صفحات العالم

أين تبدأ سلطة بشار وأين تنتهي؟

 


غسان الإمام

كنت مخطئا. كنت أظن أن السوريين تم تدجينهم، بالمقارنة مع جيرانهم اللبنانيين الأكثر تمردا، وتعلقا بالحريات السياسية والشخصية. بعد أربعين سنة من حكم مطلق، نزل السوريون إلى الشارع للاحتجاج. انهار جدار الخوف من الطائفة. من أجهزة الأمن. من الجيش. من الحرس الجمهوري.. .

كانت المطالب متواضعة: الحرية، الكرامة. بعد القمع وسقوط القتلى، ارتفعت المطالبة بسقوط النظام، تعبيرا يائسا عن تحميل بشار مسؤولية ما جرى. مع الأسف، تبددت الشعبية التي حصل عليها، بحيوية شبابه. بنجاحاته الخارجية. وبمبادراته الإصلاحية الضيقة. السوريون الذين استنزفتهم اللامبالاة لم يعودوا يعيشون على المباهاة بالدور الخارجي. بل حتى الشعارات الوطنية والقومية فقدت بريقها، بعد أربعين سنة من حكم الحزب. والطائفة. ثم العائلة. ويكاد الأمل يتبدد برئيس شاب. وعد فلم يتحقق الوعد بالرخاء. بالسلام. بالانفتاح.

اعترف بشار بالتأخير. الاعتراف ترافق بوعود إصلاحية. لكن لم يترافق بتغيير عميق بأسلوب المعالجة، ولا بأسلوب المواجهة. كان رد الرئيس على النزول إلى الشارع بالعودة التقليدية إلى نظرية «المؤامرة» التي سادت دائما علاقة الحزب والحكم بالشارع. بالمواطن. بالمعارضة: إلقاء المسؤولية دائما على إسرائيل علنا، والدول العربية المجاورة ضمنا.

ماذا عن الوعود بالإصلاح السياسي؟ مجرد عناوين: إلغاء قانون الطوارئ. إصدار قانون الأحزاب. تعديل قانون الانتخاب. منح الجنسية للأكراد اللاجئين من العراق. أو المستوردين من تركيا مع عبد الله أوكالان «ضيف» الرئيس الأب في الثمانينات الذي كاد يتسبب بإشعال حرب مع تركيا في التسعينات.

كان على بشار أن يعلن بنفسه عن الإصلاح السياسي. لا أن يتركه إلى موظفة غير مسؤولية عن التنفيذ والوفاء بالوعود. يبدو أن الكبرياء الشخصية (كي لا أقول الغطرسة) حالت دون انتهاز فرصة ثمينة للمصالحة مع الشارع. ولاستعادة الثقة والشعبية اللتين تبخرتا بسرعة، بعد القمع السريع والمتواصل.

عندما ظهر الرئيس على الشاشة اختار أضيق النوافذ: ظهر بين نواب يصفقون. نواب غير مستعدين للتعبير عن التذمر الشعبي الهائل. تكلم. فلم يقل شيئا جديدا. بل اختصر العناوين ذاتها بوعد مبهم. ومتكرر عن إصلاح سياسي لم يتحقق خلال عشر سنوات من حكم الابن، وبعد ثلاثين سنة من حكم الأب الذي وعد بالديمقراطية (عام 1980)، ولم ينفذ.

كان بديهيا أن يتجدد الاضطراب في الشارع. وبالتالي، يتجدد القمع بالقتل. أكتب هذه الكلمات وهدوء نسبي يسود الشارع. لعله فرصة جديدة للرئيس ليعلن تفاصيل أكثر عن الوعود. بات بشار محكوما بسباق مع الوقت. إذا خسر هذا السباق. فالاضطراب سيعود. والمواجهات الدموية ستأخذ طابع هبات ساخنة بين يوم ويوم.

أعود هنا إلى أسلوب المواجهة الميدانية، لأقول إننا نحن العرب لم نتعود الحوار السلمي في الشارع. الاستفزاز السريع والمباشر دائما متبادل بين قوى الشارع وقوى النظام. دفع الآباء لأبنائهم المراهقين لإهانة النظام والرئيس على الجدران (يا دكتور أجاك الدور) غير لائق. رد النظام باعتقال المراهقين وتعذيبهم. لم يتم الإفراج عنهم إلا بعد مجزرة للآباء في الشارع.

رئيس شاب لا يسمح للأجهزة بنصب القناصة في أعلى المباني لصيد الشباب في الشارع. حكاية «العصابات المسلحة» غير منطقية. وغير مقنعة. من يصدق أن الأجهزة القمعية بريئة من استخدام «العصابات» الطائفية المسلحة؟ عصابات تطلق الرصاص على المتظاهرين، لا على رجال الأمن والقمع.

حان الوقت لتطوير وتهذيب لغة الحوار في الشارع: إزاحة تماثيل الوالد. اختصار الخطب الرئاسية. تجديد لغة الحزب الخشبية. تعويد القيادات الحزبية على النزول عن المنابر العالية، واستخدام الحوار مع الشباب والنظارة، بدلا من إلقاء المحاضرات الإنشائية.

بل لا بد من استغناء رئيس «مودرن» عن كتيبة الهتافة المرافقة له في الحل والترحال، وفي الشارع: (الله. وبشار. وبس) أو (بالدم. بالروح. نفديك يا بشار). لا تصدق يا سيدي أن أحدا، مخلصا أو مأجورا، يستغني عن حياته من أجل رئيسه. ديغول أحب الزعماء إلى قلوب الفرنسيين رفض إقامة تمثال له في الشارع. أو تعليق صورته في الجمعية الوطنية. البرلمان هو بيت الشعب. والرئيس ليس «سيد الوطن» كما زعمت الصحافة الحزبية والحكومية، في عهد الوالد. ماذا حدث في الفترة القصيرة بين الإعلان بالعناوين عن المشاريع الإصلاحية، وعودة الرئيس إلى لغة التهديد والوعيد؟ أقول هنا إن مراكز القوى الخفية والمعروفة تتحكم دائما بنظام يلغي السياسة والحياة الحزبية المشروعة. مصادر المعارضة السورية تعتقد أن بشار تعرض لضغوط كبيرة من «الجناح الاستئصالي» المتمركز بقوة في الطائفة. والجيش. والأمن. والحزب.

الاستئصاليون يخشون من أن يؤدي الانفتاح السياسي إلى فقدان الطائفة هيمنتها على السلطة السياسية، والإدارة الحكومية. من هنا، فهم يؤمنون باستخدام القوة المطلقة في التعامل مع الشارع والمعارضة. ويبدو أن موقفهم «الصلب» فرض على الرئيس اختصار الإصلاح بالعناوين.

في تفضيل الأب لابنه باسل (الفارس) وتهيئته المبكرة لتوريثه، وجد النجل الثاني (بشار) في العلم (الإنترنت) والطب مجالا لملء الفراغ في حياته. درس طب الأسنان في جامعة دمشق. وتخصص سنتين في بريطانيا، قبل أن يستدعى فجأة بإلحاح للعودة إلى دمشق. فقد قتل الباسل في سيارته (السبور) التي كان يقودها بسرعة متهورة فجر يوم من الأيام عام 1994. اعتبر الباسل «شهيدا». وخطب الأب داعيا إلى «تخليده» برعاية خيوله.

وجد الأب المكلوم في بشار عزاء وسلوى. وكان بشار ذكيا. فقد أظهر انضباطا مساعدا للأب الذي كان يتضايق أحيانا من تمرد الباسل وتجاوزاته. مع انهيار قوى الأب جسديا ونفسيا، فقد عمل بجهد كبير للتخلص من رموز الحرس القديم التي يمكن أن تشكل خطرا على سلطة ورئاسة شاب حديث السن.

وهكذا تم إقصاء قيادات مدنية وعسكرية في الطائفة والحزب والسلطة (الفريق علي دوبا. العماد حكمت الشهابي. محمود الزعبي..) وساهم بشار في عملية الإقصاء، باتهام الحرس القديم بالفساد. والترهل. وفردية الطموح الشخصي. واستمرت عملية التطهير بعد وفاة الأب (2000). فأقصي عبد الحليم خدام. وانتحر اللواء غازي كنعان وزير الداخلية.

توفرت لبشار خبرة وتجربة كبيرة، وهو في خدمة الأب. وكلف بمهام وملفات داخلية وخارجية وأهمها ملف لبنان. وأقول هنا إن بشار نجح في فرض العماد إميل لحود رئيسا للبنان.

غير أن بشار لم يكن موفقا في اختيار بعض مساعديه (رئيسي الوزراء مصطفى ميرو وناجي عطري). وارتكب قادة جهازه الأمني في لبنان «أخطاء» اعترف بها، بعدما نجحت الضغوط الدولية، في إجباره على سحب القوات السورية من لبنان، إثر مقتل رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري الذي لم يكن على علاقة جيدة بلحود أو بالأسد الابن.

كان الهم الخارجي عذر بشار الدائم عن عدم تنفيذ وعوده السياسية بالإصلاح. الحقيقة أن بثينة شعبان لم تكن هي المبشرة بالتغيير الإصلاحي. فقد وعد بشار بالإصلاح والانفتاح منذ توليه الرئاسة قبل عشر سنوات. لكن (الدولة الخفية) ساهمت بجناحها «الاستئصالي» في عرقلة التنفيذ. فاقتصرت الإصلاحات على الانتقال إلى اقتصاد السوق. وتحسين الإدارة الحكومية بالاستعانة بالخبرة الفرنسية. في الخلاصة، أعتقد أن بشار، شخصيا. ونفسيا. وثقافيا، هو نتاج تربية أب يتكلم بنعومة. ويحمل عصا غليظة. لم يشارك بشار في المجازر والقمع. لكن فوت فرصا ذهبية، بعد وفاة الأب، لتبني وتنفيذ إصلاحات محدودة بمحض اختياره، فيما يبدو اليوم مضطرا لتجديد الوعد بها، تحت ضغط جيل الانتفاضة الشبابي الذي عرف كيف يضعه أمام الإنترنت، وكيف يحمله الهاتف المحمول، من دون أن يعرف كيف يتبناه كقاعدة شعبية له ولنظامه، في مواجهة مراكز القوى الخفية في نظامه. وطائفته. وجيشه. وأجهزة أمنه.

الشرق الأوسط

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى