صفحات الرأي

أَخَوَات “الإخوان”

 

    محمد أبي سمرا

بعد الاحتجاجات الكبرى على “الاعلان الدستوري” الديكتاتوري الذي أصدره الرئيس محمد مرسي، والاستفتاء المشوه على الدستور “الإخواني”، تأتي الذكرى السنوية الثانية للثورة المصرية وسط احتقان سياسي ووضع اقتصادي خانق، في ظل التحضير لانتخابات تشريعية جديدة. في هذا المناخ يبرز وضع المرأة والمواطنة والحريات العامة في الدستور، كعناوين أساسية للمعركة السياسية والانتخابية الدائرة في مصر اليوم.

عاشت مصر في الشهر الأخير من السنة المنصرمة بوادر ثورة جديدة مناهضة للسلوك غير السياسي لجماعة “الإخوان المسلمين” وحزبها، وللإعلان غير الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري الجديد محمد مرسي المنتخب والمنتمي الى الجماعة والحزب إياهما. في خضم الاحتجاجات الواسعة التي أطلقها الإعلان الرئاسي “الإخواني”، جامعاً مقاليد سلطات الدولة المصرية كلها في يد الرئيس على مثال ديكتاتوري، سارع الرئيس وجماعته وحزبه الى تفعيل عمل الهيئة التأسيسية لصوغ الدستور المصري الجديد، بعدما كان انسحب من الهيئة معظم ممثلي أطياف الشعب المصري غير الموالية لقوى الاسلام السياسي. وهذا ما أدى الى اتساع الاحتجاجات وتسارع وتائرها جامعة تلك الاطياف التي انبثقت عنها وتألفت هيئة سياسية قيادية هي “جبهة الانقاذ”، تصدرت المشهد السياسي المعارض لاستيلاء الرئيس مرسي ومن خلفه جماعته وحزبها، استيلاء عشائرياً على نتائج الثورة المصرية وعلى سلطات الدولة وصوغ دستورها الجديد لـ”أسلمة” الدولة والمجتمع المصريين و”أخونتهما”. لكن الهيئة السياسية المعارضة المتمثلة في “جبهة الانقاذ” لم تستنفد المشهد الاحتجاجي الكبير الذي استمر قرابة شهر، واستقطب مروحة واسعة من فئات الشعب المصري وأطيافه المناهضة للسلوك والإجراءات الرئاسية الإخوانية العشائرية. فإلى جانب هذه الفئات والأطياف و”جبهة الإنقاذ”، برزت قوتان أساسيتان في مناهضة الإعلان الرئاسي غير الدستوري ونتائجه: معظم هيئات الجسمين القضائي والإعلامي المصريين. وهذا ما أظهر حركة الإحتجاج في هيئة ثورة جديدة، مدنية ودستورية الطابع والأهداف، وحمل قوى الإسلام السياسي وجماعاته على التوسل بالعنف ضد المحتجين والمتظاهرين والمعتصمين السلميين في الشوارع، تماماً على منوال ما فعل النظام المصري السابق عندما أطلق رجال أجهزته الأمنية ورهطه المستأجر من البلطجية والغوغاء لقمع المحتجين في “جمعة الغضب” الشهيرة (28 كانون الثاني 2011) التي وضعت بداية النهاية لنظام الرئيس حسني مبارك.

القمع “الإخواني” الدامي للمعتصمين حول “قصر الاتحادية” الرئاسي، أضاف عنصراً جديداً الى القمع السابق: بعد هجومهم العنيف على المعتصمين، شنّ بلطجية “الإخوان” حملة اعتقالات في صفوف المتظاهرين، فاحتجزوهم وحققوا معهم وعذّبوهم في مسجد قرب “قصر الاتحادية”، متولين في هذا عمل “شرطة قضائية” إسلامية (الحسبة)، قبل تسليمهم ضحاياهم الى القضاء المصري الرسمي كي يقتصَّ منهم ايضاً. لكن النيابة العامة القضائية برّأت الضحايا المعتدى عليهم، مما حمل الرئيس مرسي على الاقتصاص من القاضي بنقله الى أقاصي الصعيد. في خضم هذه الحوادث المتدافقة بدا الرئيس الجديد للدولة المصرية، رئيساً لرهط عشائري. وهو استكمل سلوكه هذا بمسارعته الى قطع الطريق على الحركة الاحتجاجية المدنية المتنامية بتسلمه مسوّدة الدستور الجديد واعتباره إنجازها المشوه فتحاً “ديموقراطياً” مبيناً. ثم إنه بادر الى دعوة الشعب المصري للاستفتاء على الدستور. وإذ امتنعت معظم الهيئات القضائية عن الاشراف على الاستفتاء وتنظيمه، جرى تشويه الاستفتاء وتزويره، وصولاً الى إقرار الدستور الفئوي “الإخواني”، تمهيداً لإجراء انتخابات تشريعية جديدة بعد أشهر قليلة. وهذا ما حمل الحركة الاحتجاجية المدنية و”جبهة الانقاذ” على الانعطاف بنشاطها منعطفاً جديداً، تحضيراً للانتخابات التشريعية المزمعة.

في هذا السياق توقفت الاحتجاجات المدنية في الشارع، وانصرفت قواها وهيئاتها، وكذلك التجمعات الشبابية الثورية وأحزابها الناشئة والجمعيات الحقوقية، الى القيام بحملة واسعة من النشاطات والندوات لإيضاح اعتراضها على الدستور ورفضه، وبيان تشويهه إرادة الشعب المصري.

المواطنة غير السياسية

تتصدر هذه الحملة مسائل الحريات العامة وحقوق الانسان والمواطنة والمرأة، التي نصّت بنود من الدستور الجديد على تقييدها وتشويهها، وربطها بمعايير واعتبارات وأحكام فئوية غايتها تسليط الجماعات الاسلاموية وقيمها على الدولة والمجتمع المصريين. فالمواطنة التي يكرسها الدستور الجديد تقيّد المواطن الحر، بوصفه شخصاً فرداً ينتمي الى الأمة والشعب الدستوريين انتماءً إرادياً سياسياً، بأن جعلته عضواً في أمةٍ لها هوية أهلية جوهرية ثابتة ركيزتها “التراحم والتكافل والأعراض” ذات الجذر المفترض إسلامياً. الجذر هذا يستبطن روابط وهويات قوامها الأعراق والأصلاب والانساب والدين، مما ينفي عن المواطن الصفة التعاقدية الدستورية الحرة، ويلزمه الانتماء الى الوطن والمجتمع، وممارسة حقوقه السياسية، عبر ضرورة انتسابه الى تلك الأصلاب والهويات المفترضة تاريخية، لكن العرقية والقومية والدينية في حقيقتها.

في عملية تلاعب بمشاعر المصريين الدينية وبتعلقهم بالرابطة الأسرية، والعائلية، نصَّ الدستور الجديد على اعتبار “الأسرة أساس المجتمع”، وليس رابطة المواطنة والمواطن الفرد الحر وإرادته السياسية. وشدّد ايضاً على “قوّاميّة الدين والأخلاق الوطنية” الغامضة والإنشائية، على الأسرة التي يُعتبر التشديد على رابطتها بدعة في نص دستوري، إلا في عقول الاسلاميين الإخوانيين الذين تفردوا في صوغ بنود الدستور. فهذا الأخير، خلف عبارات إنشائية مثل “حرص الدولة والمجتمع على الطابع الأصيل للأسرة، وعلى تماسكها واستقرارها”، يكرّس السلطة الأبوية والذكورية، وقيماً وتقاليد رجعية متخلفة تجاوزها المجتمع المصري: قوّاميّة الرجال على النساء، تقاليد ختان البنات، التزويج المبكر، التحجب والتنقب، تقييد الاختلاط بين الذكور والإناث، هيمنة أئمة المساجد وخطبائها على القيم العامة، وصولاً الى أسلمة المناهج والكتب المدرسية. هذا كله تحت ستار عبارة: “مساواة المرأة مع الرجل… من دون الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية… والوحدة الثقافية والحضارية واللغوية”.

المرأة في مهبّ الشريعة

في تقرير لمنظمة العفو الدولية، اعتبرت حسيبة حاج صحراوي (نائبة مدير برامج المنظمة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) أن الدستور المصري الجديد “لا يرقى الى مستوى يمكنه من حماية حقوق الانسان، ويتجاهل حقوق المرأة، ويفرض قيوداً على حرية التعبير” تحت ستار “حماية الدين”. وفي ندوة أحياها “المجلس القومي للمرأة” في مصر، تحدثت نائبة رئيس المحكمة الدستورية تهاني الجبالي عن تضافر مواد الدستور وتكاملها في أثرها السلبي على حرية المرأة وحقوقها. أما الناشطة الحقوقية منال الطيبي فاعتبرت أن الدستور يعمل على “تفتيت المجتمع” لأنه يخلو مما ينص على “المواطنة الدستورية”. وانتقدت المحامية منى ذو الفقار “مرجعية الأزهر في ما يتعلق بالشريعة الاسلامية” في المادة التي تجعل الأزهر “في مقام السلطة السياسية”.

فتحية العسال (أمينة اتحاد النساء التقدمي، والقيادية اليسارية، والكاتبة الصحافية) وصفت الدستور بـ”الأعور” و”المتخلف”. وهي قدّمت دعوى قضائية ضد الرئيس مرسي، لأن “الجمعية التأسيسية” لم تمثل أطياف الشعب، وخصوصاً المرأة. فمن أصل مئة عضو في الجمعية هناك 5 نساء إسلاميات وامرأتان من التيار المدني استقالت إحداهن اعتراضاً على تهميش المرأة. واعتبرت العسال أن حل الجمعية التأسيسية بحكم قضائي يبطل مرجعيتها الدستورية، لا جدوى منه، لأن رئيس الجمهورية هو المكلف إعادة تشكيلها. وهذا ما يؤدي الى تشكيل الرئيس مرسي جمعية جديدة من “الليبيراليين المتأخونين”، الأمر الذي يجعل مصر اليوم في وضع “معقد”، لأنها “في طريقها الى حكم ديني”، بعدما استغل الاسلام السياسي الدين و”الأمية السياسية” للوصول الى السلطة. ميرفت التلاوي (رئيسة المجلس القومي للمرأة) اعتبرت تقييد حرية المرأة بأحكام الشريعة الاسلامية فاتحة لفوضى فقهية لأصحاب المذاهب المختلفة والمتنازعة، بعدما كانت الأحكام المدنية في مصر قد اعتقت النساء من تلك الأحكام، أقلّه في النصوص الدستورية.

دستور المرأة الإخوانية

في المقابل هناك نماذج النساء الإخوانيات اللواتي تتصدرهن الدكتورة عزت الجرف الشهيرة بـ”أم أيمن” والملقبة في الأوساط الليبيرالية بـ”قاهرة المرأة المصرية”. وهي عضو في مجلس الشعب السابق و”مسؤولة المرأة في المكتب الإداري للجماعة الاسلامية”، وتلميذة الداعية زينب الغزالي. من أقوالها: “الدستور الجديد أعظم دستور في العالم، لأن الذين وضعوه كان لديهم إلمام بجميع الدساتير”. وهو أعاد إلى الأزهر مكانته في “قيادة العالم الاسلامي، كما في الماضي. وذلك لنشر الدعوة الاسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم”. “لأم أيمن” باع طويل في نشر الدعوة اعلامياً ومن على شاشات الفضائيات التلفزيونية. من أقوالها في هذه الاطلالات: وجوب الغاء قانون الخلع. منع اثبات “ابناء الزنى” كي لا يتجذر الزنى في المجتمع. اصدار قانون يسمح بـ”اغتصاب الزوج لزوجته”، لأن هذا “من حقه” الشرعي. منع المرأة من السفر، لأنه يسمح “باختلائها برجال غير زوجها”. إلغاء قانون منح الجنسية لأبناء المصريات المتزوجات من أجانب. إلغاء القانون الذي يجرّم أفعال التحرش الجنسي، لأن “عري النساء هو سبب التحرش”. تشريع العنف الأسري، “لأن ضرب الأطفال يحضّهم على الصلاة والصوم”.

بناء على هذه “الفتاوى” الاخوانية لـ”أم ايمن” التي اعتبرت “اننا اصحاب مشروع سماوي”، أطنبت الدكتورة مكارم الديري (مدرّسة في جامعة الازهر، وقيادية في “حزب الحرية والعدالة” الإخواني) في مديح الدستور الجديد الذي “تقبع المرأة في كل بنوده”، ويحمل النساء على “المحافظة على أسرهن وغرس القيم الفاضلة في نفوس ابنائهن”. وهذه أمنية المرأة في حزب “الحرية والعدالة” سهام الجمل، تعتبر ان شعار “الاسلام هو الحل” شعار “غير ديني”، لأنه يؤكد القيم العليا لـ”الأمة”، ويؤدي الى “حل مشاكلنا وتنظيم أمورنا وفق مبادئ الشريعة” التي يستطيع اي “انسان” مسلم ان “يعرض فهمه لها” وفقاً لـ”الآيات القرآنية”.

صراع مفتوح

وسط هذين الاتجاهين العامين في ما يتعلق بمبادئ الدستور الجديد وحال المرأة فيه، تأتي الذكرى السنوية الثانية للثورة المصرية. الاتجاه المدني الليبيرالي واليساري، يطلق سلسلة من الندوات والمناظرات والنشاطات في مواجهة التضليل الدعوي الاسلاموي الذي يتستر بالدين والشريعة لتقييد الحريات العامة وتشويه المواطنة وتغييب حقوق النساء. ثم ان الانتخابات التشريعية المرتقبة، تشكل بدورها حافزاً اساسياً لتفعيل النشاط السياسي للتيار المدني في المحافظات والأرياف المصرية، حيث تعتمد تيارات الاسلام السياسي على “الأمية السياسية والتعليمية” وعلى الإعالة للسيطرة على الرأي العام الاهلي وجذب الناخبين.

المعركة الدستورية والسياسية والانتخابية مفتوحة اذاً في مصر. وهي مرشحة لأن تكون طويلة وكثيرة الأوجه والفصول في وضع اقتصادي مأزوم وخانق، ووسط احتقان اجتماعي وسياسي قابل لانفجارات موضعية متمادية.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى