صفحات الناسنائل حريري

إبادة الطبقة الوسطى/ نائل حريري

 

نائل حريري

ليس سراً أن الأسد الأب أسس نظامه الاقتصادي على مبدأ قديم جديد: الحفاظ على الطبقة الوسطى وعلى إبقائها حبيسة كنفه، وحين خطا الأسد الابن خطوته الأولى على مسار الحكم أكد أكثر من مرة على هذا المبدأ بعينه. لطالما كانت الطبقة الوسطى هي الضامن الحقيقي لسيطرة سياسية إقتصادية إجتماعية واسعة النطاق من خلال بنية متعددة الطبقات تضمن للدولة ممارسة دورها كعراب اقتصادي ومالي.

بمعنى آخر، بنيت صورة الدولة في نظام الأسد على أغلبيةٍ من الشعب تقف فوق خط الفقر بقليل. هذه الفئة التي تسميها أدبيات “البعث” باسم “الطبقة الكادحة” وتشملها القوانين تحت بند “أصحاب الدخل المحدود” هي الفئة الضامنة لاستقرار الحكم بأفضل ما يمكن، فهي ليست رازحة تحت خط الفقر بما يستدعي نشوء ثورةٍ مطلبية، ولا هي من الرخاء المادي الذي يسمح باستغلال الوقت والمال في النشاط السياسي والثقافي والاجتماعي. غالباً يعيش أفراد هذه الطبقة مادياً ضمن مستوى مقبول له كلفته الواقعية: بعضهم يجمع بين عملين أو أكثر.

 أما الضامن لانصياع هذه الطبقة للسلطة الحاكمة فكان يتلخص في تسلم الدولة زمام الأمور، فمن ناحيةٍ أولى تشكل وظائف الدولة ضمانةً كبرى لملايين الموظفين الذين تتحول الدولة إلى “ولي نعمتهم” مع تذكير بسيط بهذه الحقيقة يتلخص بمكتب صغير لفرقة “حزب البعث” داخل كل مؤسسة حكومية لا تتعدى وظيفته وظيفة المكتب الأمني. أما من لم تتسع لهم الشريحة الأساسية لموظفي الدولة (وقد قدرت الحكومة السورية عددهم في العام 2011 بأربعة ملايين موظف) فقد أنشئت لهم طبقة ثانية مرتبطة بحزب البعث أيضاً ومكاتبه وفروعه المختلفة. امتدت هذه الطبقة لتشمل منظمات شعبية استولى الحزب على قيادتها كمنظمة طلائع البعث المسؤولة عن التعليم الابتدائي، ومنظمة شبيبة الثورة المسؤولة عن التعليم الأساسي والثانوي، والاتحاد الوطني لطلبة سوريا المسؤول عن التعليم الجامعي. هذه الشريحة من المسؤولين الذين تولى الحزب مهام ترشيحهم وتنصيبهم في أماكنهم أصبحت هي الأخرى جزءاً من منظومة الدولة السياسية، وامتد الأمر ليشمل النقابات المهنية المختلفة التي تنتخب قياداتها بالإجماع على أساس “قائمة الجبهة الوطنية التقدمية” التي يرشحها الحزب. كما أنّ تعيين رأس الهرم يأتي بقرار من القيادة القطرية لحزب “البعث” ولو لم يكن حزبياً. شيئاً فشيئاً توسعت الطبقة الوسطى لموظفي الدولة الرسميين بإضافة شريحةٍ واسعة من الموظفين غير الرسميين كذلك.

 من هنا لم يكن غريباً أن يكون الرد الأول للأسد الابن على احتجاجات درعا هو مرسوم رئاسي في أواخر آذار/ مارس 2011 يقضي بإضافة مبلغ 1500 ليرة سورية إلى الراتب الشهري لموظفي الدولة. القرار الحجة أتى لتذكير هذه الملايين من الطبقة الوسطى بولي نعمتهم الذي يجب الانصياع له تحت طائلة الموت جوعاً، وهو الأمر الذي تم تأكيده في منتصف العام 2012 حينما أقر مجلس الشعب  مرسوماً يسمح بفصل أي مواطن من عمله في حال ثبتت مساندته للأعمال الإرهابية “مادياً أو معنوياً”، مع حرمانه من أي راتب تقاعدي أو تعويض لنهاية خدمته.

 وما دام اعتماد النظام السوري على هذه البنية الهيكلية متعددة الطبقات أساسياً، لنا أن نفهم أولوية مجلس النقد والتسليف التي أعلنها حاكم المصرف المركزي أديب ميالة في موسكو: “الأولوية هي لدفع رواتب الموظفين”. تبرّر هذه الغاية كل الوسائل الممكنة ابتداءً من طباعة عملةٍ ورقية معدومة القيمة إلى استخراج العملة القديمة قيد الإتلاف من مستودعات المصارف وانتهاءً بودائع وقروضٍ متعددة من الدول الداعمة. يقدّر النظام السوري سيطرته على مقاليد الحكم في البلاد باستمرار سيطرته على هذه الشريحة الاجتماعية، الأمر الذي لم يعد ممكناً في ظروف التضخم الاقتصادي المرعب وتدهور العملة السورية المرافق له.

هكذا إذن يقف النظام اليوم أمام الإختيار الصعب بين الحفاظ على الطبقة الوسطى وتمويل العمليات العسكرية. الخيار الأول يستدعي بالضرورة رفع الرواتب من جديد بما يتماشى جزئياً أو كلياً مع معدلات التضخم الأخيرة، لكنّ المؤشرات الأخيرة تدلّ بوضوح على أنّ هذا الأمر أصبح بعيد الاحتمال جداً، بعد توقف قروض الدولة وإعلان أول مصارفها إفلاسه. من هنا يبدو أن انتصار الخيار الثاني يهدّد بهدم سياسة التدجين الكبرى التي تعاقب عليها ممثلو الأسرة الحاكمة. ويبدو أيضاً أنّ التصعيد الأكبر والأشد حسماً طوال الأشهر الأخيرة يرتبط بهذه الآلية بشكلٍ أوثق من مسألة توسع العمليات العسكرية وحسب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى