صفحات سورية

أين ستكون الضربة «المقبلة»؟

 

عبدالحميد سليمان *

ثمّة شيءٌ تغيّر، لقد بيّنت الضربة الجوية التي شنّتها المقاتلات الإسرائيلية على مواقع تابعة للنظام السوري، أنّ الولايات المتحدة عاقدةٌ العزم على جرّ الأسد إلى التفاوض، إذ تمتد الغايات المرجوة من الغارة الأخيرة أبعد من تخوم المصالح الآنية للدولة العبرية، والغرض هنا يتجاوز محدودية الحؤول دون وصول أسلحة نوعية إلى «حزب الله» في لبنان، لقد دمّرت الغارة على ما رشح من مصادر متعددة داخل البلاد، مبنى البحوث العلمية في جمرايا، ومستودعات الحرس الجمهوري في جبل قاسيون، ومعامل الدفاع بالقرب من الهامة، هذا فضلاً عن توجيه ضربة قاصمة لكل من اللواء ١٠٥ واللواء ١٠٤ حرس جمهوري، وهما لواءا النخبة في جيش النظام.

الأمر إذن يذهب أبعد قليلاً من نظرةٍ قاصرة تغض الطرف عما تمثله إسرائيل كقوّة عظمى إقليمية في المنطقة، ربما حان في هذا السياق أن يدرك السوريون أنّ أمن إسرائيل تحميه قوة إسرائيل، وليس بقاء أحد الطغاة في السلطة، هذه حقيقةٌ جوهرية يبدو أنّ الأسد «على الأقل» قد تناساها وحان وقت تذكيره بها، الرجل يبدي سلوكيات خرقاء تتجاهل حقيقةً أخرى جوهرية، الولايات المتحدة لا تلعب النرد، وهي وإن انحازت في ظل قيادة الرئيس باراك أوباما إلى منهجٍ سياسيٍ معتدل، عماده القيادة عن بعد أو من وراء شركاء إقليميين، إلا أنها تبقى القوّة العظمى في هذا العالم، وهي حين تقرر أن تدفع أحد الطغاة إلى التفاوض فهي قادرة على تحقيق هذا بكل بساطة، ليس ثمّة من حصانةٍ هنا، روسيّةً كانت أم إيرانية.

المعارضة السورية من ناحيتها لا يُعول عليها، هذه باتت قناعةً لدى لولايات المتحدة بعد مضي سنتين على الصراع الدامي، ناهيك عنها لدى عموم السوريين، إذ يكاد المرء يعجز عن لحظ رجل دولةٍ واحد في هذا الركام اللامتناهي من التجارب الفاشلة. بهذا المعنى، ترى الولايات المتحدة أن ليّ ذراع الأسد عن طريق تسليح المعارضة أمرٌ محفوف المخاطر، لذلك وبدلاً من الخوض في ما قد لا تُحمد عقباه، من منظور المصالح الحيوية للولايات المتحدة ورؤيتها للحل في سورية بطبيعة الحال، يبدو من الأفضل لها أن تجرّ الجميع إلى التفاوض، الأمر يقتضي أن تمارس الولايات المتحدة سياسة الاحتواء المزدوج على قطبي الصراع، الضغط على الأسد بإسرائيل، والضغط على المعارضة بالأسد. لم يكن كل هذا مع ما يسوقه من عذاباتٍ للسوريين ليكون «ضرورياً»، لو أن المعارضة السورية أحسنت التفاوض مع الغرب، أو لو كانت لديها الجرأة التاريخية لعقد التسوية التي لا مناص منها معه، أقلّه لتعبر بالسوريين من المأزق الوجودي الذي تمر به البلاد، لكنّها كانت أضعف وأكثر تردداً من أن يُناط بها هذا الدور التاريخي.

يرتكب الأسد ومعه حلفاؤه خطأً قاتلاً إن هم ظنّوا أنّ بمقدورهم تجاهل الخطوط الحمر التي وضعتها الولايات المتحدة. الضربة التالية قادمةٌ إن هو لم يقتنع أو لم يقتنع حلفاؤه في طهران وموسكو أن لا مكان للرجل في سورية الجديدة، التفاوض هنا على التنحي لا على البقاء، هذه إرادةٌ أميركيةٌ واضحة، وقد عبّر عنها بكل جلاء مسؤولون كبار في الإدارة الأميركية، بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة، الرجل لا يُمكن أن يُؤخذ إلا على محمل الجد، وقد قالها بوضوح في غير مرة، وضوحٌ لا يبدو أنّه يلقى آذاناً صاغية أيضاً لدى أقطاب المعارضة السورية ممن يصرون على إبقاء الثورة السورية حبيسةً في أتون العداء العقائدي اللاعقلاني، والتناقض المنفعي مع الغرب عامة، والولايات المتحدة على وجه الخصوص.

لقد أساء الجميع على ما يبدو فهم سياسة الصبر الإستراتيجي التي طبعت مقاربة الرئيس أوباما لتفاقم الأوضاع في سورية، كذلك تناسَوا أن روسيا لم تعد دولةً عظمى بأي معنى، وأنّها تلعب في الفسحة المتروكة التي تغض الولايات المتحدة النظر عنها، هذا لم يعد حال المسألة السورية، هذا ما عنته الغارة الإسرائيلية، لكن الضربة القادمة لن تكون من القوّة بحيث تؤدي إلى سقوط الأسد، ولكنّها ستهزّه إستراتيجياً على الأقل، ربما أن تدفعه لإعادة النظر في حساباته التي بنى عليها مقاربته الهوجاء للأمور، في هذا السياق، من المستبعد أن تستهدف الغارة مطار المزّه العسكري، أو قصر الشعب حيث ترابط قوّةٌ لا يستهان بها من الحرس الجمهوري، هذا قد يقضي على النظام، ويقود بالتالي إلى إعطاء المعارضة السورية ما قد تراه الولايات المتحدة «نصراً غير مستحق بعد»، كذلك من المستبعد أن تستهدف مقرات النظام الأمنية في كفرسوسة، أو حتى مبنى البحوث العلمية في برزة، لأنّها قد تؤدي إلى وقوع خسائر بشرية وخيمة في صفوف المدنيين.

من المرجح أن تستهدف الغارات إذن قوّات النظام المرابطة في الناصرية أو في القطيفة. هناك ثمّة مخزون إستراتيجي من الأسلحة الصاروخية التي لا يكف النظام عن إطلاقها على الشمال السوري، هكذا ضربة ستضعف النظام المتهرئ أصلاً من دون أن تقود إلى سقوطه، وهي قد تدفع عدداً من قادة الألوية والقطعات إلى إعادة النظر في صيرورة الأمور، لا سيما هؤلاء المنتمين إلى الطائفة العلوية، علّها تجدي نفعاً في دفعهم إلى التعقل، وإدراك أن السوريين ليسوا وحدهم في هذا العالم. ربما حان الوقت أن يعي الجميع هذا قبل فوات الأوان.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى