صفحات العالم

أين ذهب شبيحة ملاديتش في يوم الجولان؟

 

 


د. عبدالوهاب الأفندي

(1) لسبب ما ذكرني مشهد الشباب السوريين والفلسطينيين وهم ينحدرون على سفوح تلال الجولان الخضراء ببرامج الطبيعة في قناة ‘ديسكفري’، حيث يتابع المرء المشهد الخلاب للغزلان وهي تمرح سعيدة في المروج، قبل أن تخرج الأسود فجأة من مكمنها وتشرع في مطاردتها ثم التهام ما تيسر منها. وكان ذلك ما حدث بالضبط خلال الدقائق والساعات التي تلت. وكما يصف مقدمو هذه البرامج المشهد بدقة دون تدخل لإنقاذ الفريسة، كان مراسل الجزيرة يحصي من مأمنه على الجانب الإسرائيلي الإصابات واحدة بعد أخرى. كلنا أصبحنا، ومعنا الأسد الآخر، متفرجين والليث الغضنفر يلتهم الضحايا الأبرياء.

 

(2)

في إسرائيل، بعكس سورية، لا تمنع وسائل الإعلام من تغطية الأحداث، ولهذا كنا نشاهد قناصة الجيش الإسرائيلي عن قرب وهم يطلقون النار على المتظاهرين العزل (الأصح أن يقال على القرابين التي قدمها النظام السوري على مذبح عبادة الحاكم الأوحد)، وعلى الهواء مباشرة. وكنا شاهدنا من قبل، وبالرغم من المنع الرسمي، شبيحة الأسدين (بشار وماهر) ورامي مخلوف، وهم يطلقون النار بمهارة تثير حسد جيش الدفاع الإسرائيلي على المتظاهرين العزل، فيجندلون ما شاء الله منهم بدون كبير جهد. وقد كان المأمول أن يظهر من بعض أولئك الرماة المهرة من يجندل الرماة الإسرائيليين الذين يفتكون بالمتظاهرين العزل. ولكنهم كانوا كما يبدو مشغولين بمهام أخرى بعيداً جداً عن الجولان.

 

(3)

إسرائيل خذلتنا كذلك وخذلت رامي وماهر، لأنها لم تنجح، طوال يوم النكبة-النكسة-الهزيمة سوى في قتل 22 فقط من العرب. بينما نجح كماة الأسدين خلال ساعات قليلة في نفس اليوم في قتل ثمانية وثلاثين متظاهراً في جسر الشغور، وعشرات غيرهم في مواقع أخرى. وهكذا ضيعت إسرائيل الغاشمة على إعلام الردح السوري فرصة البكاء والعويل على ‘الأبرياء العزل الذين قتلوا غدراً’.

 

(4)

تعريف البراءة لدى الإعلام السوري ينطلق من تحديد القاتل لا من تعريف الضحية. فكل من تقتلهم القوات الأمنية السورية وشبيحتها وزعرانها هم مجرمون مندسون، أما من يقتلهم الآخرون فهم ضحايا ‘عدوان صارخ’. ولكن الحكاية كان لها جانب آخر، لأن قطاعاً كبيراً من فلسطينيي المخيمات في سورية اتهموا النظام السوري، وبعض ‘متعهدي الأنفار’ من القيادات الفلسطينية، بأنهم دفعوا الشبان الفلسطينيين والسوريين إلى موت محتم لمجرد صرف النظر عن جرائمهم الأخرى. وقد يؤدي هذا الاتهام بعد قليل إلى وصف ضحايا الجولان بأنهم كانوا مندسين سلفيين إرهابيين موالين لإسرائيل.

 

(5)

كنا قد أشرنا إلى وقت سابق إلى أن النظام السوري تاجر بالقضية الفلسطينية وقضايا العرب الأخرى، وأنه لم يدعم تلك القضايا وإنما استغلها من أجل دعم الحكم القمعي في سوريا والتوسع في لبنان. وإذا كان حصاد أهل فلسطين من منظمات مثل جماعة أحمد جبريل صفراً كبيراً في مقابل الخدمات التي يقدمها فصيل جبريل للنظام السوري، فإن الأمر يتجه نحو ذلك في لبنان.

 

(6)

الطائفية هي المعلوم المسكوت عنه في الصراع السوري. وهي تظهر في التغطية الانتقائية للأحداث وضحاياها. فحتى مطلع هذا الأسبوع، بلغ عدد القتلى في سورية من المندسين أكثر من ألف ومائتي قتيل. وفي كل ذلك كان المسؤولون والإعلاميون السوريون وشبيحة المثقفين (فهناك أيضاً شبيحة يحملون درجة الدكتوراه ويظهرون على شاشات التلفزة بإسم مدير المركز الفلاني أو الأستاذ الجامعي في مادة كذا، ليبرروا ما لا يمكن تبريره) يتمترسون خلف النفي القاطع ونسبة الأخبار المصورة إلى كذب ومؤامرات صهيونية امبريالية، افتراء على الصهاينة المساكين. أما حين قتل بضع عشرات من الفئة التي لا يرى الحكم في سورية بشراً غيرهم، أعلن الإعلام السوري فجأة الاستنفار وتوعد في جسر الشغور بحماة جديدة.

 

(7)

منذ ايام حماة السوداء إلى يوم جسر الشغور وما بعده، ظل النظام السوري الطائفي يكرر ما أتاه الجنرال الصربي راتكو ملاديتش، الذي رأيناه يتبختر في خيلاء أمام العزل في سريبرينتسا، ثم شهدناه وهو يساق ذليلاً صاغراً إلى محكمة لاهاي وهو يتوسل بأنه شيخ مريض يستحق الرأفة والرحمة، وهي حجة لا تقبلها المحكمة كما أنها لن تقبل يوم الحساب الأكبر.

 

(8)

إن المولى تعالى في حكمته قد يعجل للمجرمين في الدنيا قبل الآخرة، كما وقع لراتكو ملاديتش وقبل ذلك رئيسه كاراديتش ورئيسهما ميلوسوفيتش. وقد أدركت القذافي وأبناءه عواقب جرائمهم الكثيرة حتى يكونوا عبرة لمن اعتبر. وقد ظن آل الأسد وأزلامهم أن جريمتهم الكبرى في حماة وما تبعها ولحقها من كبائر قد نسيت وأفلت مرتكبوها من العقاب. ولكن يبدو أنهم في سبيل تذوق العقوبة العاجلة بعد أن سقطوا في فخ إجرام جديد لا وسيلة معه للإفلات.

 

(9)

لقد ارتكب النظام السوري أكبر عملية انتحارية في العصر الحديث، حيث تدثر بالدثار الإجرامي الطائفي، ولبس لأمته الهتلرية، فأراق مع دماء ضحاياه آخر قطرة من الشرعية كانت تجري في عروق نظامه. وكما وقع من قبل للهوتو في رواندا والصرب في البوسنة والنازيين والفاشيين في أوروبا، فإن النظام الطائفي في سورية قد انتحر قتلاً. وقد يصبح المخرج المشرف الوحيد له شن هجوم خاطف لاسترداد الجولان، وهو ما لن يفعله لأن الطغاة كما هو معروف، هم أجبن الجبناء. واسألوا القذافي الذي يختبئ في مخبئه المحصن ويدعو النساء والأطفال لحمايته، بينما يرسل أبناء الليبيين الآخرين لقتل إخوتهم.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى