صفحات سورية

إخوان سوريا.. أربع إستراتيجيات لإعادة التموضع/ عمر عبد العزيز مشوح

 

 

عمق الخبرة وقوة الفكرة

معارك الاعتدال والتطرف

أداء سياسي مثقل بالعراقيل

العمل العسكري والحق الممنوع

إستراتيجيات إعادة التموضع

بعد أكثر من ثلاثين عاما من الإكراه على حياة المهجر، عادت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا إلى واجهة الأحداث مع انطلاق ثورة الحرية والكرامة في مارس/آذار من عام ٢٠١١، الثورة التي كانت تتوقد تحت رماد الاستبداد والظلم الذي كان يمارسه الأسد طيلة أربعين عاما، الثورة التي تفجرت نتيجة تراكمات الماضي من ثورات وغضب ورغبة في التغيير ظهرت مع تسلم حزب البعث مقاليد الحكم واستبداده بالشعب وكبته للحريات وتدميره للإنسان السوري كإنسان قبل كل شيء.

عمق الخبرة وقوة الفكرة

انطلق الإخوان يخوضون جميع مجالات الثورة ويضعون فيها ما تراكم لديهم من خبرات وإمكانيات دون تردد أو خوف، ويؤكدون في نفس الوقت أن هذه الثورة ثورة شعب وليست ثورة إخوان، وأنها ثورة شعب وليست ثورة نخبة، وأنها ثورة شعب وليست ثورة تنظيم أو حزب أو فئة معينة، هي ثورة كل السوريين ومن أجل الحرية والكرامة.

كان واضحا لدى الجماعة أنها تعاني من مشاكل حقيقية في التأقلم السريع والحركة المرنة والمواكبة للثورة، فالحراك الثوري سريع جدا، ونمو الثورة تجاوز الزمان والمكان والأحزاب والتنظيمات، لكنها مع ذلك فقد كانت الجسم المعارض الأكثر تنظيما وتحركا وفعالية من باقي أجسام المعارضة، لسابق التجربة وعمق الخبرة وطبيعة التنظيم وآليات عمله وامتداده الأفقي والعمودي.

كان غياب الجماعة عن الداخل والمجتمع السوري عدة عقود مؤثرا جدا على تحركها وتواصلها وإعادة تمركزها، ولكن الغياب كان تنظيميا أكثر منه فكريا، بمعنى أن أفكار الإخوان منتشرة ويحملها الآلاف في الداخل السوري، رغم حجم ماكينة الإعلام السوداء التي عمل عليها النظام طوال هذه الفترة لتصوير الجماعة على أنها مجموعة خارجة على القانون وأنها عصابة إرهابية، فرغم كل هذا الضخ الإعلامي الأسود بقيت أفكار الجماعة منتشرة ومتقبلة لدى الشعب، ولتأتي الثورة وتظهرها على السطح، حيث إن الجماعة تحمل الفكر الذي يعبر عن وسطية الإسلام الذي يؤمن به غالبية الشعب السوري ويتبناه معتقدا وسلوكا.

معارك الاعتدال والتطرف

هذا الغياب الطويل عن الساحة قبل الثورة، ثم تأخر الجماعة في الانتشار الفعلي على الأرض إبان الثورة، أتاح الفرصة للمشروع الفكري المتطرف أن يتمركز في بعض المواقع، ولكنه تمركز مؤقت، لأن طبيعة الشعب لا تقبل هذا الفكر، كما أنه تم استغلال ظروف الثورة التي تمثل تربة خصبة تنمو فيها الشعارات والمشاريع المحركة للعواطف على حساب المشاريع الواقعية، إضافة للعامل الخارجي الذي عمل وبصورة حثيثة على تنمية هذا المشروع ودعمه بمقومات الوجود تحقيقا لأهداف وأجندات تهدف إلى تقويض الثورة ودمغها بطابع الإرهاب.

فكان هذا تحديا كبيرا للجماعة، ومعركة أخرى لا تقل أهمية عن معركة إسقاط النظام، وهي المعركة الفكرية واستعادة التوازن للإنسان السوري الذي تعرض لحركة انزياح فكرية وأخلاقية مبرمجة من أجل دفعه لمربع الإرهاب والتطرف.

أداء سياسي مثقل بالعراقيل

عملت الجماعة في المجال السياسي على تفعيل مبدأ المشاركة لا المغالبة مع الأطياف الوطنية والثورية والإسلامية المشاركة في الثورة، والابتعاد عن أسلوب الهيمنة على أي كيان سياسي، بل كانت الإستراتيجية المعتمدة لدى الجماعة أن تتعاون وتتشارك مع الجميع من أجل إنجاح العمل السياسي الذي يحقق أهداف الثورة.

في مثل هذه المعارك السياسية المعقدة والتي تخوضها الجماعة في واقع معقد ومتشابك وغير مستقر، من الطبيعي وقوع أخطاء سواء فردية أو من خلال الاجتهادات السياسية التي تخضع لواقع متغير في كل ساعة.

لست بصدد الدفاع عن الأخطاء التي وقعت، ولكن باختصار يمكن أن أقول إن الجماعة بذلت جهودا سياسية ليست بالهينة من أجل الحفاظ على خط سياسي يحفظ للثورة مكانتها ويساعد في تحقيق أهدافها، ولكن كان يمكن أن يكون الأداء السياسي للجماعة أفضل حالا وأكثر تأثيرا لو أنها انفتحت أكثر على الطيف الوطني والإسلامي والثوري وجعلته جزءا من قرارها السياسي، وأيضا قدمت وجوها سياسية جديدة في المراحل المتأخرة من العمل السياسي لإعادة صياغة البناء السياسي للثورة.

كما أنه لا يمكن أن نغفل التلاعب الذي عمد إليه المجتمع الدولي في شأن تشكيل المعارضة السورية وتغيير هيكليتها، والمحاولات الدؤوبة لتذويب المكونات الصلبة داخل أجسام المعارضة بدءا من المجلس الوطني وانتهاء بالهيئة العليا للتفاوض، حيث عمدت القوى الكبرى إلى محاصرة جميع العناصر المؤثرة داخل هذه الأجسام، وإقصائها عبر مشاريع تحمل في ظاهرها التطوير أفضت إلى عزل المجلس الوطني، وإلى تغيير هيكلية الائتلاف مرتين، ثم تهميشه من خلال تشكيل الهيئة العليا، وكانت هذه القوى تعمد في كل تغيير إلى إقصاء الفاعلين وعلى رأسهم الإخوان، وإلى تخفيف تركيز القوى الوطنية عبر إضافة مكونات لا تحمل أجندة الثورة ولا شعاراتها إلى أجسام المعارضة المختلفة.

لقد تميزت علاقة الجماعة بعلاقة جيدة ووثيقة مع جميع الدول الفاعلة في الملف السوري، ولم تدخل في حالة خصومة مع أحد منهم، لكن وضع الجماعة من قبل بعض الأنظمة الإقليمية على قوائم الإرهاب رغم معرفتها أن الجماعة تمثل الملاذ الوحيد من التطرف، أدى إلى توجس وتخوف البعض منها والعمل على رسم حدود وخطوط حمراء لتحركات الجماعة سياسيا في محاولة منه للتهميش المتعمد ولتحييدها أو إبعادها عن المشهد السياسي، إلا أن ذلك لم يؤثر على العمل السياسي للثورة، وأعادت الجماعة رسم إستراتيجيتها بناء على هذه المتغيرات واحتفظت بعلاقات جيدة من طرفها مع الجميع تغليبا لمصلحة الثورة.

العمل العسكري والحق الممنوع

خوفا من تكرار تجربة الثمانينيات، ومن أن يتم تقييد الثورة تحت حجة الإخوان وسيطرتهم عليها، ومن خلال قراءة عميقة للواقع الإقليمي والدولي وقت ذاك، اتخذت الجماعة قرارا بعدم تبني أي فصيل عسكري خاص بها، وكانت الإستراتيجية المعتمدة تقوم على دعم فصائل الجيش الحر بحدود إمكانيات الجماعة والوقوف من الجميع مسافة واحدة، وكانت فلسفة الجماعة وقتها أنه لا داعي لفصيل خاص بها حتى لا تتأذى الثورة ويتم احتسابها على الإخوان فقط، بينما هي ثورة شعب.

ربما هذه الإستراتيجية كانت تصلح في وقت ما وفي مرحلة ما، ولكن كان ينبغي مراجعتها ودراسة نتائجها والتعامل بمرونة مع المتغيرات التي حصلت في الثورة، كان يمكن للجماعة أن تغير من تلك الإستراتيجية في مرحلة أخرى وتقود حراكا فاعلا للم الصفوف وتوحيد الجهود في هذا المجال، ورغم المحاولات الكثيرة التي بذلتها الجماعة في توحيد جهود العمل العسكري، لكن الوقت قد تأخر، لأن معالم الميدان وقواه المؤثرة كانت قد تشكلت وحصل فرز في القوى والتوجهات جعل من الصعب إدارة عملية التغيير والتوجيه.

في نفس الوقت كانت الأطراف الإقليمية والدولية تعمل بشكل سري وعلني لمنع أي وجود عسكري مؤثر للجماعة، لأنهم يعتقدون أن من لديه القوة على الأرض هو صاحب القرار الميداني والسياسي، وأيضا صاحب الكلمة الأقوى في مستقبل سوريا، وهم يعلمون جيدا أن الجماعة بإمكانها أن ترتب الميدان بطريقة فاعلة لو أتيحت لها الفرصة في ذلك.

ومن زاوية أخرى فإنه يحق للجماعة؛ خصوصا وأن الوطن يعيش حالة ثورة، إضافة إلى كونها طرفا مهما من الأطراف التي تشارك في هذه الثورة؛ أن تقوم بما يقوم به الآخرون، وكان يمكن لها من خلال مشاركتها في العمل الميداني أن ترشد العمل العسكري ترشيدا فكريا وسياسيا، ونكون بذلك قد اختزلنا كثيرا من الصراعات والخلافات في هذا الملف الذي تدخل فيه الجميع وعبثت به جميع الأطراف الداخلية والخارجية.

إن الجماعة بتاريخها الجهادي والعسكري ضد النظام في ثورة الثمانينيات، كانت هي الطرف المؤهل الذي يحق له المشاركة بفعالية في هذا المجال دون تردد أو خوف، ولكن تحرك الدول الإقليمية والدولية لمنع أي وجود وتأثير عسكري للجماعة في الثورة هو الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه الآن.

إستراتيجيات إعادة التموضع

لا شك أن الوضع الحالي للجماعة من جهة وللثورة من جهة أخرى يستلزم مراجعات حقيقية وعملية، كما يستلزم إعادة تفكير جدية في إعادة تموضع الجماعة بحيث تأخذ دورها الفاعل والمؤثر مع اعتبار الظروف الإقليمية والدولية والواقع المتغير للثورة، ويتمثل ذلك في أربع إستراتيجيات مقترحة:

أولا: إعادة تعريف وصياغة المشروع

تحتاج الجماعة -كأولوية لها- إلى إعادة تعريف مشروعها بحيث ينطلق من الجانب المهم من عمل الجماعة والأساس الذي انطلقت منه وهو بناء الإنسان والمجتمع.

إن انسداد (انحسار) الأفق السياسي للثورة يتطلب من الجماعة إعادة ترتيب الأولويات لديها، فالجهد السياسي يجب أن يتراجع لحساب الجهد الدعوي والتربوي والفكري الذي يجب أن يكون له الأولوية في المرحلة القادمة.

ثانيا: ثورة فكرية تجديدية

لقد وصلت الحركة الإسلامية ليس في سوريا فحسب وإنما في أكثر من منطقة إلى طريق مسدود في كيفية التأقلم مع الواقع وتثبيت معالم مشروعها، خاصة في ظل حرب شرسة تستهدف وجود الجماعة فكرا وتنظيما.

هذا الأمر يحتاج إلى ثورة فكرية داخل الجماعة، وهذه الرؤية التجديدية أكبر من مسألة فصل السياسي عن الدعوي التي يكثر الحديث عنها اليوم، وأكبر من أن تكون ثورة شباب داخل الجماعة، ولكنها رؤية تجديدية تشمل معالجات تنظيمية داخلية، ورؤى تجديدية فكرية، ومشروعا خلاقا يتعاطى مع الواقع من منظور مختلف ويتجاوز الخطوط الحمراء التي قيدت الجماعة طوال عقود مضت.

ثالثا: الخروج من ضيق التنظيم إلى سعة الثورة

وهذا يتطلب من الجماعة تبني سياسة الانفتاح على الشعب بكافة أطيافه وشرائحه، والخروج من قوقعة التنظيم في زمن الثورة، لقد فشلت الجماعة في الانفتاح الواسع على الشعب السوري خلال سنوات الثورة، وربما مرد ذلك إلى عقلية المهجر التي عاشتها الجماعة لأكثر من ثلاثين عاما.

إن كسر الأبواب والنوافذ والخروج من ضيق التنظيم سوف يعطي الجماعة دورا مهما في صياغة مستقبل سوريا، وهذا يحتاج إلى تغييرات إستراتيجية في الآليات والأنظمة وحتى طريقة التفكير.

رابعا: الانتقال بالثورة إلى حركة تحرر وطني

إن استطالة عمر الثورة وتحول سوريا إلى وطن محتل، ووجود أكثر من احتلال عسكري لها، وتغير موازين القوى، ووجود مشروع إيراني للسيطرة على المنطقة، والحرب العلنية ضد السنة، وتكاتف العدو في غرفة عمليات واحدة عابرة للحدود، كل هذا يستدعي النظر في آليات وأدوات الصراع والمواجهة لتكون مناسبة للتعامل مع الواقع، فلم تعد تجدي القطرية في هذا الصراع، ولن يجدي التخطيط الفردي في مواجهة التخطيط الجماعي للعدو.

كما أنه يجب النظر إلى أن الثورة بتعريفها الأول الذي انطلقت به وهو إسقاط النظام لم يعد له وجود، لأنها أصبحت حركة تحرر وطني للتحرر من الاحتلال الروسي والإيراني.

أخيرا.. يجب أن نثبت عدة حقائق مهمة رغم كل الملاحظات والأخطاء والتقصير الذي يلف جهدنا البشري:

الإخوان لا يعملون لأجل الحفاظ على ذواتهم وكيانهم وتنظيمهم.. فهم يعملون لتحقيق أهداف يشعرون أنها تساهم في إنقاذ المجتمع والإنسان السوري من الحالة المتردية التي يعيشها.

هم يعملون لأجل الحرية والعدالة والكرامة وهو مشروعهم الأول والرئيسي..

هم يعملون لكي يكون الإنسان حرا في اختياراته وتفكيره وآرائه..

هم يعملون لتحطيم الاستبداد وأصنامه وعلاج آثاره..

فإذا تحقق كل ذلك، فيمكن أن نقول في تلك اللحظة فقط إن مشروع الإخوان قد تحقق!

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2016

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى