حسين العوداتصفحات سورية

أين دور الحركة الوطنية السورية؟/ حسين العودات

 

 

استمرت الانتفاضة الشعبية السورية العظيمة والمشرفة بضعة أشهر، خرج الشعب السوري خلالها بمئات الألوف، في مختلف قراه وبلداته ومدنه. كان يهتف بصوت واحد وينادي بمطالب محددة، ويصر على الأساليب السلمية في النضال. وقد تلخصت شعاراته بالمطالبة بالحرية والكرامة، ومحاربة الفساد، وكف يد الأجهزة الأمنية. ولتدرأ الجماهير الشعبية السورية عن نفسها أي تهمة مخالفة لمعايير الدولة والعصر الحالي والفئوية، أطلقت شعارها «واحد واحد، الشعب السوري واحد». وكانت هذه الشعارات شبه عفوية، وتشير شموليتها والاتفاق عليها إلى أنها صدرت نتيجة واقع كان يعيشه السوريون جميعاً، وهم غير راضين عنه، بل مستاؤون منه، وفي ضوء ذلك، فإن هبتهم كانت تطالب بتطهير النظام السياسي القائم في ذلك الوقت من أخطائه وخطاياه وممارساته وتنقيته من الشوائب والفساد والاستبداد. ولم يصدر في الأشهر الأولى للانتفاضة أي شعار ينادي بإسقاط النظام، أو يوحي بالتهديد بعسكرة الانتفاضة، وبقي شعار «الانتفاضة سلمية»، لكن السلطة السياسية، رفضت هذه الشعارات، واعتبرتها تهماً باطلة، وأصرت على أن النظام السياسي السوري نظام مثالي، وأن عشرات بل مئات الألوف من المنتفضين ما هم سوى مسيرين بقادة يرتبطون بالأجنبي، ويتسلمون منه المال والسلاح وأنهم إرهابيون يريدون خدمة إسرائيل والإمبريالية.

لذلك استخدم النظام العنف ضد المتظاهرين، وتعامل مع جموعهم بإطلاق الرصاص عليهم وممارسة الأساليب الوحشية ضد تظاهراتهم وتجمعهم، وانتقلت الانتفاضة من حال إلى حال، من مرحلة الانتفاضة الشعبية السلمية، إلى مرحلة الصراع المسلح بين السلطة وفئات المنشقين عن الجيش، ثم ما لبث الخارج أن تدخل بالمال والسلاح. ونتيجة هذه الظروف والتطورات تأكدت شروط جديدة: أولها أن تزايدت الفئات المسلحة كالفطر، وصارت كل مجموعة لا يتجاوز عدد أعضائها أحياناً العشرات تشكل تنظيماً مسلحاً وتطلب مساعدة من دول إقليمية وتصير موالية لها وحليفاً، وبصريح العبارة تأتمر بأمرها. ذلك لأن هدف بعضها الرئيس لم يكن هدفاً عاماً يتعلق بالثورة والوطن وإنما هو استعراض القوة وتأمين المال والسلاح لتحقيق ذلك. وثاني الظروف المستجدة عسكرة الانتفاضة والهبة الشعبية والتخلي عن سلمية الثورة، واشتعال الصراع المسلح بين الفصائل المسلحة وبين قوات السلطة. وتراجعت «الهبة» الشعبية ولم يعد للجموع المنتفضة أي دور في الانتفاضة أو الثورة لأنها أصبحت صراعاً بين فئات مسلحة موالية أو معارضة، الموالية منها ارتهنت لحلفائها الإيرانيين وميليشياتهم والروس وسلاحهم الجوي، والمعارضة ارتهنت لمموليها ولمساعديها بالسلاح الإقليميين والدوليين. وخرج الصراع من مهماته السورية وأهدافه السورية إلى السعي لتحقيق أهداف ومصالح إقليمية ودولية.

ومن النتائج الهامة لذلك، تراجع الفصائل المسلحة التي تحمل أيديولوجية فلسفية وسياسية، وأعني تلك الفصائل التابعة لـ «الإخوان المسلمين»، والظهور غير البريء لفصائل مسلحة بديلة عنها تنادي بالإسلام السياسي، فضلاً عن المنظمات الإسلامية الإرهابية. ومن النتائج الهامة أيضاً، نمو الأحقاد الطائفية شيئاً فشيئاً، وتعمق الشروخ الطائفية وتحولها إلى أغوار. وفي الوقت نفسه خسرت فصائل المعارضة الوطنية السورية دورها وأهميتها في الصراع ونفوذها فيه، وكذلك خسر النظام أخذ رأيه بعين الاعتبار أو إعطاء هذا الرأي أهمية. وبالتالي لم يعد للسلطة أو للمعارضة الوطنية دور جدي في الوصول إلى تسوية. وفي ضوء هذا تشددت السلطة في مطالبها وتطرفت فيها لعلّ ذلك يعطيها بعض الأهمية، وفعلت فصائل المعارضة مثل ذلك، بعدما صارت رهينة لمموليها ومسلحيها. ولا أظن أن الدول الأخرى اختارت مفاوضين في صراع بين السلطة والمعارضة خلال التاريخ الحديث كله، فكيف يمكن فهم أن بعض الدول تختار المفاوضين للطرفين المتصارعين، وهذا ما عليه الحال في اختيار المفاوضين السوريين حالياً من قبل حلفاء المعارضة والنظام، هكذا علناً وكأنه أمر مشروع وطبيعي.

يتساءل المراقب أو الباحث كما تتساءل أطراف المعارضة الوطنية السورية: أين القوى الوطنية السورية المعارضة غير المرتهنة لأحد، وما هو دورها في هذه الظروف، ولماذا لا تعمل لتغيير الواقع القائم؟

أدى تطور الصراع بين الجماهير الشعبية والسلطة السياسية وتعقيداته، والتدخل الإقليمي والدولي، والصراع على المصالح، وتحوله إلى صراع مسلح كلياً، وتراجع دور الدولة، وعدم احترام القانون أو العمل به، إلى كمون القوى الوطنية المعارضة. وهي وإن لم تتخل عن دورها التاريخي في قيادة الحركة الوطنية، إلا أنها لم تجد وسيلة للعب أي دور، وصارت الظروف المحيطة أقوى منها، ولم تسمح لها بالتحرك. فكان كمونها إلزامياً، وليس لديها وسيلة للمشاركة، وبالتالي عليها الحفاظ على نفسها فقط، وعدم التورط في مواقف سياسية أو أيديولوجية تشكل ردود فعل على ما يجري، غير مبنية على أسس استراتيجية، وفهم عميق لما يحصل، وذلك انطلاقاً من الإيمان بأن أهداف وممارسات الذين يملأون الساحة السورية بصراعهم، هي عارضة وطارئة بل ومارقة وهي صخب فقط. وفي النهاية لا بد أن تعود الأمور للقوى الوطنية لتوجه مسار سوريا وتعزز مستقبلها، لأن هذه القوى الحالية ما هي إلا قوى غير شرعية، ولأن للشعب السوري أهدافه ومصالحه ومن حقه تقرير مصيره، وليس لهذه القوى حق تقرير المصير.

في النهاية، وبحسب مسيرة التاريخ وأحداثه، فإن الذي يبقى هو القوى الوطنية، مستقلة الإرادة والرأي. وستذهب جفاء هيمنة الآخرين على سوريا، ومحاولاتهم تقرير مصيرها. ومن البديهي القول إن أي قرار لرسم النظام السوري وهيكليته من قبل الآخرين غير السوريين لن يدوم طويلاً. فالبلاد لأهلها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وينبغي أن نلاحظ أن فصائل المعارضة السورية الوطنية بقيت تحت الأرض طوال ما يــــقارب النصف قرن. وعندما نهـــضت مع بدء الانتفاضة وجدت نفسها ما زالت تحبو. ولم تستطــــع، لجــــملة ظروف وشروط، أن تواجه مسؤولــــياتها وتتفق على أهداف وأساليب موحدة، ويبدو أنها تنحت إلى حّين.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى