيا تقف إلى جانب الأسد لكن مع اتخاذ إجراءات إصلاحية لا مفر منها لمصلحة البلدين معا.

وفي هذا الإطار أيضا، جاء كلام وزير الخارجية التركية احمد داود اوغلو، في ندوة في اسطنبول أمس الأول، أن أنقرة تدعم التغيير في الشرق الأوسط لكن من دون زعزعة الاستقرار. وقال «نحن نريد تغييرا لا ينتج عنه عدم استقرار سياسي».

وقال داود اوغلو «إن تركيا اختارت أولا الحريات، وكان هذا خيارا سليما في الزمن المناسب. واليوم حان وقت التغيير في الشرق الأوسط. وتركيا ستعمل على تحقيق الأمن والحريات في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الشرق الأوسط. وما كنا نراه جيدا لتركيا يجب أن نراه جيدا للآخرين. وتركيا في هذا الإطار تدعم التغيير في الشرق الأوسط، لكن طريقة التغيير مهمة أيضا. نحن نريد تغييرا في نظام عام لا يخلق عدم استقرار سياسي».

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى