صفحات الرأي

إدوارد سعيد.. السرد والاستعمار


أمجد ناصر

“أغلب الذين يصابون بمرض سرطان الدم يموتون أو يشفون، لكنني لم أمت ولم أشف”، هذا ما قاله إدوارد سعيد في آخر مقابلة تلفزيونية، وأجراها معه الصحفي الأميركي والرهينة السابق في بيروت، تشارلز غلاس.

لم يطل الوقت بعد تلك المقابلة، حتى غادر إدوارد سعيد “اللمبو” الذي رزح فيه نحو ثلاث عشرة سنة لم يمت خلالها ولم يشف، ولكنه أنتج في ذلك البرزخ القاتم أغزر وأنضج ما أنجزه عندما كان أكثر شبابا وصحيح البدن تماما.

يكفي أن نذكر له هنا، عمله الكبير “الثقافة والإمبريالية” الذي وسَّع من خلاله أطروحته التأسيسية عن أدبيات الاستشراق وسردياته، والجزء الأول (والأخير) من سيرته “خارج المكان”، الذي استعاد فيه مسرح طفولته وشبابه في أربعة أماكن تقاسمت هواه ومصائره: فلسطين، مصر، لبنان وأميركا، مرورا بما كتبه عن الأوبرا (شكرا لوالدته التي عذبته بتمرينات لا تنتهي على البيانو)، فضلا عن تدخله الفكري والسياسي الدؤوب والحاد أيضا، في اللحظة السياسية الدولية والعربية والفلسطينية، خصوصا اتفاقية “أوسلو” التي ناهضها بشدة.

أهكذا يكون نزيل “اللمبو” شعلة حياة ونشاط متقدة أبدا؟ قد يكون “اللمبو” عند إدوارد سعيد برزخا للأمل، ولكنه بالتأكيد لم يكن محطة انتظار للموت. فهو لم يعش تحت إرهاب “سيف ديموقليطيس” -بحسب تعبيره عن السرطان الذي تسلل إلى دمه- بدليل مئات السفرات التي قام بها حول العالم في تلك الفترة بالذات، وعشرات المحاضرات التي قدمها في أهم المنابر الأكاديمية، ومئات إن لم يكن آلاف المقالات التي تناولت الشأن العام ورسمت صورة للمثقف الذي لم يعزله الاختصاص في برج عاجي.

وأسهمت تلك المقالات بالذات، في إعادة الاعتبار إلى السياسة عند المثقفين الذين شككوا في جدوى تدخلهم في الشأن العام بعد انتهاء الحرب الباردة وما سمي بـ “موت الأيديولوجيات”، بل موت التاريخ. وها نحن نعيد الاستشهاد بها في ظلال “الربيع العربي” الذي لم يظهر فيه المثقفون العرب في أفضل حالاتهم.. هذا “الربيع العربي” الذي لم يكن سعيد، لو عاشه، ليتردَّد في اختيار الجهة التي سيقاتل من أجلها: الشعوب.

***

ليس سهلا تناول إدوارد سعيد في عجالة، فالرجل شديد التنوع وعظيم الحضور في الحياة الثقافية والفكرية العالمية. إنه حاضر بقوة  في دراسات “ما بعد الاستعمار”، وفي النقد الأدبي، وفي الكتابة عن الموسيقى، وفي صورة المثقف وموقفه مما يجري في العالم.

كأن سعيد، والحال، صورة حديثة للمثقف الموسوعي الذي يصعب حصره في مجال بعينه. وبسبب هذا التنوع في شخص الراحل الكبير سأتوقف هنا عند موضوع مركزي جاء في كتابه “الثقافة والإمبريالية” (نقله إلى العربية كمال أبو ديب، ونشرته دار الآداب) الذي أثار عند صدوره عش الدبابير الكولونيالي المتخفي وراء أقنعة الأكاديمية المزيفة والمعرفة التي تدّعي حيادا كاذبا، وهذا الموضوع، مناط معالجتي الآن، هو ما سمَّاه سعيد بـ”السرديات”.

الأمر لا يتعلق، هنا، بالسرد الروائي أو القصصي، بل يتعدى ذلك ليشمل حكايات ومرويات الذات عن نفسها، أي إلى الإنشاء الذي يقيم عالما متخيلا، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتتشابك فيه أهواء وتحيّزات وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه، على حد تعبير كمال أبو ديب في مقدمته للكتاب.

بعد أن وقعت على استخدام إدوارد سعيد لمصطلح “السرديات” خطر لي أن أعود إلى “لسان العرب” لأقف على وجه الصلة المعقودة بين هذا المصطلح القادم من الإنكليزية ونظيره العربي كما يرد في “لسان العرب”.

هو ذا أحد معاني “سَرَدَ” في “اللسان”: السرد في اللغة تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقا بعضه في إثر بعض متتابعا. سَرَدَ الحديث ونحوه، يسرده سردا إذا تابعه. وفلان يسرد سردا إذا كان جيد السياق له. وسرد فلان صومه إذ ولاه وتابعه.

***

إذن فإن أحد معاني “السرد” في “لسان العرب” هو التتابع والتوالي. وعندما يتصل معنى “سرد” بأي نشاط لغوي فإن المقصود هو تواصل وتتابع أجزاء المنطوق بما يشكل سياقا ومجرى، أي بما يصنع رواية متصلة، متماسكة.. كما يأتي معنى سرد في “قاموس المعاني” بما يفيد تداخل الحلقات بعضها في بعض، الأمر الذي يحيل إلى التسلسل والتماسك في آن.

ويحضرني، هنا، معنى آخر يجري على لسان أهلي البدو عن السرد يفيد الاختلاق المرتبط بقصِّ قصة أو روايةِ روايةٍ، فيقال: إن فلانا سرد السالفة (الحكاية) سردا.. أي اختلقها ونمّقها ورصفها. وربما المقصود، أيضا، القدرة على صياغة رواية فيها عناصر مترابطة وتتوافر على درجة من الإقناع، بصرف النظر عن صدقها أو كذبها. لكني أميل، بسبب نبرة الكلمة المرتبطة بذاكرتي بـ”معجم” والدتي التي كانت أكثر بدواة بيننا، إلى الكذب وعدم التصديق بالرغم من التماسك الظاهري في “السالفة”.

ولكن “السردية” عند إدوارد سعيد، انطلاقا من قراءته في الآداب التي مهدت للاستعمار الغربي، تتجاوز هذا المعنى البسيط لتصل إلى تركيب عناصر معقدة من الحكي الذي يشكل عالما متخيلا متماسكا، على حد وصف أبو ديب، بحيث ينسج حكاية تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تُمنح طبيعة الحقيقة التاريخية وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا.

***

في كتابه “الثقافة والإمبريالية” قرأ سعيد سرديات روائية استقرت في الذائقة العامة للغربيين (كما للشرقيين بسبب التمركز الأوروبي الإنجليزي في هذه الحالة) مثل رواية “مانسفيلد بارك” لجين أوستن، و”كيم” لروديارد كبلنغ، و”قلب الظلام” لجوزيف كونراد.

هنا تثوي معان مدفونة بين طيات الخطاب الروائي والقصصي ليس سهلا كشف تحيّزاتها وتنميطاتها بسهولة، نظرا لكونها تنتمي إلى “الكتابة المتخيلة” والأعمال الجمالية وليس إلى الدرس الأكاديمي التاريخي أو الاجتماعي أو الأنثربولوجي.

فوراء الجماليات التي تسهِّل استقبال هذا النوع من الأدب تكمن التحيِّزات الواعية، أو غير الواعية، لدى الذات المنشئة، وهي تحيّزات تعكس، على الأرجح، متخيلا عاما شائعا حيال الذات والآخر في الزمان والمكان اللذين أنتجت فيهما تلك الأعمال الأدبية.

ولكن هذا جانب من الصورة التي اشتغلت عليها أفكار إدوارد سعيد في توسيعاته الدائمة لأطروحة الاستشراق وكتابات “ما بعد الاستعمار”. وهناك جانب آخر ألحت عليه هذه الأفكار لا يقل أهمية هو نقدها للتصور “الشرقي” التنميطي للغرب.

وبهذا المعنى يصل إدوارد سعيد إلى التنبيه إلى عدم اعتبار الغرب كتلة واحدة وجوهرا ثابتا، كما أن ليس للشرق هذا الجوهر الثابت الذي بدا في أعمال كثير من المستشرقين. وفي هذا السياق يقول نعوم تشومسكي عن إدوارد سعيد “إن عمله خصص لفضح الميثولوجيات الغربية التي كوناها عن أنفسنا، والميثولوجيات التي كوناها عن الآخرين، والعمل الأول، أي فضح ميثولوجيا الأنا، أكثر صعوبة من الثاني، ذلك أنّ نَظَرنا في المرآة لنرى أنفسنا أصعب بكثير من نظرنا إلى الآخرين”.

تحت هذا الضوء الكاشف الذي يسلطه إدوارد سعيد يمكن أن نفهم سرديات الأصوليين والقوميين المتعصبين لذاتهم وحاضرهم، وصلتها بالتاريخ.

***

وعندما يتصل الحديث بـ”السردية الكبرى” لا أجد أفضل من المثال الإسرائيلي. فالسردية الإسرائيلية الشاملة هي رواية للتاريخ يتداخل فيها الأسطوري بشظايا الواقعي، والسحري بالتاريخي، والفنتازي بالديني، لينتج من هذا المزيج تصور كامل ومتماسك للذات والعالم. فيصبح علينا أن نصدق الوعد الإلهي بوصفه حقيقة، وأن نرى إلى الواقع الراهن (احتلال فلسطين) كما لو أنه كان هكذا على مدار التاريخ.

إن هذه السردية الإسرائيلية من التماسك والإقناع في الغرب بحيث تصعب زحزحتها، على الأخص عند رجل الشارع العادي الذي يستحيل حمله على الاقتناع بأن إسرائيل لم تكن موجودة في المنطقة العربية قبل عام 1948.

ففي نصف قرن، أو أكثر قليلا، كادت السردية الإسرائيلية أن تمحو اسم فلسطين من التاريخ المعاصر. أليس هذا قريبا مما يقصده محمود درويش عندما يقول إن الهزيمة العربية الحقيقية هي في قبولنا رواية الإسرائيلي، أي سرديته لذاته.. ولنا، وتبنينا لها؟

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى