صفحات العالم

أي ثمن لعسكرة الثورة السورية؟


شحاتة عوض

مع إقتراب الذكرى الاولى لانطلاق الثورة السورية يبدو الفارق شاسعا بين الشعارات التي رافقت الأيام الأولى لاندلاع شرارتها والتي أكدت على التمسك بسلمية الحراك الشعبي ورفض أي نزوع نحو العنف أو التسليح، وبين الموقف الراهن الذي يجد فيه الثوار أنفسهم أمام خيار العسكرة والتسلح كمسار إجباري أخير لا مفر منه أمام ألة القتل الغاشمة التي يشنها النظام بلا هوادة لدرجة تحول معها القتلى من أبناء الشعب السوري الى مجرد أرقام لا تتوقف عن التصاعد مع صبيحة كل نهار.لم تعد مسألة التسلح مجرد رغبة في منازلة النظام والعمل على إسقاطه بالقوة بل صار الأمر ضرورة للبقاء على قيد الحياة ومواجهة خطر الإبادة الذي يتعرض له كل سوري يفكر في التمرد على نظام الاستبداد. وفي مواجهة ذلك لم يعد بمقدور مكونات الثورة السياسية والميدانية في الداخل والخارج ،الإستمرار في التمسك بما رفعته من شعارات عن سلمية الثورة ورفضها لاي تسليح او تدخل خارجي لاسيما مع حالة الإنسداد الكامل الذي وصلت اليه كل الجهود والتحركات لايجاد حل سلمي للازمة يحقن دماء السوريين ويجنب هذا البلد العزيز مخاطر الإنزلاق نحو عنف ربما لا يمكن السيطرة على حدوده أو أفاقه .

لقد ظلت كل قوى الثورة السياسية والميدانية وعلى مدى شهور قابضة على خياراتها السلمية وحريصة على لاءاتها الثلاثة التي رفعتها منذ اليوم الاول ‘لا طائفة لا تسلح لا تدخل خارجي’ رغم فداحة التضحيات التي قدمها السوريون دماء زكية سالت على إمتداد ربوع الوطن السوري .وحتى مع ظهور بعض مظاهر التسلح المحدودة التي كانت نتاجا طبيعا لإستمرار اعمال القتل والتنكيل ومحاولة للدفاع عن النفس والوجود في مواجهة عصابات النظام، فإن الجسد الأكبر للثورة ظل مدافعا عن سليمة الشارع ورفض أي حديث عن التسليح أو التدخل الخارجي. بيد أنه ومع إنحياز النظام بالكامل وبشكل سافر لخياره الأمني الذي يقوم على فكرة سحق الإنتفاضة حتى لو إقتضى الأمر إفناء الشعب السوري كله، ومع تنامي حركة الإنشقاقات في صفوف الجيش وإنضمام الالاف من الضباط والجنود إلى الثورة، وصرخات المحتجين التي تناشد العالم إنقاذهم من جلاديهم، وجدت العناوين السياسية للثورة نفسها وتحت ضغط الشارع الثائر وأمام التزامها الأخلاقي ،مضطرة ة لطلب المساعدة وتدخل المجتمع الدولي لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية .

لكن بعد مضي كل هذه الشهور ومع سقوط كل هؤلاء الشهداء على محراب الحرية والكرامة ومع وصول كل الجهود العربية والدولية لإجبار النظام على التوقف عن قتل شعبه، إلى طريق مسدود ومع تبدد أي أمل في تدخل دولي يضع حدا لحفلات القتل الجماعي، باتت هناك قناعة لدى كثير من الأطراف الإقليمية والدولية ومعها القطاع الأكبر من المعارضة السورية بأنه لا مهرب من تسليح المعارضة كطريق وحيد للدفاع عن النفس والبقاء على قيد الحياة ومحاولة وقف نهر الدم السوري عن الفيضان. غير أن أطراف المعارضة السورية وهي تسير في هذا الطريق تدرك جيدا أن معادلة التسلح من أجل البقاء في مواجهة خطر الإبادة، على بساطتها من الناحية النظرية تبدو بالغة التعقيد على أرض الواقع ومحفوفة بالكثير من المخاطر والمخاوف من خروج الأوضاع عن السيطرة بالكامل. فالمعارضة وهي تسير مضطرة نحو العسكرة تعلم يقينا أن هذا الخيار دونه الكثير من المخاطر الهائلة وأن النظام ربما يجد في ذلك طوق نجاة لإطالة عمره القصير، وتبرير مواصلة الولوغ في دم السوريين، كما أنه وهو كحيوان جريح وفي مواجهة التصعيد العسكري ضده ربما يلجأ الى سياسة الأرض المحروقة التي قد تقضي على الأخضر واليابس في سورية .وهذا يضع المعارضة بجناحيها السياسي والعسكري أمام تحديات جسام من خلال العمل على تجنب أو على الأقل تخفيض هذا الثمن الباهظ الذي يمكن أن يدفعه الشعب السوري كله نتيجة هذه الخطوة. ومن هنا يبدو أن السؤال عما إذا كانت الثورة السورية تتجه للعسكرة قد تجاوزته التطورات ويصبح السؤال هو أي ثمن يمكن أن يكون لهذه العسكرة؟.

في هذا السياق يمكن أن نقرأ إعلان الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري عن تشكيل مكتب إستشاري عسكري يتولى عملية تنظيم وتنسيق تزويد المعارضة بالسلاح ‘والحليلولة دون حدوث عمليات تسليم مباشر للأسلحة بطريقة فوضوية’. هذا الأعلان يعكس أحساسا عميقا من جانب المعارضة لخطورة ما هي مقدمة عليه، فإذا كان التسليح شرا لا بد منه فلا أقل من أن تتوفر ضمانات لأن يكون هذا السلاح بيد جهة واحدة هي الجيش الوطني الحر الذي يتشكل بالأساس من عسكريين محترفين إنشقوا عن الجيش النظامي وهولاء لديهم درجة عالية من الإنضباط والقواعد العسكرية التي تحكم سلوكهم وليسوا مجرد متطوعين مدنيين لا خبرة عسكرية لديهم وحتى لا ينتهي الأمر إلى أن تتحول المعارضة مع تدفق السلاح بدون تنظيم إلى ميلشيات مسلحة يصعب السيطرة عليها وعلى تصرفاتها وفي هذه الحالة سنكون أمام سيناريو كابوسي يسعى كل العقلاء والمخصين لثورتهم إلى تفاديه بشتى السبل وهو إنزلاق البلاد نحو إقتتال أهلي لا يبقى ولا يذر ويقضى على كل أحلام السوريين بغد أفضل.فالجميع يدرك هول أن يلتقي السلاح مع مشاعر الكراهية والثأر لدى أشخاص لا يمكن السيطرة عليهم في مجتمع بالغ التعقيد مثل المجتمع السوري.

غليون سعى أيضا للتأكيد على الطابع الدفاعي للأسلحة وأنها ‘للدفاع عن المدنيين وليس لشن حرب’ محاولا بذلك تبديد المخاوف من إندلاع حرب أهلية في سورية. لكن ليس معلوما على وجه اليقين إلى أي حد تبدو هذه التطمينات، مقنعة لأطراف كثيرة عربية ودولية لا تزال تنظر بقدر كبير من التوجس والقلق من بدء تدفق السلاح إلى داخل سورية. فالجامعة العربية نأت بنفسها عن مسألة تسليح المعارضة السورية ونفت على لسان أمينها العام نبيل العربي وجود أي قرار عربي بهذا الشان معتبرا أن محاولة لإزكاء العنف لن يخدم سورية. وحتى الولايات المتحدة وفرنسا اللتان تدعمان بشدة مطالب المعارضة بتغيير النظام لا تخفيان قلقهما من وصول السلاح إلى جهات متطرفة مثل تنظيم القاعدة وغيرها حيث عكست تصريحات المسؤولين في البلدين ترددا واضحا في هذا الصدد .

ولا تقتصر التحفظات على مسألة لجوء المعارضة للتسلح، على الأطراف العربية والدولية بل إن هناك قطاعا داخل المعارضة السورية نفسها ينظر إلى هذه المسألة باعتبارها هزيمة كبرى للثورة السورية وسلميتها وإنتصارا لخيارات النظام الذي سعى منذ البداية لجر البلاد إلى سيناريو الإقتتال الداخلي. أنصار هذا الإتجاه يرون إن عسكرة الثورة السورية سيقود البلاد إلى الهاوية، ورغم أنهم قد يكونون محقين في هواجسهم تلك لكنهم في المقابل لا يقدمون إجابات مقنعة عن كيفية وقف حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري بينما العالم كله واقف مكتوف الإيدي غير قادر على فعل شىء في مواجهة هذه المذبحة المتواصلة.

غير أنه ومع توفر كل المبررات الأخلاقية والإنسانية لقرار تسليح المعارضة كأحد السبل لوقف أعمال القتل في سورية بكل ما يحيط به من مخاوف وبالنظر إلى تعقيدات المشهد السوري فان السلاح وحده في غيبة مشروع سياسي واضح ورؤية موحدة، سيصبح نوعا من الإنتحار الجماعي للوطن السوري بأكمله. ومن هنا فإن على المعارضة السورية أن تتسلح قبل ذلك بقدر معتبر من المسؤولية التي تقوم على إدراك أن ذلك السلاح وإن كان ضرورة في هذه اللحظة لمواجهة قمع النظام، فإنه ليس بديلا عن توحيد صفوفها ومواقفها ورؤاها لسورية الغد، وأن تدرك أنها أمام أختبار بالغ الدقة والصعوبة في مواجهة شعبها ومكوناته المختلفة بكل ما تحمله من هواجس وقلق بشأن مستقبل الوطن، وفي مواجهة المجتمع الدولي والعربي الذي لايزال في غالبيته، ينظر إلى هذه المعارضة بعين الشك في قدرتها أن تطرح نفسها بديلا مقنعا للنظام في حال سقوطه. إن هذا الأمر هو أحد الاسباب المهمة التي تفسر حالة التردد والإرتباك التي تبدو عليها أطراف عربية ودولية كثيرة في تعاطيها مع المحنة السورية وتأخرها في الإعتراف بالمعارضة كبديل عن النظام حتى الآن.

ومن هنا فإن على كل مكونات المعارضة السورية أن تدرك أنها لم تعد تملك ترف الإنقسام والتلاسن الإعلامي فيما بينها وأن تتوقف عن تخوين بعضها بعضا على شاشات الفضائيات بينما الشعب السوري يذبح من الوريد إلى الوريد. فلم يعد هناك مزيد من الوقت يمكن إضاعته لأن كل يوم يضيع يدفع فيه الشعب السوري والوطن برمته ثمنا فادحا ربما لايمكن تعويضه حتى بعد أزاحة النظام وهو في كل الأحوال سيسقط في النهاية. إن توحيد صفوف المعارضة تحت راية واحدة وعنوان واحد ومخاطبة العالم بخطاب واحد هو السبيل الوحيد لإنتصار الثورة السورية، وهو أمر لم يعد قابلا للتأجيل حتى لا يصل الشعب السوري لقناعة بأنه ليس فقط مبتلى بحكامه بل وبمعارضيه ايضا.

‘ كاتب مصري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى