صفحات الرأي

إسعاد الأشرار في نحر الأغيار/ سمير الزبن

 

 

 

كتب أبو البراء النجدي (الداعشي) في نهاية فتوى النحر: “ما كتبته على عجالة من أمري، لكثرة الأشغال، وانشغال البال، تعليماً للجاهل، وتنبيهاً للغافل وإقامة للحجة، ودفعاً للشبهة، والله من وراء القصد”. وليس غريباً على من يتعامل بكل هذه الخفة مع حيوات البشر أن يعنون هكذا فتوى بـ “إسعاد الأخيار في إحياء سنّة نحر الكفار”، ويبدو أن هذه الفتوى شكلت الأساس الفقهي الذي اعتمدته “داعش” في قطع الرقاب وتعليق الرؤوس على الجدران والأسيجة، فالاعتداء على حرمة النفس البشرية، ونحر البشر وفصل رؤوسهم عن أجسادهم، لا يحتاج سوى إلى عجالةٍ من شخص كثير الأشغال، مثل النجدي (لا أحد يعرف ما يشغله؟!). فسلب البشر حياتهم لا يحتاج إلى تروٍّ أو إمعان نظر، فالعجالة تكفي للإفتاء بنحرهم، فلا قيمة للبشر، ولا حرمة لدمهم، قيمتهم بما يُوظفون من أجله، وحياتهم مستباحة عبر أتفه الفتاوى. لذلك، ليس غريباً أن يبدأ العنوان بعبارة “إسعاد الأخيار…”. ولكن، إسعادهم بماذا؟ بـ”نحر الكفار!”.

تأتي السعادة من القتل، حسب مفتي “الدولة الإسلامية”، ولا يقوم به “المجاهد” كرهاً، بل على العكس، فهو يقوم به بكل سعادة وفرح، إرضاءً لله، والسير على خطى رسوله، ويعبّر مجرمو “داعش” الفرحون والسعداء بنحر الرقاب، ووجوههم مكشوفة (أغلبيتهم يقومون بجرائمهم وهم ملثمون)، خير تعبير عن هذه الفتوى. ينفّذون الفتوى بحذافيرها، ويمارسون القتل باعثاً على السعادة، فالنحر حسب النجدي “صورة من صور القتل، ثبت الحث عليه في الكتاب والسنة، وآيات النحر واضحة جلية، في كتاب الله وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم”. هل هناك أوضح من ذلك، النحر استجابة لأوامر الله، والسير على سنة رسوله. وطالما أننا مسلمون، فليس لنا خيار، سوى التزام الأوامر الإلهية، لأن “الشريعة أباحت لنا قتل الأسير، إذا لم تكن هناك مؤثرات أخرى، فكيف الحال إذا كان قتله بجريرة غيره أعظم مصلحةً، وأقوى نكايةً للكفرة، وثأراً لإخواننا القتلى والمضطهدين في كل مكان، وإرعاباً لأعداء الله”، فالأسير لا يقتل بفعله وحسب، بل، يقتل أيضا بجريرة فعل غيره، كما يتحفنا النجدي، هذا ما نص عليه القرآن، ومارسه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.

“حياة البشر أثمن وأقدس من أن تستباح بفتوى معتوه لا يرى في الآخر المختلف معه سوى شاة، يدعو ذبحها إلى السعادة”

إذا كان الأسرى “الكفار” يمكن قتلهم لعلاقتهم بقتال “المسلمين” ومحاربتهم، فهل يقتصر النحر والقتل على المشاركين في القتال؟ يجيب النجدي في فتواه بوضوح، أن كل الكفار محل استباحة، ويجب قتلهم جميعاً أينما كانوا، “أن الأصل في الكافر أنه حلال الدم والمال، ولا يحرّم شيء من ذلك إلا بحكمٍ طارئ، كالعهد والذمة والأمان، كما قال تعالى في سورة التوبة: “فإذا انسلخ الأشهر الحرم، فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم)، فاستباحة “الكافر”، بحياته وماله وقتله واستعباده وتعذيبه هي أصل السلوك مع الآخرين، ولا تتوقف على ظرفٍ معين مثل الحرب، إنما هذه الاستباحة مطلقة في كل زمان ومكان. وليس هذا وحسب، بل يجب الذهاب إلى أقصى الحدود في القتل “فالله جل وعلا أمرنا بإرعاب العدو بكل سبيلٍ مشروع، حتى يهابوا جانبنا، ولا يفكّروا بقتل إخواننا، أو اغتصاب أخواتنا، ونحر الكافر المحارب يرعب العدو أيما إرعاب، وقد يسبّب في انسحابه وهزيمته”. السلوك الوحشي مهما بلغت وحشيته، سلوك مشروع، طالما أنه يلقي الرعب في قلب “الكفار” حتى لو احتاج ذلك إلى تجاوز إلى المحرّمات، كالتمثيل بالجثث. لكن النجدي لا يسلم أن نحر الرؤوس وتعليقها ونقلها تمثيل بالجثث، فهو يقول: “نحن لا نسلم لكم بأن هذه مثلة، وإنما النحر صورة من صور القتل، ثبت الحث عليه في الكتاب والسنة، وآيات النحر واضحة جلية في كتاب الله وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا كان نحر لشاة بالشفرة الحادة يعتبر إحساناً في القتل، فيكون نحر الكافر المحارب بالطريقة نفسها إحساناً في القتل، ومشروعاً من باب أولى، لأن الكافر أسوأ حالاً من الحيوان”.

ورداً على الانتقادات التي تقول إن هذه الممارسات تشوّه صورة الإسلام، يرد النجدي: “أما قولهم إن هذا الفعل يشوّه الإسلام، فنحن لا نترك شيئاً شرعه الله، مهما تكلم الكفار، ومهما استهزأوا”. ويتساءل مستنكراً، بعد كل ما جاء في فتواه عن الدم المستباح للـ “الكفار”، ومدافعاً عن هذه السلوك الوحشي: “هل الذي يلتزم بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بدفع أذى المعتدي هو المخطأ؟!!” (إشارة الاستفهام وإشارتا التعجب في النص الأصلي ـ والمخطئ تركناها كما جاءت في النص الأصلي)

ليس هناك تعريف واحد للفقه عند المذاهب الإسلامية، اعتبره بعضهم مرادفاً للعلم بالشريعة، أي أنه شامل للعلم بالأحكام الثابتة بالنصوص القطعية، أو تلك الثابتة بالطرق الظنية. وبعضهم قصرها على النصوص القطعية، وبعضهم قال: إنه العلم بالأحكام المستفادة عن طريق الاستنباط والاجتهاد، وهناك من قال: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب عن طريق الأدلة التفصيلية. ولكن كل هذه التعريفات تأتي من داخل الفقه نفسه. وإذا أردنا أن نعرّف الفقه من خلال دوره التاريخي وتلوناته، يمكننا القول إنه: أدلجة المصالح دينياً، عبر البحث عن تبريرها الشرعي في النص القرآني والسنة النبوية. ولأن هذا الفقه خدم سلاطين وسلطاتٍ من كل نوع، وفي كل المراحل، فيمكن أن نجد فيه كل شيء ولا شيء، نجد كل الفتاوى المتناقضة، والتي عادت لتستخدم اليوم في ظل حرب الفتاوى بين الفصائل الإسلامية (جهادية وغير جهادية) والسلطات، وتكفير الجميع للجميع. وكأنها حربُ الكل ضد الكل، ما جعل الفتوى تدخل مباشرةً في الصراع السياسي والمسلح، ويتم استخدامها في تبرير جرائم لا يقبل لا عقل ولا دين ولا حس سليم بها، فقه يجتهد في تعميم الدم، بوصفه الحالة الطبيعية للفهم الصحيح للإسلام. إنه “فقه الإرعاب” الذي يرعب المسلمين، قبل أن يرعب “الكفار” إنها الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة (القتل الجماعي والنحر والسبي وبيع النساء والتهجير والاستيلاء على الأموال… إلخ)، وهي تلبس لبوس الدين، اعتقاداً أن نصوصه لا تبرّر جرائمه وحسب، بل وتبرّر وحشيتها أيضاً، وتبرّر قتل الجميع، ما عدا “الفرقة الناجية”، التي هي طبعاً العصابة الضيقة لمجرمي “الدولة الإسلامية” وأمثالهم. ويأتي معتوه منهم، ليكتب فتوى على عجالةٍ ليرد علينا نحن الجاهلين، الغافلين، الذين نعتقد أن حياة البشر أثمن وأقدس من أن تستباح بفتوى معتوه لا يرى في الآخر المختلف معه سوى شاة، يدعو ذبحها إلى السعادة!!

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى