صفحات سوريةميشيل كيلو

أين القوة القادرة على وقف الذهاب إلى حرب أهلية؟


ميشيل كيلو

حتى لا يقول أحد من الذين يقدمون اليوم خططا لحل المشكلة السورية المستعصية أنني انتقده على جهد مشكور ومقدر، أبدا بتذكير كل من يتقدم بخطط كهذه، بأنني كنت ومجموعة «لجان إحياء المجتمع المدني» أول من وضع الجسم الرئيس والخط الأولي للتصور الذي يعتمده اليوم جميع من يريدون إخراج بلادنا من معضلتها الراهنة، ويقوم على لقاء يجمع السلطة والمعارضة، يتم خلاله تشخيص معضلات البلد وسبل حلها، ووضع برامج عملية كفيلة بالتصدي لها، على أن يتم تنفيذها بصورة مشتركة وبتعاون جميع القوى السياسية، التي لن تبقى في هذه الحالة معارضة وموالاة، بل ستتحول إلى قوى وطنية متكاملة متفاعلة، يقر كل منها بشرعية الآخر وبضرورة التكامل، خلال انزلاق الوضع نحو مرحلة انتقالية متوافق عليها، سلمية وتدرجية، تأخذنا إلى نظام حريات تعددي تمثيلي، هو مخرجنا العملي من الأزمة.

هذه الخطة، التي وضع تصميمها الأول عام 2003 وتم تطويره وتفصيله عام 1905، تبدلت بعض الشيء عقب حركة الاحتجاج والتمرد المجتمعي الكبيرة التي بدأت يوم 15 آذار من العام الفائت، وانقسم الحل الذي قدمته إلى نموذجين، واحد يقول بإسقاط النظام، وآخر بتغييره عبر الحوار، لكنهما يلتقيان عند الدعوة إلى مرحلة انتقالية تؤسس في سوريا نظاما انتقاليا يأخذها بضمانات مؤكدة داخليا وعربيا ودوليا نحو الديموقراطية، يتم تحديده بالتفاوض مع أطراف من السلطة، يقول البعض إنه سيبدأ بخروج بشار الأسد من السلطة، فهو لن يشارك إذاً في التفاوض، بينما يقول آخرون إنها ستنتهي بخروجه منها، فلا بأس إن هو شارك فيه. بعد هذا الافتراق، الذي ليس جزئيا كما قد يخال المرء، يتفق الطرفان على تصور موحد، قوامه تأسيس مرحلة انتقالية تنتهي إلى نظام حريات وديموقراطية / تعددي / تمثيلي، من خلال التفاوض مع أطراف من النظام.

واليوم، بعد أن تبنت الجامعة العربية هذا التصور، وقالت بمرحلة انتقالية تبدأ بتنازل الرئيس عن معظم صلاحياته لنائبه، حسب مطالبة المجلس الوطني السوري، وبعد أن وسع النظام حله الأمني وجعله «مطلبا جماهيريا» على لسان وزير خارجيته الأستاذ وليد المعلم، وأوصله إلى حافة الحرب الأهلية، ورفض أي حديث حول أي حل سياسي خارج أو ضد الحل الأمني الذي اعتمده، وبعد أن تحدى العالم ووضع نفسه في مواجهة مفتوحة معه، وتصرف بطريقة تفرض على أي طرف خارجي التراجع والتخلي عن أي دور له في سوريا أو التدخل العسكري المباشر فيها، لاعتقاد النظام أنه لا يوجد من يستطيع التدخل أو من لديه قرار بذلك، وأن العالم سينسحب في النهاية من المسألة السورية، وسيترك للنظام حلها بالطريقة الأمنية التي اختارها، يطرح نفسه سؤال مهم حول جدوى حل تقدمه المعارضة مجتمعة ومتفرقة، يقول بالتفاوض مع أطراف من السلطة حول مرحلة انتقالية تنتهي إلى نظام حريات ديموقراطي، يصلح في نهاية الكلام وفي الواقع كسيناريو أو كاتولوغ يمكن أن يقدم بين سيناريوهات أخرى في غرفة عمليات، تعالج افتراضيا، أزمات متخيلة أو محتملة الوقوع، أكثر مما يصلح للتصدي لمشكلة واقعية قام النظام بسد جميع سبل حلها، وحرم خصومه من الأدوات والوسائل الضرورية لذلك، بينما طفق يوسع حلها بكافة وسائله وقدراته الأمنية منذ أحد عشر شهرا، رافضا ما يقدمه معارضوه في الداخل وأشقاؤه العرب ومعظم دول المجتمع الدولي من مشاريع وتسويات وخطوات وسيطة، كتشكيل هيئة حكماء مشهود لها بالنزاهة وتمتلك الخبرة الضرورية حول آليات حل الأزمات، كنا قد اقترحنا – سمير عيطة ومحمد مخلوف وأنا – تشكيلها في تصور مكتوب أرسلناه قبل أكثر من شهر ونصف الشهر إلى الأمين العام للجامعة الدكتور نبيل العربي، مع توصية بتسمية هيئة استشارية خاصة بسوريا، وبتعيين ممثل له يتفرغ للتعامل مع وضعها الحالي، على أن يقوم هو، الأمين العام، في حال فشلت المعارضة في تسوية خلافاتها، بتسمية وفد منها إلى المفاوضات مع النظام، بعد التشاور مع مختلف أطرافها، على أن يبلور هؤلاء تصورا موحدا حول مرحلة الانتقال، يقدم في البداية إليه، فيؤدي هذا كله إلى إقامة هيئة على مستوى رفيع من المصداقية، لديها من الخبرات ما مكنها بالفعل من حل معظم مشكلات وأزمات السنوات الثلاثين الأخيرة، تضم عربا وأجانب، وأخيرا إلى استكمال المبادرة العربية في ما يتعلق بالإعداد للتفاوض بين النظام والمعارضة تحت إشراف الجامعة، دون أن يفضي هذا الجهد إلى أية نتيجة، بسبب سياسات النظام ومحدودية وسائل وقدرات الجامعة، وتناقض المواقف العربية حيال الوضع السوري.

ليس ما يقترحه «تيار بناء الدولة» مشكورا على الأمين العام جديدا في أي بند من بنوده أو تفصيل من تفاصيله. وهو ليس جديدا في الطريقة التي ينظر من خلالها إلى حل الأزمة، ونتشارك جميعنا معه فيها، وتراها انطلاقا من مرحلة الانتقال وصولا إلى نتيجتها: قيام نظام ديموقراطي يرحل معه الرئيس، أو بالعكس: رحيل الرئيس تمهيدا لقيامها، عبر التفاوض مع أطراف من النظام في الحالتين كلتيهما.

ما الذي ينقص هذه الخطة الواضحة والمنطقية والمتماسكة؟. الجواب: القدرة على تطبيقها. ليس لدى كل من يريد مرحلة انتقالية تخرج سوريا من أزمتها الراهنة، التي حولها الحل الأمني السلطوي إلى تهديد خطير للمنطقة العربية وللسلام الإقليمي والدولي، القوة القادرة على إرغام النظام على قبول هذه الخطة والشروع في تطبيقها. أما نقطة ضعفها فهي تكمن في كونها تجعل تنفيذها رهنا بوجود أطراف من النظام تقبلها وتعمل لتحقيقها. ما العمل إذا لم توجد أطراف كهذه، أو إن وجدت في مرحلة متأخرة: بعد خراب البصرة؟

ثمة هنا معضلة حقيقية لا مفر من رؤيتها وإيجاد حل لها: كيف السبيل إلى إجبار النظام على قبول وتطبيق خطة هي مصلحة وطنية عليا، فيها مكان للجميع لأنها ستتم بجهودهم مجتمعة ومتكاملة، تقطع الطريق على حرب أهلية لا يعرف أحد نتائجها، لكنها ستكون ذات تكلفة باهظة إلى درجة تجعل انخراط أي طرف فيها جريمة بحق النفس والوطن والشعب؟ ما هي القوة، التي لا يتحدث أحد عنها، القادرة على وقف الذهاب إلى حرب أهلية شديدة الخطورة على سوريا والعرب والعالم، وعلى إقناع أهل النظام أو بعضهم بأن من الخير لهم التوصل إلى حل تفاوضي على مرحلة انتقالية تصل بسوريا إلى نظام تعددي / تمثيلي / ديموقراطي، كي لا تدخل البلاد، وهم منها، في المجهول، ويكون وجودهم نفسه مهددا، علما بأن ربح الحرب الأهلية ليس مضمونا بالنسبة إليهم، بينما يكاد يكون من المؤكد أن سوريا ستصير بعدها عصية على حكمهم، وأن الحرب ستأخذ أشكالا متنوعة وستستمر في صور مختلفة تجعل نتائجها مأسوية بالنسبة إليهم بالدرجة الأولى، حتى إن كسبوها أول الأمر؟

لا يجوز اليوم قصر الجهد على تقديم تصور كتالوغي، مهما كان إجرائيا ومنطقيا ومتماسكا، لأنه سيكون بالتأكيد غير قابل للتطبيق بسبب أوضاع أهل النظام وموقفهم. ولعله أن يكون من غير الحكمة بعد اليوم الإصرار على تصور كهذا، لان منطقيته لا تكفي وحدها لإقناع أهل السلطة بتطبيقه، وتواصل وتصعيد الحل الأمني لن يسمحا له بالتأثير إلا في أضيق الحدود على كتلة المحايدين الكبيرة في المجتمع، بينما تؤكد سياساتهم حقيقة أنه لا بد لإقناعهم بمرحلة انتقالية من وسائل أخرى غير التصورات المنطقية والمناشدات الأخلاقية، أهمها على الإطلاق تصعيد وتعميق صمود الشعب، كي يكسر في الفترة المباشرة القادمة تصعيد الهجوم السلطوي، الذي أعلن عنه الوزير وليد المعلم حين جعل الحل الأمني مطلبا جماهيريا شعبيا، فكأن الشعب لم يعد يريد شيئا غير حل أمني موجه ضده يستهدف كسر شوكته وإخضاعه بالقوة للسلطة، على أن يتم «الانتصار» على الشعب خلال الشهرين اللذين حددهما قرار الجامعة العربية لرحيل الرئيس!

والآن: هل سيكون مصدر هذه القوة الداخل أم الخارج أم الاثنان معا؟. أنا شخصيا أعول على الداخل، وأرى فيه قوة الحسم، التي لا بد من تنظيم قواها الهائلة واستخدامها بأكثر الطرق فاعلية وعقلانية ووطنية، فهذا وحده يمكن أن يقنع المتشددين من أهل النظام، الذين يمسكون اليوم بأعنته، بأن من الأفضل لهم عدم خسارة كل شيء، والاتفاق مع الشعب على خطط تخرج البلاد من مأزقها القاتل، لن تكون بالتأكيد والقطع غير الخطة التي قدمتها أطراف سورية متعددة منذ عام 2003، وتقوم على مرحلة انتقال تفاوضية تأخذنا على مسار حرية متوافق عليه نحو التعدد والنظام التمثيلي، التي سيصير لها، بعد أن يقتنع هؤلاء بعجزهم عن كسر المجتمع، قوة إجرائية ستتكفل بتنفيذها. أما اليوم، فنحن أبعد ما نكون عن ذلك، لأننا نرسم على الورق كاتولوغات لخطط سياسية جميلة نفتقر إلى القدرة الواقعية والضاربة، التي من شأنها توفرها إقناع الطرف الآخر بتنفيذ هذه الخطط.

هل يكفي لسد هذه الثغرة مطالبة الجامعة العربية بفعل ما نعجز نحن عن فعله، مع أنها أشد عجزا منا، ولا قوة لديها إلا تلك التي قد تستحضرها من العالم، بعد أن وضعت حلول النظام الأمنية المدمرة سوريا تحت رحمة خيارات ثلاثة هي: بناء قوة قادرة على ردع أو قهر النظام وإزالته بالكامل، أو قبول الشعب بالهزيمة، أو ارتماؤها في أحضان الأقلمة والتدويل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى