سمير العيطةصفحات سورية

إسرائيل والتدخّل الأجنبيّ في سوريا

سمير عيطة

الانتفاضات والثورات الكبرى لها حُكماً تداعيات جيوستراتيجيّة، إذ أنّها تغيّر جذريّاً موازين القوى التي تقوم عليها العلاقات بين البلدان، تعاوناً أو صراعاً، وتطرح أساساً إمكانيّة انتفاض شعوب البلدان المجاورة ضدّ حكّامها انطلاقاً من الأفكار والآمال والآفاق التي تنفتح أمامها. بالتالي لا تبقى القوى الحاكمة في أيٍّ من الدول مكتوفة الأيدي تجاه الثورات، وتعمل حتّى ضمن القوى المنتفِضة كي تأتي موازين القوى في النهاية لصالحها. هكذا انتهت الثورة الفرنسيّة بحروبٍ مع جميع الدول الأوروبيّة المجاورة التي تداعت لتعيد النظام الملكيّ القديم. كما قادت القوى الاستعماريّة انقلابات وحروباً في البلدان العربيّة المستقلّة حديثاً، كي لا تنتشر آمال الاستقلال إلى مستعمراتها الأخرى.

وقد عرفت البلدان العربيّة في تاريخها الحديث العديد من الثورات، من اليمن وعُمان حتّى الانتفاضات الفلسطينيّة، بل ولبنان. إلاّ أنّ القوى الإقليميّة والكبرى كانت دوماً تتدخّل لإجهاضها أو لتحريفها عن مسارها، بل لبثّ الانقسامات الطائفيّة والعشائريّة ضمنها في حين لم يكتمل فيها بناء المواطنة. إلاّ أنّ الثورة التي قلبت موازين القوى الجيوستراتيجيّة في المنطقة بشكلٍ كبير أتت… من إيران. وانتهت إلى غزو صدّام حسين لهذا البلد بمساعدة جميع دول الخليج والغرب، وإلى حربٍ راح ضحيّتها ملايين العراقيين والإيرانيين [1]. يومها تحوّل الصراع الرئيس في المنطقة من صراع عربي-إسرائيليّ (حول حقوق الفلسطينيين والأراضي المحتلّة) إلى صراع شيعيّ-سنّي (أو صفويّ-وهابيّ كما يقال دون أيّ مضمون له معنى) [2]، وبدل الحريّة والديموقراطيّة والخلاص من أجهزة مخابرات السافاك انتهت الثورة الإيرانيّة إلى حكمٍ باسم الدين والمذهب.

حدثت حينها “قطيعة واضحة clean break” [3] في الأذهان. إذ لم يعد مهمّاً للكثيرين أين تتموضع إيران في الصراع العربي-الإسرائيليّ وأنّها يمكن أن تكون حليفة، بل أضحى الهمّ هو تشيّع هذا أو ذاك وما سيؤدّي ذلك إلى قلبٍ في التوازنات الطائفيّة هنا وهناك (وللسخريّة حتّى في مصر حيث لا يذكر أحدٌ ميراث الدولة الفاطميّة)، وأصبح العراق في ظلّ صدّام حسين البعثيّ العلمانيّ دولةً سنيّة؛ في حين لم يفهم هذا الأخير إلاّ متأخّراً الخديعة التي أوقع بها حتّى انتهى به الأمر إلى رفع شعار “الله أكبر” على علم بلاده في مواجهة… غزوٍ أمريكي. أمّا إيران فلم تنسَ أنّ جميع دول المنطقة قد تأمرت عليها، وبقيت غير قادرة أن تفتح صفحة جديدة مع جيرانها.

“الربيع العربيّ” له أيضاً تداعيات جيوستراتيجيّة كبيرة. والثورة السورية مفترق طريقه، وبالتالي جاءت آلامها ضخمة، تغطّي على عمليّة كبيرة “لقطيعة واضحة” ولخلطٍ للأوراق المحليّة والإقليميّة: نظامٌ لا يرى في الثورة سوى مؤامرة يجب دحرها، وإن كان من يقوم بها أبناء بلده؛ وتحالفٌ بين “ثوّار” ينادون بالحريّة مع أنظمة غير ديموقراطيّة؛ و”ثوّارٌ” آخرون باتوا يبحثون عن إقامة دولة يسود فيها مذهب الأغلبيّة (!)؛ وطوائفٌ وقوميّات تتأرجح بين مخاوفها وطموحاتها؛ وقوى إقليّمية وكبرى لا ترى في الأمر إلاّ كسراً لحلفٍ لنظامٍ مع إيران وحزب الله، في حين لا يرى هؤلاء في الأمر سوى محاولة لإضعافهم في صراعهم مع منافسيهم، خاصّة إسرائيل؛ وتركيا التي تحيي طموحات عثمانيّة؛ وشعب وجيش يقسمّان ويدمّران ببطء.

حين انطلقت الثورة السوريّة، كان هدفها الأوّل هو الإنسان (“الكرامة”) والمواطن (“الشعب السوري واحد”). إلاّ أنّه تمّ أخذها بعيداً، خاصّة منذ أن تمّ دفعها كي تصبح صراعاً عسكريّاً بين جيشين… لبلدٍ واحد، وفي الخلفيّة نزاعاً بين أغلبيّة سنيّة وأقليّة علويّة/شيعيّة. صدح “ثائرون” كي تتدخّل دول أخرى في الصراع، لحظرٍ جويّ أو مناطق عازلة أو لحماية المدنيين، دون وعيٍ أنّ أحداً لن يتدخّل لأنّ المستهدف الرئيس هو الثورة بذاتها فيما فيها من قيم، وكذلك الشعب الذي يحملها ووحدته. بل أتى التدخّل الأجنبيّ حقيقةً في صياغة أشكال معارضة السوريين السياسيّة وفي صراعاتها، وفي عبث المخابرات الأجنبيّة من كلّ طيف، وفي شرذمة المقاومة الشعبيّة وإبعاد إمكانيّات التنظيم السياسي والعسكري عن عملها.

ثمّ أتت إسرائيل مؤخّراً لتدخل طرفاً فيما أصبح اليوم معركةً عسكريّة، قاصفة قلب الجيش السوريّ في عاصمة سيادة البلد؛ كي تصبح الدولة الخارجيّة الوحيدة التي تدخّلت صراحةً. لكنّ المجازر والمآسي والتجييش الطائفيّ قد أحدثا “القطيعة الواضحة”.

المسؤول الأوّل والأخير هو بشّار الأسد الذي أخذ البلاد إلى هذا دفاعاً عن حكمٍ ورثه. ولكنّ مسؤوليّة الثورة والثائرين ومنظّريهم أيضاً كبيرة. فأيّ نصرٍ لثورة قد يبدو لإسرائيل دورٌ في صنعه؟ وما صيغة البلد الذي سيعيش فيه السوريّون بعد ذلك؟ وما شكل المنطقة التي ستكون فيها إسرائيل حليفة “محور سنيّ” ضدّ “هلال شيعيّ”، أو العكس؟

هل سيدفع هذا التدخّل الإسرائيليّ إلى وقفة عند كلّ القوى السوريّة لتدارك الأسوأ، أمّ أنّ “القطيعة الواضحة” قد أخذت كلّ شيء… بما فيها سوريا كوطن لجميع أبنائها؟

* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com

[1] وآلاف الأكراد الذين تمّ التلاعب بطموحاتهم من هذا الطرف أو ذاك.

[2] سمير العيطة: “صدّام زرع خريف الربيع العربيّ”، القبس 6/4/2013.

[3] تقوم نظريّة “القطيعة الواضحة” على تغيير قواعد اللعبة عبر إحداث تغيير جذريّ في الذهنيّات، وقد استخدم التعبير عنواناً لدراسة للمحافظين الجدد الإسرائيليين-الأمريكيين حول كسب الرأي العام المسلم لصالح إسرائيل: A Clean Break, A New Strategy for Securing the Realm.

لوموند ديبلوماتيك النسخة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى