صفحات العالم

أُحاذرها فيأسرني جَواها: هل لمحنة سوريا من مخرج؟


د. محمد بريك

ما أصعب الحديث عن محنة سورية على نفسي، وهو أمر طالما كنت أتجنبه حتى في خلواتي لسببين: الأول هو تعلقي الوجداني الشديد بالشام والذي يتجاوز ما هو معتاد من حديث المصري عن ألفته مع أهل الشام ومزاجهم القريب منه وبقايا حديث الأجيال الأسنّ عن وحدة قديمة مهدرة ومداعبات الجمال الشامي في خيالات المراهقة .. إلى حالة تمازج تام في ضميري الوطني والرسالي بين مصر والشام كجناحي المسيرة التاريخية العريضة لهذه الأمة التي اجتازت بهما شباك الرومان وأوتاد الصليبيين وطاعون التتار، وذقنا معا حلم الأمة الناهضة ومرارة الانكسار وطعم الصمود وآمال التحرير المتعثرة من براثن الصهاينة. ومن تمتزج داخله كل هذه الأطياف لايكاد يحتمل متابعة هذا الكابوس الذي يتعرض له شعبنا الحرّ في سورية من مذابح وهتك للأعراض بشكل يومي دون أن يمتلك في يده أداة للدفع عنهم بشيء ذي بال.. فضلا أن يتحدث عنه.

والسبب الثاني أن وضع الثورة السورية أعقد من حالة شعب حر يثور ضد نظام الفساد والبطش فتمكنك معادلات السياسة والمنطق البسيطة من فك شيفرته وتركك المجال الواسع لدفقات العاطفة أن تتحرك إلى نهايات واحدة. ومرد هذا التعقيد إلى جملة الأطراف الموجودة وتدخلها في المشهد وعلاقاتها ببعضها البعض وتركيبتها، وإلى حساسية الوضع الجيواستراتيجي لسورية قبل الثورة وأثناءها وفي مستقبلها على محددات الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى فرص انفكاك هذه الأمة من المستعمر الخارجي واحتكاكها مع القوى الطَّرفية التي لها مشاريع قومية متصارعة على الفضاء الإقليمي وموارده وسياساته. وفي ظل هذا التعقيد قد يختار المرء ألا يُشوّش على جلال الدماء والتضحيات التي يبذلها شعبنا في سورية إلا بإشارات مقتضبة خصوصا وأنه عاجز عن تقديم الكثير بالفعل. ومن هذه الإشارات ما كتبته منذ شهور وأراه لايزال صالحا للعرض:

أولا النظام السوري هو نظام دموي وفاقد للشرعية .. نظام يعتمد مزيجا من الشمول والعسكرة والصبغة الطائفية التي تشتبك مع الاستئثار العشائري والسلطوي أكثر من البعد الإيديولوجي.

ثانيا النظام السوري لم يكن يتحرك في البعد (الممانع) خطابا أو دعما لحركات المقاومة بشكل غائي ولكن كوسيلة استراتيجية للصمود الإقليمي كنظام وتمتين حيز من الشرعية الداخلية خصوصا أن هذه الوسيلة مناسبة للسياق التاريخي والمجتمعي والسياسي لسورية وحسها القومي. وهذا دفع لظهور حالة من (الاطمئنان الاستراتيجي) في إسرائيل تجاه السوري على المستوى الأعلى للصراع في ظل وجود الشد والجذب والتحرشات دونه، وهو يفسر حالة القلق الإسرائيلي أول الانتفاضة الشعبية في سورية وتوجسها الشديد من ذهاب هذا النظام والإتيان بنظام آخر قد تكون عنده من الإرادة السياسية والقابلية الاستراتيجية ما يهدد الاطمئنان الاستراتيجي ذلك والمستقر منذ ثلاثة عقود.

ثالثا هذه الفرضية تغيرت عند الإسرائيلي بعد فترة من ظهور الانتفاضة الشعبية لصالح فرضية جديدة لسببين: الأول هو العلاقات الإيجابية بين القوى المعارضة والإسلامية بالأخص المكوّنة للمجلس الوطني وبين الطرف الأمريكي والغربي والتي تزداد وثوقا مع الوقت مما يساعد في إعادة تأهيل هذه القوى لتقبل الترتيب الاستراتيجي في المنطقة والامتناع عن دعم الطرف المقاوم، ومن الممكن حتى القيام بدور داعم حالة وجودهم كنظام سياسي في تصفية قضية الصراع العربي الإسرائيلي عبر تتميم عملية التسوية بشروط تنازلية، أو إبقاء معادلة (غزة الضفة) قائمة مع حرمان حماس من داعمها الإقليمي المباشر واستبداله بأطراف لها تقييدات مختلفة. والسبب الثاني أن وجود الأمريكي والغربي وحلفائهما من الخليجيين والتركي كعنصر مرتب وداعم وممكن حاسم لمسألة تغيير النظام يؤكد دورهم السيادي في مرحلة إنشاء النظام الجديد وتحكمهم في مفاصله السياسية والاقتصادية والاستراتيجية (ليبيا نموذجا).

رابعا هذه الفرضية الجديدة كانت حاضرة بشكل أو آخر في ذهن حركات المقاومة وإيران كذلك. بالنسبة لحماس فقد آثَرَت أن تأخذ خطابا سياسيا فيه قدر من التوازن والتوسط في ظل الحيثيات السابقة فتؤكد انحيازها للخيار الشعبي إجمالا ولكن دون معارضة ونقدٍ حاسمين للنظام وتصرفاته؛ بل أحيانا إطراء هاديء وهذا كان سلبيا، ثم تحوّل خيار حماس إلى ماهو عليه الآن من انحياز أكثر وضوحا للثورة الشعبية. لقد بحثت حماس عن بدائل لما يقدمه السوري كملجأ سياسي وداعم سياسي ولوجستي. وقد تخيّلت حماس أن النظام المصري (العسكري) الناشيء والذي يحاول أن يستوعب الإسلاميين في إطاره ويُرضي نوعا من المشاعر القومية والإسلامية لشرائحه الشعبية دون تغيير الترتيب الاستراتيجي الإقليمي بالطبع ممكن أن يكون مناسبا خصوصا إذا استقرت نوع من المعادلة مع الإسرائيلي إما عبر خيار الانضواء في منظمة التحرير وعبر صيغة المقاومة الشعبية لا المسلحة، أو عبر صيغة أخرى سقفها بقاء غزة والانقسام على حاله مع تثبيت التهدئة. وفي رأيي أن خيار حماس هذا لو تمّ يكون خاطئا تماما، ولكن يقل نقدنا له إذا قيّمناه من خلال النظرة الشاملة للإحداثيات السابقة. والبديل الحقيقي لحماس لتجاوز هذه الكماشة الاستراتيجية والتي تفاقمت منذ سيطرتها على غزة هو تغيير كامل في المسار السياسي وخياراته الأساسية والذي بدأ منذ دخولها الانتخابات وانخراطها بالسلطة.

خامسا بالنسبة لحزب الله فالوضع أكثر تعقيدًا لأن مايقدمه النظام السوري للحزب أهم مما يقدمه لحماس مائة مرة: قنطرة استراتيجية بينه وبين إيران، ودعم لوجستي وسياسي وعسكري كبير. البعد الطائفي في علاقة الحزب بالنظام السوري ليس واسعا على الحقيقة على الأقل في مستوى القيادة السياسية والاستراتيجية للحزب، ولكن ممكن استخدامه كتعبئة داخل الحزب نفسه (لاننسى رغبة السوري في تصفية الحزب بعيد حرب المخيمات). وكان من الممكن أن نتفهّم تأييد الحزب لنظام بشار بشكل يفوق ما أبدته حماس حتى؛ ولكن تورطه المباشر في الانتهاكات على الأرض وتبرير المذابح الشعبية والتعمية عليها هو خرق قيمي واستراتيجي فادح، ولعل الحزب قد بدأ يشعر به وبآثاره. استراتيجيا فقد حزب الله أغلب التأييد على مستوى الشعوب العربية بل بدأ يتحول للنقيض، وهذا الدعم هو هدف استراتيجي هام للحزب سواء على مستوى مشروعه المقاوم أو حتى رؤيته الإمامية طويلة المدى. كذلك مهم للحزب أن يدرك أن النظام السوري ساقط لامحالة عاجلا أم آجلا بفعل التداعي الزمني والجهود المشاكسة له واحتمال حصول تسوية إيرانية أمريكية حوالي الضربة المتوقعة لبيع بشار.. وفي ظل هذا تصبح علاقته بأي نظام جديد في سورية كابوسا حقيقيا.

سادسا بالنسبة لإيران .. ما يشغلها الآن هو موضوع الضربة وما قد يتبعها من متوالية عسكرية لتأثير هذا على أهم محركين لمتخذ القرار الاستراتيجي في إيران: بقاء النظام الإيراني نفسه، وتطوير مساحة الهيمنة الإقليمية أو الحفاظ عليها (البعد الأيديولوجي سواء بمعناه المقاوِم أو الطائفي متأخر عنهما). هي الآن تقدم دعما حقيقيا للسوري، ومن الممكن أن تنحرط في حوارات بشأنه مع الغرب أو تستكشف آفاق ما بعد النظام مع المعارضة السورية، ولكنها لن تترك مشروعها النووي وبهذا قد لاتمتنع الضربة الإسرائيلية. ولاأراها لا تتخلى عن النظام السوري إلا في حالتين: أن يكون هذا مفروضا ضمن معادلة تسوية مع الأمريكي حواليْ الضربة، أو ضمن معادلة مع (جهة ما) وتقدم هذه الجهة لها (اطمئنانا) تجاه النظام الجديد في سوريا وخياراته ودعما لها ضد الضربة ومتوالياتها.

سابعا- التدخل العسكري الغربي والذي تدعو له أغلب فصائل المجلس الوطني وأهمها الإخوان المسلمون ويشرعنه بعض العلماء لابد من الإلحاح على تحريمه سياسيا وشرعيا. ففضلا أن فكرة التدخل نفسها ليست في أجندة التخطيط العسكري للناتو إلا أن تكون ضمن حملة دولية ذات أهداف محدودة مرتبطة بتوفير معازل آمنة على الأطراف مع قلة احتمال هذا كذلك؛ فإن خطورة وضع سوريا الاستراتيجي وكونها مركز ثقل أساسي في أي مشروع نهضوي وتحرري في المنطقة وفسيفسائها المجتمعية تجعل تكرار السيناريو الليبي أو العراقي بها كارثيا. وأشد العجب ممن أعلن عرائض التحريم في حرب تحرير الكويت مع كونها حربا تحت غطاء الأمم المتحدة أو حرب العراق 2003 ونراه اليوم يجيز التدخل العسكري في سورية مع الفرق الواسع بين قيمة سورية وقيمة الكويت بميزان الأمة، وتشابه جرائم النظامين في حق شعبيهما وجيرانهما.

ثامنا سقوط النظام السوري لا يتم بشكل مقبول إلا بانقلاب عسكري من طرف وطني، أو بدرجة أقل عن طريق (الإنهاك الاستراتيجي) أي التداعي الذاتي للنظام بعد فترة من فقدان مساحات السيطرة (السياسية والسيادية والعسكرية) وتحول كتل شعبية خصوصا من دمشق وحلب لخط الثورة وتعثّر الدعم الخارجي السياسي والاقتصادي والعسكري.

كيف يكون الحل؟

نظريًّا يكون الحل عبر صياغة استراتيجية عربية مقاوِمة لإدارة شأن الانتفاضة الشعبية السورية وآثارها دون تدخل غربي حاسم ، والتحرك في الخيارين التي تنحسم الثورة بهما وتلمّس إمكاناتهما العملية وهي عديدة ، والعمل على تأهيل الفصائل المعارضة والإسلامية لتبرأ من سقم خفوت الحس القومي والمقاوم وإعادة تعيير علاقتها مع الوسط الغربي.

ولكن مثل هذا لا يحدث بدون وجود مشروع سياسي شامل في المنطقة يملأ الفراغ الاستراتيجي الذي تملأه أطراف غربية وطرفيّة: مشروع تغييري ومشروع تحرري ووحدوي قد لاتوجد أدواته الحالية بدون تغيير حقيقي يحدث في مصر وإنشاء نظام ليس عليه وصاية عسكرية (المسؤول الأساسي عن تعويق ذلك في رأيي هو المجلس العسكري والإخوان المسلمون بمصر). ولكن ممكن البدء في الدعاية له عن طريق النخب العربية والحركات الوطنية والمقاوِمة وتطوير تطوير بعض مفاعيله خصوصا فيما يتعلق بالأزمة السورية والضربة الإيرانية لاتباطهما الوثيق. لابد أن يدرك الجميع أن كل الخيوط الإقليمية وأزماتها وسبل حلها متشابكة.

في هذا الشق يكون من المهم فقدان النظام السوري حلفائه الإقليميين (حزب الله وإيران) بتقديم طوق نجاة لهما بخصوص تداعيات سقوط النظام والضربة الإيرانية، وبالطبع قصقصة وشائج النظام مع حلفائه الدوليين عبر حزم ترهيبية وترغيبية.. ولكن كلا المسارين يحتاجان لتمايز عن المحور الغربي بالأساس حتى ينجحا.

خاتمة

أحيانا.. قد لاتكون هناك حلول بالنظر التجريبي لأزمات ترتبط بمفاصل المسار التاريخي الإنساني، ويلزم حصول إنضاج للبيئات البشرية والموضوعية عبر مخاض عسير ومؤلم حتى تظهر مفرادت جديدة.

لو نحسبها الآن فلا يوجد بين أيدينا مشروع عربي مقاوِم يتصدى للفراغ الإقليمي ويحاول تبني الأزمة السورية وحلّها بشكل مُرضٍ. وحتى بمعايير حسم الثورة نفسها فهناك أوجه تعثر أساسية حتى في طرح التدخل الأجنبي أبسطها أن الغربي يدرك كم المعوقات السياسية والعملياتية واستراتيجية الخروج لتدشين عملية تدخل كبرى وهذا مايزهّده فيه.

هل استمرار الثورة بحالتها الحالية يفيد في حصول إنهاك ما للنظام أو يدفع لانشقاق عسكري واضح أو دخول الكتل الشعبية في الشام وحلب؟ ممكن وإن يبدو احتمالا ضعيفا. هل يصيب الإنهاك الطرفين ويتم الوصول لصيغة وسطى؟ هذا أكثر ترجيحا.

مع كل الدماء والتضحيات العظيمة لشباب سوري حرّ اعتقد المنظرون والاجتماعيون انغماسه في شأنه الخاص والهروبي منذ عقود، ومع فوج التغيرات الحقيقية التي خلخلت بنى النظم القديمة على المستوى المحلي والإقليمي، ومع معاني الحرية والنضال والتضحية التي حُرمت منها شعوبنا لعقود غير تلك التي واجهت المحتلّ الأجنبي .. فإننا نجزم أن أفق مشرقا هو حادث لامحالة بإذن الله – في أمتنا تتحرر فيه وتخط ميزانها الجديد .. حتى لو غيمت صورته اللحظة أفواج الدم الذاكي ومرارات فقدان الأحبة وروائح الصفقات الفاسدة. وإنما اليأس كفر.

‘ باحث مصري في الدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى