صفحات المستقبلمازن عزي

“إرهاب الدولة” لمواجهة “الكفار”/ مازن عزي

 

 

ما زالت روسيا ماضية في بناء قواعد عسكرية لها في سوريا، وتزويدها بالأسلحة والذخيرة والمقاتلين. لكن التوصيف للتدخل العسكري الروسي، يبدو متناقضاً وملتبساً، ما بين “انتداب” و”استعمار” و”احتلال”، أم أنه مجرد “مهمة إنسانية” في “محاربة البربرية”.

الاستعمار الأوروبي والروسي

يصعب فهم التدخل العسكري الروسي في سوريا من باب الاستعمار “الكولونيالي” الذي ساد بعد اكتشاف أميركا في القرن الخامس عشر، وتوسع المستعمرات الأوروبية في آسيا وإفريقيا. إذ إنه ومنذ منتصف القرن العشرين، تراجع دور فائض الصناعات المحلية والبحث عن أسواق جديدة لتصريفها، وعن مصادر للمواد الأولية، في خلق المستعمرات.

ومع بداية الثورات المناهضة للاستعمار، خرجت الجيوش الأوروبية، من معظم المستعمرات السابقة، وإن تركت مكانها حكومات تابعة لها.

الأمر ذاته لم ينطبق على الدول التي دخلها “الجيش الأحمر” في ظل “الحرب الباردة” والتي ظلت تحت سيطرته حتى تفكك المنظومة الإشتراكية منذ العام 1989. لم تكن تلك الدول تدرج حينها في إطار “المستعمرات”، فهي بمعظمها في أوروبا، إلا أنها كانت تمثل حلقة رئيسية في تصريف فائض البضاعة للدول الاشتراكية، ومناجم للموارد الأولية. ما دفع حينها “جمهورية الصين الشعبية” إلى التنظير عن إمبريالية رأسمالية وأخرى اشتراكية.

وبالتالي، يمكن تحديد نمط سوفييتي خاص بـ”المستعمرات”، يختلف عن نظيره الأوروبي. إذ تندرج ميزة المستعمرات الروسية الأساسية، في الفترة “الكولونيالية” الأوروبية، في إلتصاقها الجغرافي بروسيا، وعدم امتدادها إلى ما وراء المحيطات. إلا أنها بدأت في التوسع مع قيام الاتحاد السوفييتي، أي ما بعد الحرب العالمية الأولى. كما أن نمط الإقتصاد الذي تسبب في فورة تمدد المستعمرات السوفييتية، لا يختلف كثيراً عن ذلك الخاص بأوروبا الرأسمالية. فالدول الطرفية شكّلت أسواقاً لمنتجات القطاع العام في المنظومة الإشتراكية، ومولّتها في المقابل بالمواد الأولية الخام. والاختلاف الرئيسي قائم على وجود تاجر سوفياتي واحد، ممثل في “رأسمالي” الدولة الإشتراكية، مقابل وجود تجار أوروبيين يعملون لحساب شركاتهم الخاصة.

تشريع الكولونيالية

الاجتياح الإسباني لأميركا أشعل نقاشاً سياسياً وأخلاقياً ضمن إطار ديني حول استخدام القوة العسكرية للسيطرة على أراض أجنبية، من أجل تشريع التدخل العسكري كطريقة لتسهيل العبودية والتحول الديني من “البربرية إلى المسيحية” للشعوب الأصلية. ومع المد الاستعماري الإنكليزي، في القرن التاسع عشر، ظهرت فكرة “المهمة التحضيرية”، أي إدخال الشعوب الأصلية في الحضارة الغربية.

الاجتياح الإسباني لأميركا، أخذ ذريعته الدينية من تعاليم المعلم توما الإكويني، على شكل مرسوم بابوي يقول بأن الحرب جائزة ضد الكفار في حال خرقهم لـ”القانون الطبيعي”، وذلك يعني أن بإمكان “الكفار” حكم ذاتهم إلا إذا أبدوا عدم أهلية وقدرة، بما “يُمكن ملاحظته وإدراكه من قبل أي شخص عقلاني”. لكن شعوب أميركا الأصلية، بحسب الغزاة الإسبان، كانت تُفضل العريّ، ولا تحب العمل، أي كانت تخرق “القانون الطبيعي” ببساطة، لذا وجب احتلال أرضها وحكمها في مستعمرات تتبع التاج الإسباني.

بعد المذابح في حق السكان الأصليين، وجدت لدى الإسبان فكرة جديدة، تقول بأن الغزو ممكن فقط إذا خرق السكان الأصليون “قانون الشعوب”، والذي يتضمن عدم التعرض للتجار والمبشرين. وكما هو الحال مع خرق “قانون الطبيعة”، دفع خرق “قانون الشعوب” إلى المزيد من المجازر في حق السكان الأصليين.

تشريع الانتداب

بعد الحرب العالمية الأولى، تقاسمت فرنسا وبريطانيا تركة الإمبراطورية العثمانية، وفرضت “الانتداب” على الدول المستقلة حديثاً عن السلطنة. ونصّ “ميثاق عصبة الأمم” على أن “الانتداب” هو “تمكين دولة تدعي مساعدة البلدان الضعيفة المتأخرة على النهوض وتدريبها على الحكم، حتى تصبح قادرة على أن تستقل وتحكم نفسها بنفسها”.

في حين أن الدول التي اجتاحها “الجيش الأحمر”، كانت تحت ذريعة الحرب ضد الرأسمالية، وبناء الإشتراكية. حينها كانت الإيديولوجيا الشيوعية، تعد الناس بيوتوبيا، سرعان ما تبينت أرضيتها.

الاتحاد السوفييتي مارس آخر محاولات تمدده، عندما تدخل “الجيش الأحمر” لإنقاذ حكومة نجيب الله، الشيوعية في أفغانستان. “الدفاع عن الشرعية” كان آخر غطاء إيديولوجي، استخدمه السوفييت، لتبرير الغزو. وليس مفارقة، أن يكون هذا التبرير، هو ذاته، ما تستخدمه روسيا بوتين اليوم في سوريا.

التبرير الروسي

مع نهاية الحقبة الموسومة بالخلط بين “الكولونيالية” و”الإمبريالية”، عادت فكرة التدخل العسكري الخارجي، لتكتسب معناها القديم: “نشر الحضارة، وتحضير الشعوب المتخلفة”.

يبدو بأن التدخل الروسي في سوريا، وقبله الأميركي في العراق، انطلقا من الزاوية “الأخلاقية” ذاتها: شعوب غير متحضرة، لا يمكنها تقرير مصيرها، ولا اختيار هيئات الحكم الخاصة بها. أي شعوب لا يمكن أن تحكم ذاتها بذاتها، من دون هندسة خارجية.

بغض النظر عن اختلاف المقاربة الأميركية لعراق صدام حسين، والروسية لسوريا الأسد؛ إلا أن ما يجمعهما، هو تبرير متهافت أخلاقياً، قد يصعب وضعه في إطار “الكولونيالية-الإمبريالية”، بمعناها الماركسي. الأمر قد لا يتعدى، السيطرة على مناطق نفوذ، تضمن حصصاً سياسية، وتكوين حكومات تابعة. كما أن للغاية الاقتصادية، حصتها أيضاً من حسابات الاستعمار الحديث، وإن لم تكن هدفاً بحد ذاته.

قد يمكن توصيف ذلك بالانتماء إلى حقبة ما بعد كولونيالية، بالمعنى العسكري وليس الثقافي. أي أنها تتوافر على مضمون تشريعي للغزو، من دون توافر موجباته الإقتصادية. وكأن الشطر الإمبريالي قد سقط عن الكولونيالي.

التبرير للتدخل الروسي في سوريا، جاء من خلفية “الحرب على الإرهاب”، وهي تسمية “ما بعد حداثية”. وهذه الحرب تماثل تلك التي شنّت على “الشعوب غير المتحضرة” أو “الكفار”، نتيجة خرقهم للقانون الطبيعي. ثمة تحول في القانون الطبيعي هنا، من “ما يدركه أي انسان عاقل”، إلى الوقوف مع الأنظمة الديكتاتورية.

ليس في التبرير الروسي للتدخل العسكري في سوريا أي نكهة إيديولوجية خاصة، فروسيا تسرق التبرير الأميركي، وتوظفه في سياق “الفوبيا الإسلامية” لدى الغرب، والرعب الذي اجتاح القارة العجوز مع وصول أمواج اللاجئين السوريين إليها.

الغريب أن توصيف “الإرهاب”، لدى الرئيس الروسي، يتوقف عند الجماعات المقاتلة للنظام السوري. الإرهاب هنا خاص بالمجموعات، ولا يدرج ضمنه “إرهاب الدولة”. كيف لا، والقوات الروسية، خاضت حرباً عنيفة تسببت بتدمير مدينة غروزني الشيشانية بين العامين 1994-1996، ومن ثم في العام 1999 في حرب داغستان. القوات الروسية استخدمت منطق “الأرض المحروقة”، ومارست “إرهاب الدولة”.

اطلاق صفة “الإرهاب” على مجموعة متنافرة من التشكيلات الإسلامية في سوريا، يهدف إلى التعمية، ووسم الطائفة السنيّة عموماً، بهذا التوصيف. كما يهدف من جهة أخرى، إلى تشريع “إرهاب الدولة” باعتبارها المقاتل “الوحيد” ضد “الشعوب البربرية” التي انتهكت “القانون الطبيعي”.

في الأمر ما يناسب روسيا الحالية الخارجة من أنقاض الحلم السوفياتي. فروسيا بوتين، تحاول اليوم استعادة الأمجاد السابقة، فهي اجتاحت في العام 2008 أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ثم وقفت إلى جانب الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، أثناء الاحتجاجات الشعبية ضده في العام 2013، وحاولت جاهدة إبقاءه في سدة الحكم. وحين هرب يانوكوفيتش، إلى موسكو، تقدمت روسيا عسكرياً، وضمت شبه جزيرة القرم، وفتحت خط جبهة على طول الشرق الأوكراني، معتمدة على سياسة القضم البطيء، ودعم الحركات الانفصالية.

الخطوة الروسية العسكرية المماثلة، في سوريا، جاءت باسم “الدفاع عن الشرعية” و”محاربة الإرهاب”. “الدفاع عن الشرعية” كان مفتاح الرفض الروسي، لجميع مشاريع القوانين في مجلس الأمن الدولي، بخصوص حل سياسي في سوريا.

في نظرة روسيا إلى المشرق العربي، كثير من الاستعلاء، تتشاركه مع إيران الخمينية. في “الدفاع عن الشرعية” المستميت، تتشارك إيران وروسيا وجهة نظر “الممانعة” الرافضة للتغيير الشعبي في سوريا. بل إنهما تنظران إليه من باب التهديد لمصالحهما الاستراتيجية المباشرة، التي تقتضي تدخلاً عسكرياً مباشراً. التناقض بين الرغبة الشعبية والتدخل الخارجي لكسر الحراك، ومنعه من بلوغ غايته في تغيير النظام وتأسيس عقد اجتماعي جديد، ينقل “ممانعة” الطرفين، إلى دور العطالة، المعيقة لحركة التاريخ.

التبرير الروسي، لتدخلها العسكري المباشر في سوريا، هو دعم لـ”إرهاب الدولة” ضد “إرهاب الجماعات”، هو انتصار لغزوات “المؤمنين” لبلاد “الكفار/الإسلام” الذين خرقوا “القوانين الطبيعية” المتمثلة في “شرعية” الدول. وفي العمق، ولإنها لا تحمل هدفاً اقتصادياً أو سياسياً واضحاً، تبدو الغزوة الروسية أشبه بغزوة صليبية، من الميتروبوليس موسكو إلى بلاد الأطراف الدافئة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى