مراجعات كتب

«إدارة التوحش» و «الفوضى الخلاقة».. وجه الشبه بين «داعش» وأمريكا

 

 

عمرو عبد المنعم

بعد تجربة الجهاديين في حرب أفغانستان مع الروس في أوائل التسعينات، ظهرت لديهم استراتيجية إدارة التوحش التي تقول أن الضعفاء لا يستطيعون وضع الاستراتيجيات الكبرى، وذلك لعدم تمكنهم من فرض إرادتهم على الأرض أوالمحافظة على ما يصلون إليه من إنجازات، لذلك يجب أن تكون الاستراتيجيات القادمة في المقاومة بالنسبة لهم عبارة عن مجموعة من الخطوط الحركية المرنة التي تعطي تكتيك مرن يتعامل مع آليات الصراع ويسيطر عليها.

وفي هذه الأثناء كانت الإدارة الأمريكية تراقب بنوع من البحث والاستقصاء والدراسة ما وصلت إليه التجربة في أفغانستان، ليفاجئوا العالم في 9/4/2005م بمصطلح تداولته وسائل الإعلام العالمية والعربية وهو “الفوضى الخلاقة Creative Chaos ، بعد أن أدلت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس بحديث صحفي مع جريدة الواشنطن بوست الأمريكية، وفي هذا اللقاء الصحفي أذاعت كونداليزا رايس رسيماً نية الإدارة الأمريكية نشر الديمقراطية في العالم العربي و التدخل لحقوق المرأة وغيرها لتشكيل ما يعرف بالشرق الأوسط الجديد .

وقبل أن نتحدث عن إمكانية وجود علاقة بين مفهومي “الفوضى الخلاقة” و “فوضى إدارة التوحش” يجب التعرف على المصطلحين عن قرب ومدى اقتراب المصطلحين من بعضهما البعض .

الفوضى الخلاقة الأمريكية

الفوضى الخلاقة كما يرها المحللون الأمريكيون هي واحدة من الاستراتيجيات الأمريكية لإحداث تغيير جذري على الأوضاع في الشرق الأوسط، وهي تقوم على خلق أوضاع سياسية جديدة ومستقرة بعد فوضى كبيرة تعم المنطقة، أي أن تحقيق الفكرة مرتبط بشكل كبير بنزاعات وحروب داخلية و اقتتال يشمل كافة أرجاء المنطقة المعنية.

وقد ظهر هذا المصطلح في قلب السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، بعد أحداث “الحادي عشر من سبتمبر 2001م ” بتفجير برجي التجارة العالمية وجزء من مبنى البنتاغون بواسطة تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن الذي قتل مؤخراً في باكستان بواسطة قوات أمريكية خاصة بعد مطاردة شرسة استمرت عقداً من الزمان.

ومهندسة فكرة الفوضى الخلاقة هي مستشارة الأمن القومي ووزيرة الخارجية الأمريكية في عهد بوش الابن كونداليزا رايس، فعندما سئلت عن الفوضى التي يمكن أن يولدها التدخل الامريكي في الشرق الاوسط قالت: ” إن الوضع الحالي ليس مستقراً، وأن الفوضى التي تنتجها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي فوضى خلاقة ربما تنتج في النهاية وضعاً أفضل من الذي نعيشه حالياً”.

إدارة التوحش عند الجهاديين

وفي المقابل تقوم فكرة إدارة التوحش عند الجهاديين على إنهاك قوات العدو والأنظمة العميلة لها، وتشتيت جهودها، والعمل على جعلها لا تستطيع أن تلتقط أنفاسها بعمليات وإن كانت صغيرة الحجم أو الأثر ــ ولو ضربة عصا على رأس صليبي ــ إلا أن انتشارها وتصاعدها سيكون له تأثير على المدى الطويل.

والتوحش كلمة استعملها المؤلف ويقصد بها تلك الحالة من الفوضى التي ستدب في أوصال دولة ما أو منطقة بعينها إذا زالت عنها قبضة السلطات الحاكمة.

ويعتقد المؤلف “ابو بكر ناجي ” أن هذه الحالة من الفوضى ولحظ الاستخدام اللفظي لكلمة الفوضى ستكون “متوحشة” وسيعاني منها السكان المحليون، لذلك وجب على التنظيمات الجهادية التي ستحل محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية أن تحسن “إدارة التوحش” إلى أن تستقر الأمور على حد وصفه.

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا أطلق المؤلف تعبير” إدارة التوحش” أو “إدارة الفوضى المتوحشة”؟ وما هي الفروق بينهما؟

يجيب أبو بكر ناجي (قيادي جهادي انضم للجهاد في افغنستان) “لأنها ليست إدارة لشركة تجارية أو مؤسسة تعاني من الفوضى، أو مجموعة من الجيران في حي أو منطقة سكنية أو حتى مجتمعاً مسالماً يعانون من الفوضى، ولكنها طبقاً لعالمنا المعاصر ولسوابقها التاريخية المماثلة وفي ظل الثروات والأطماع والقوى المختلفة والطبيعة البشرية وفي ظل هذه الصورة ــ التي يتوقعها في هذا البحث ــ يكون الأمر أعم من الفوضى، بل إن منطقة التوحش قبل خضوعها للإدارة ستكون في وضع يشبه وضع أفغانستان قبل سيطرة طالبان عليها.

ويضيف ” أي منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية، يتعطش أهلها الأخيار منهم بل و”عقلاء الأشرار” لمن يدير هذا التوحش، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم، أخياراً كانوا أو أشراراً، إلا أن إدارة الأشرار لهذا التوحش من الممكن أن تحول هذه المنطقة إلى مزيد من التوحش”. ويشير المؤلف إلى أن التاريخ القديم والجديد، ولا سيما الإسلامي منه، شهد مثل هذه المراحل من التوحش، سواء لدى المسلمين أو لدى غيرهم، مما يعني بأن هذه الظاهرة ليست طارئة في التاريخ الإنساني.

أمثلة لإدارة التوحش

ومن الأمثلة التي يسوقها المؤلف في هذا الصدد ما يلي:

ــ النظام القبلي الذي حكم المدينة المنورة قبل وصول الرسول عليه السلام، وبعد وصوله أصبح يحكم “بالنظام المثالي لإدارة التوحش”.

ــ عند سقوط الخلافة الإسلامية وتعرض الأمة لهجمات خارجية كالهجمة التتارية والصليبية؛ تشكلت دويلات صغيرة، حاولت أن تصبح دولة خلافة أو دولة مجاورة لدول أخرى.

ــ وهناك العديد من الأمثلة التي ساقها المؤلف ليؤكد على تكرار هذه الحالة في العالم بأسره حالياً، مشيراً إلى: أفغانستان، والفلبين مع جبهة تحرير مورو، وحركات الجهاد في الجزائر، وحركة جون جارنج في جنوب السودان، والحركات اليسارية في أميركا الوسطى وجنوبها.

وتؤكد هذه النظرية أن “مرحلة التوحش” تعد المرحلة الثانية بعد المرحلة الأولى التي تتمثل في طشوكة النكاية والإنهاك”، وقبل المرحلة الثالثة والأخيرة التي تقود إلى”التمكين” أي إقامة الدولة الإسلامية، حسب الخطاب الجهادي.

أبو بكر ناجي صاحب نظرية “إدارة التوحش”

ظهرت فكرة إدارة التوحش في العقلية الجهادية بعد أن اكتسبتها هذه الحركات وخاصة “داعش” من دراسات قدمها كتاب “إدارة التوحش أخطر المراحل التي ستمر بها الأمة” لأحد قيادات الجهاد الأفغاني، واسمه الحركي أبو بكر ناجي، وبقيت شخصية مؤلف الكتاب “أبي بكر ناجي” غامضة إلى حد كبير، لكن القيادي الجهادي محمد عاطف صرح في بعض تصريحاته أن اسم صاحب الكتاب وهمي، وأنه في الحقيقة ضابط مصري سابق وكان مسئول الشؤون الأمنية والاستخباراتية في تنظيم القاعدة .

كتاب “إدارة التوحش”

ويحتوي الكتاب على خمسة مباحث يتحدث كاتبه في الأول عن “التعريف بإدارة التوحش، فيما يتكلم في المبحث الثاني عن طريق التمكين الذي يركز خلاله على أهمية توتير العلاقات بين الدول وتوظيفها لصالحهم، في حين يفرد المبحث الثالث لأهم القواعد والسياسات التي تيسر لهم عملهم يركز خلالها على الإدارة العسكرية، واتخاذ القرارات، وفي المبحث الرابع يتكلم عن أهم المشاكل والعوائق التي يمكن أن تعترضهم.

أهمية كتاب “إدارة التوحش”

يعد كتاب “إدارة التوحش” دراسة كبيرة لتاريخ الحركات الجهادية ومدى نجاحها وأيضا فشلها في بعض الدول، وهو عبارة عن رؤى لا تأخذ بالأحكام “الوسطية”، بل يقرر الكتاب بقول قاطع وحقائق نهائية أن المواجهة واسقاط النظم هو الحل لإعلان الخلافة الإسلامية، وينبذ المواقف المغايرة له كالطرق الخمسة التقليدية للوصول للحكم مثل الانقلابات العسكرية وحروب العصابات والانتخابات والممارسة السياسية والثورات الشعبية نبذاً كاملاً.

وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أن المؤلف “أبو بكر ناجي” جمع بين التصورات الدينية والأفكار الثورية ــ إن صح التعبير ــ ذلك أنه يقدم في مجال العمل السياسي والاستراتيجية العسكرية تصورات عملية، يمكن أن تأخذ بها القوى الإسلامية الأصولية، وقوى أخرى غير إسلامية.

العلاقة بين إدارة التوحش وتنظيم القاعدة

ترجعنا نظرية إدارة التوحش إلى تنظيم القاعدة وآلياتها في التجنيد، وتحليل الرؤية الجيوسياسية للتيار السلفي الجهادي من خلال “الحالات الدراسية” المتوفرة والمتاحة لعموم الباحثين، وربما يكون التنظير الذي تأثر به أبو بكر ناجي ومن بعده تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام ” داعش”، هو الكتاب الذي ينسب لأبي مصعب السوري تحت اسم “التجربة السورية” و”دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”.

لقد حاول منظرو القاعدة التوفيق بين بعض الرؤى الاستراتيجية وبعض التوجهات التي اعتمدوها لأسباب أخرى تتصل بما توصلوا إليه بناء على فكرهم الديني وتجربتهم الخاصة في أفغانستان والبوسنة وبعض الدول العربية مثل سوريا والعراق ومصر، ومن ذلك ما نظر له أبو مصعب السوري في شرحه لكتاب “حرب المستضعفين” للمؤلف الأميركي “روبرت تابر” لاسيما نظرية “البرغوث” الذي ينهك الكلب قرصًا حتى ينهار، أي إنهاك الدولة بالجهاد الفردي، والجماعي ، إلى أن يؤدي هذا إلي نشر الفوضى في الدولة لتنهار في النهاية .

أمريكا والجهاديون

ونحن لا نجزم أن فكرة إدارة الفوضى وإدارة التوحش خرجت من منبع واحد على الإطلاق، وذلك لأن الجعبتين مختلفتين، الأمريكية والجهادية، ولكن هناك دائما ما نستطيع أن نطلق عليه “التقاء المصالح” أو “التقاء مصالح الفرقاء ” على هدف قد يتغير في المستقبل، فنظرة الأمريكان إلى الشرق الأوسط الجديد هي (هدم الأنظمة ـ تحطيم الجيوش ـ تقسيم الدول العربية تقسيما عرقيا )، أما الجهاديون فهدفهم هو إقامة الدولة الإسلامية والخلافة العظمي وذلك عن طريق ( هدم الأنظمة ـ تحطيم الجيوش ـ إقامة الإمارات الإسلامية ).

فمن منهم سيكون أسرع في الوصول إلى هدفه أولا، هذا ما سوف تسفر عنه الأيام القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى