صفحات العالم

إدمان الحرب/ حسام عيتاني

تقع مجتمعات بأسرها في قبضة الإدمان على الحرب. تأسرها أساطير البطولة والتضحيات المبذولة من أجل الجماعة وقائدها وخرافاتها.

عندما تسحر الحرب المجتمع، يرى فيها خلاصه وعلة وجوده فيفتح خزائنه ويدفع الغالي من الأبناء ثمن إدمانه. لا يختلف إدمان الحرب عن إدمان المخدرات بحسب الكاتب الأميركي كريس هيدجز. أنواع الإدمان الفردية تتنوع من العقاقير الممنوعة إلى إدمان اندفاعة «الأدرينالين» في المغامرات القاسية. هناك من يروج إدمان اندفاعة الحرب في مجتمعاتنا. أول ما يصيب الإدمان هو الإحساس بالوقت، فتختفي الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر وينعدم التفكير في المستقبل. اللحظة تعادل دهراً.

يصعب تصور أي قدرة على بناء حوار ذي مغزى مع مدمن. فكيف إذا كان المدمن هذا جماعة ربطت تصوراتها بالحرب بمغامرة تندمج فيها كل المشاعر البدائية ويتسلط فيها على العقل وهم الخلود والشهادة والفعل التاريخي. يخرج وحش الحرب من تضاعيف الدماغ ويفرض حضوره على الجماعة. تقتنع هذه أنها لم تكن في مأمن من غدر الجماعات المعادية لولا استسلامها لوحش الحرب.

الكارثة وحدها هي علاج هذا الإدمان. الموت العميم المقتحم كل بيت وكل روح هو وحده ما يصفع مدمن الحرب ويجرّه جراً للعودة إلى بعض الواقع. قبل ذلك، سيجد المدمن كل المبررات والذرائع والوسائل لتغذية مرضه واستنهاض هلوساته وتحكيمها به وبحياته وموته.

كل خطوة في اتجاه الاستغراق في الحرب هي خطوة نحو الكارثة. لا حل عقلانياً ولا مفاوضات ولا مغريات تكفي لإقناع المدمن بالتخلي عن مخدره المفضل. ما يعيشه يتجاوز الشعور إلى تغيير الطبيعة الجسدية والسلوكية وإلى إنشاء منطق خاص به مغلق ومتماسك. وعندما تدمن الجماعة الحرب، لن يكون من المفيد في شيء إبلاغها بالضرر الذي تلحقه بنفسها وبالآخرين ما دامت ترى فوائد الحرب و»انتصاراتها» ضمن منطقها المغلق الأصم.

وها نحن الشهود الحزانى على تدفق مخدر الحرب إلى بلدنا. من دون رادع ومن دون دولة ومن دون أبسط أنواع التوازن المجتمعي التي تحول دون انهيار لبنان للمرة الألف ربما، في مستنقع الحرب الأهلية- الطائفية.

لا مناعة ولا وعي ولا مصالح مشتركة ولا تعليم ولا شيء يجمع بين مواطنينا ليتصدوا لخطر الحرب. وتروّج وسائل إعلام الحرب المقبلة، للجولات الجديدة من الانتصارات. من القصير إلى يبرود إلى رنكوس في سورية. وربما من عرسال إلى طرابلس إلى بيروت في لبنان. انتصارات تقرب «أبطالها» من الخوض في دماء أبناء بلدهم بعدما أسكرتهم رائحة الدم.

لا شيء يمنع اندلاع القتال غير اختلال موازين القوى الميدانية. الكراهية موجودة وعميقة. مؤسسات الدولة كومة من الأنقاض والرماد. الاقتصاد مدمر. الفوارق الاجتماعية هائلة. وكلها عوامل تصرخ منادية إله الحرب.

لن نخرج من هذه الوحول سالمين. ستظل الرؤية المشوهة التي صنعها مخدر الحرب وانتصاراتها المزعومة قابضة على «وعي» المنتصرين. وستمتد طويلاً نشوة المخدر التي سيطالب بالشعور بها كل أبطال الجماعات المنتظرة الانخراط في حروبها الخاصة.

كل من اللبنانيين لديه واجب مقدس و «زينبه» التي لا يريد لها أن تسبى مرتين. وكل يبحث عمّن يمده بالسلاح والمال لينضم إلى حلقة مدمني الحرب.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى