مراجعات كتب

إسقاطات هيرتا مولر وتداعيات الذاكرة/ سعاد عباس

 

 

أثارت هيرتا مولر بنيلها جائزة نوبل للآداب (2009) تساؤلاتٍ عن إشكالية نتاجها الأدبيّ، لجهة لغتها السردية مفرطة الشاعرية، وما تقصُّه عن ذاكرتها كألمانيةٍ ولدت وعاشت في رومانيا تشاوشيسكو، تحت وطأةِ اضطهادٍ مضاعف عبرت عنه في مجموعتها “إسقاطات”، بسرد ذاكرتها الطفلية بلغةٍ مغرقةٍ بكوابيس ماضٍ هجرته إلى ألمانيا. إنها تداعياتُ طفلةٍ هربت ولم تنجُ حقيقةً.

تشدُّ مولر قبضةَ لغتِها القاسيةِ على قارئها، لتسيّرَهُ دون قرارٍ مسبقٍ نحو خلاصٍ غيرِ يقينيّ الحدوث حتى الصفحة الأخيرة، مغطيةً مساحة قريتها بمشهديةٍ صامتة، حيث كلّ كلمةٍ تجعلُ اﻹغماض أصعب، “المكانُ هنا معتمٌ دائماً، والرعشةُ التي تعتريني تتصاعدُ من البلاط، إنه مخيفٌ كسهلٍ واسعٍ من الجليد، لم يعد للسائر رجلان في بدنه لكثرة ما مشى عليها، فاضطرَّ أن يتابع المشيَ على وجهه”.

التفاصيلُ المسرفةُ في طولها وتعقيدها مع بساطةِ ما تصفه، تجعلُ للأشياءِ أشكالاً غيرَ مسبوقة، فالحيواناتُ والأشخاص والمكان مجردُ خلفياتٍ ﻹسقاطات الكاتبة، مساحاتُ الرؤية واسعةٌ، تجعل القارئَ يشردُ في تفاصيل حياةٍ لا تشي بإمكانية التغيير، “وفي الليلِ يأتي الحلمُ من الفناءِ الخلفيّ ويندسُّ في الفراش”. ما قبل العبارة وما بعدها سيرورةُ حياةٍ يوميةٍ تكاد لا تنفصلُ في لاواقعيتها واضطرابِها عن أحلام وكوابيس كاتبتها، ماعدا انقطاع النتيجةِ عن الموتِ الحتميّ، وكأنّ الليل فاصلٌ، تتلاشى بانتهائه أفاعي الكوابيس أمام صفعات الأم، ومكانسِ الجدات، والموت الواقف خارج العتبات، “كنتُ راقدةً في فراشي وشعرت بالسكين على عنقي فتألمت، وأخذ الشقّ يزداد عمقاً، فسخن لحمي وبدأ حلقي يغلي غلياناً، ثم صار الشقُّ أطولَ مني ونما حتى غطى السريرَ بأكملهِ مشتعلاً تحت الدثار ناراً…” تتوالى في الحلم الأشلاءُ الممزقة، ثم يأتي الصحوُ لتستمرَّ الحياةُ في لاجدواها.

شخصيات مولر مسمّرةٌ إلى ذاتها، شاردةٌ بلا ملامح، تترابط بمصادفات المكان والزمان، لا علاقات حقيقية خارج القهر الإنسانيّ المتبادل، ولذلك لا فرق يحدث في مجريات السرد سواء كانت شخصيةُ دوّاسِ الأرغن موجودةً أم لا، خلا الغاية الحقيقية لذِكره، وهي أن شخصاً آخر (فيندل) يرغب أن يصبح دوّاساً، ولا شيء في المخيلة أكثر من رغبة نسخ شخصيةٍ تبدو للطفل (فيندل) أكثر تمايزاً لأن “الدواس يدوس على اللوح وله خواطره في رأسه، وهو يدوس فيبدأ كل الآخرين بالإنشاد، فإذا أمسك… أمسكوا”، وتبدو المنشدات المرددات من حوله مجرد حناجر تنفر عروقها أو تخمد بالغناء. ولأنها طفلة، لا يترك الأشخاص أثرهم في ذاكرتها إلا بما يجسدونه من حالات وقيم. هكذا تُثبت شخصية الأحدب لورنس في القصة أن لا شيء موجود سوى بمقدار ما يُرى، ولذلك حين يكتب لورنس على إحدى الدعائم كلمتي (لورنس-كاتي) “تبقى هذه الكلمة مكتوبة هناك إلى أن تستند إحدى منشدات الكورس بظهرها إليها” ثم يختفي كل شيء.

لا حب في القصص الخمس عشرة، بل حزنٌ غيرُ مدرَكٍ لشخصياتها، فالرجالُ خارج الحانات كرجال الثلج يكرعون الألم واللامبالاة، والنساء “انسللن.. من أسرّتهنّ من أجل البكاء، تناولن الفطور والغداء من أجل البكاء” غادرنَ قسوة الفراغ إلى خشب المنزل الأكثر قسوة مكتسيات بالسواد وبخوف العار الرابض في كل هفوةٍ وخلف كل بابٍ وحتى في مراياهنّ ذاتها. كذلك علاقةُ الطفلة بعائلتها موسومةٌ بالقبح والإدانة، فوالدها قاتلٌ في نظرها لمجرد ذبحه العجل، وهو في القصة الأولى (التأبين) متهمٌ أنه مغتصبٌ ومجرم حرب. ينسحب ذلك على العلاقةِ بالأم والجيران، حتى الجدة تدخل لعبة القتل حين يمتدُّ وصفُها على مدى صفحتين وهي تذبح طيور البط البائسة “الجسدُ المهجور يرتعش عند جليدية القدمين، الموت حاضرٌ، والريش الأبيض ريشُ طيرٍ من جديد، وسيطير الآن”.

لا جماليات بين أعطاف المكان إلا لتأكيد الاغتراب عنه، فحقولُ القرية تتراءى قريبةً، لكنّ بعدها سرابيّ، يجعل بلوغها شديدَ الصعوبة، كأنْ لا نهاية للطريق المغبر إليها”. يأسُ الكاتبةِ من احتمالاتِ الاختلاف يتبدى في وصفها لجسرٍ فولاذيٍ “يسير فوقه القطار إلى السهل نفسه، إلى بلدةٍ أخرى تبدو تماماً كهذه القرية”. وبعيداً عن تفاصيلَ بسيطة، لا تتعدى حياةُ القرية بضعَ مهامٍ مدوّنةٍ على تقويم المطبخ: “البقرة عُشِّرَت، الدجاجةُ أُحضِنَت البيض، التبغُ سُلّم، الخنازيرُ اشْتُريَت”.

تتيح قصص مولر لقارئها متّسعاً في فيلمٍ صامت، تتوالى صورُه قاتمةً لحالاتٍ إنسانيةٍ تكاد لكثافتها وشحوبِ أمكنتها أن تخرجَ من الصفحات لتغمره بشحنات غضبٍ وعار. لا شيء مما يُروى قابلٌ للمس، بل يتلاشى كما بين موتٍ وآخر ببساطةِ جملة “لفظتِ الشمعةُ في رأسِ أبي الأجوف آخرَ أنفاسِها”.

* كاتبة من سورية

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى