صفحات الرأي

إسلامي ومدني!.. كيف ذلك؟


نصري الصايغ

الربيع العربي يستكمل تفتحه. أولى ثماره: الحرية، فلا مستبد ولا استبداد. وباكورة المستبدين: زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي. حدث ما كان لعاقل متزن ورصين ومتابع، أن يتنبأ به.

سقوط الاستبداد الأول في تونس، شبيه بسقوط الباستيل في فرنسا، سقوط الاستبداد الثاني في مصر، شقيق لسقوط حائط برلين، أما الاستبداد الثالث في ليبيا، فنسخة عن سقوط نيقولاي تشاوشسكو في رومانيا وإعدامه.

«الربيع العربي» في كل من تونس ومصر وليبيا، أفضى حتى الآن، عن فوز أو تأهل للفوز، للإسلاميين: حزب النهضة الإسلامي والاخوان المسلمون وما تجمَّع من إسلاميين خلف: دين الدولة، والتشريع الاسلامي. مع ما يعني ذلك من خسارة بعض مكتسبات الحياة المدنية والعلمانية والحريات الفردية، وتحديداً حرية المرأة، وعودة السلطة الدينية إلى بطن السلطة السياسية.

غير ان هذه النتيجة، على فداحتها، ليست مصطنعة، فقد جاءت محمولة إلى الفوز بأصوات الناخبين، في انتخابات حرة وشفافة. أليست هذه أحد التعبيرات الديموقراطية! وجاءت معبرة عن شريحة شعبية، ليست مستوردة من الخارج، بل هي أصيلة ومتأصلة في الواقع العربي، وفي دوله المختلفة، بنسب متفاوتة. وجاءت النتيجة أيضاً مترافقة مع فوز لعلمانيين ويساريين وليبراليين ومستقلين… لم يلغ أحد أحداً بقرار سلطوي أو بقوانين جائرة أو بعزل مسبق.

عندما تتكلم الصناديق بحرية، علينا ان ننحني احتراما لأكثرية الرأي العام.

هذه بضاعتنا. هذه ثقافتنا. هذه هي تنظيماتنا: إسلاميون ولا إسلاميون والأكثرية إسلامية. والردة مستحيلة، ولا تجوز المقارنة بين سلطة يشارك فيها الاسلاميون، وفق أحجامهم، وسلطة استبدادية سابقة، حجمها بقوة قبضتها الأمنية، وشرعيتها بنت السلطة المسروقة.

هذا نحن… لم يترك الاستبداد، على مدى نصف قرن، لا حزباً ولا تجمعاً ولا تياراً ولا نقابة ولا أعلاما ولا شخصيات مستقلة، على قيد الحياة. مسح الأرض العربية من كل معارض أو مشروع معارض. مسح عن وجه السياسة كل من يمكن ان يشكل، يوما ما، مشروع اختلاف، لا مشروع معارضة.

هذا نحن… وما أنتجته صناديق الاقتراع في تونس، وما أسفرت عنه في ليبيا وما قد نجده في مصر مستقبلاً، ليس مستهجنا، ولا هو غريب البتة. واهم من كان يظن أن اليسار والليبراليين والعلمانيين والتقدميين سيكونون في الطليعة.

هذا نحن… استطاع الاسلاميون، لأنهم تنظيم ديني، ولأن امتداداتهم تتخطى الحدود الجغرافية، ولأن مرجعيتهم الدينية، نصا وحديثاً وسيرة وفقهاً ومؤسسات متشعبة، تحفظهم من الذوبان، وتصلبهم في مواقفهم. ان للإسلاميين قوة دعم «إلهية» و«نصية» و«فقهية» ساحقة، لا يتمتع بها علمانيون ومدنيون وليبراليون وناصريون وقوميون… ولهذا السبب، ورغم ما تعرض له الاسلاميون من حملات تنكيل وقمع وقتل، فإنهم استمروا في تكوين حلقات واسعة، والقيام بأنشطة اجتماعية، والدعوة عبر مؤسسات دينية (المساجد) إضافة إلى إنفاق أموال طائلة، مما تيسر لهم من تبرعات سخية، من قوة ودول إسلامية فائضة النفط.

الإسلاميون قادمون.. ولكن.

ليس إسلاميو اليوم، يشبهون إسلاميي الأمس. (أستثني إسلاميي العنف المسلّح). فلا إخوان مصر هم إخوان حسن البنَّا. ولا «النهضة» في تونس، تشبه أيامها الخوالي. أما ليبيا، فإنها تحتاج إلى فترة لتظهير إسلاميتها، لأن ما بدا منها حتى الآن، يثير الضحك كثيراً. إذ من المخجل والمؤسف والمسف ان يكون القرار الأول للثورة هو قانون تعدد الزوجات، والعودة إلى الشريعة الإسلامية… شعب دفع ثمن حريته بدمه، من أجل التخلص من الطاغية، لا يمكن تصوّر خضوعه لطغيان التخلف، هكذا.

الإسلاميون قادمون… ولكن هذه ليست النهاية. الربيع العربي بدأ من خلال تفتح الشباب على حتمية التغيير. شباب الثورة الديموقراطية العربية، لم يكن لديهم برنامج وكانت لديهم قضايا: الحرية، العدالة، الكرامة، العمل، رغيف الخبز… ثاروا على ظلم لا ظلم أشد منه، ولا ديمومة أطول منه. ولما فازوا بفتح الباب أمام التغيير، كانوا قد أعلنوا «أن الشعب يريد إسقاط النظام». وبالتالي: الشعب يقرر طبيعة النظام الجديد.

من هو الشعب؟

قبل الربيع العربي، كان الشعب مغيباً بالقسر والقهر والقوة. الشعب بكل هيئاته وفئاته وأحزابه ونقاباته ومنابره… لم يصادر شباب الثورة الشعب، كما فعلت سلطة الاستبداد. وها هو الشعب يعود إلى الساحة ممثلا بأحزاب دينية وقومية ويسارية وإصلاحية واشتراكية ويسارية. هذا هو الشعب بكامل تياراته (التي كانت مصادرة) يخوض معركة بناء النظام الجديد التي سيرت نظام الاستبداد. وطبيعي ان تكون ثمرة عملية بناء النظام الجديد، بالانتخابات، والاستناد إلى صناديق الاقتراع.

حتى الآن… كل شيء منطقي… ولا شيء من خارج السياق.

يصر كثيرون على التعامل مع القوى التي احتلت مكاناً لها في الحراك العربي، على أساس ماضيها فقط. ويخضع الإخوان المسلمون والقبائل، لتنظير نمطي جامد، يعتبر ان هذه القوى التقليدية، لا تزال على صورتها الأولى، من التعصب والتخلف والتزمت والقيم.

هذه البنى التقليدية، الدينية والقبلية والاثنية، تعرضت لموجات الحداثة. تعرفت إلى العالم بالصوت والصورة. أدركت قيم الديموقراطية والحرية. عرفت ان الأحادية مقتل لها. فهمت أن العنف في معظمه أعمى، لا يصيب إلا الأبرياء وقد يصيب صاحبه. أجرت هذه البنى مصالحة نسبية مع الحداثة وانخرطت فيها: وإلا كيف نفسر السلوك السلمي لقبائل يمنية مسلحة حتى الاسنان؟ وكيف نفهم تطور الإسلاميين ان كان في مصر أو في سوريا أو في تونس، وان كانوا لم يصلوا بعد إلى الدرجة المتقدمة التي بلغها إسلاميو تركيا.

ان الخطأ في التوصيف يقود إلى الخطأ في التقدير وإلى أخطاء في التعامل… وهذا ما يجب ان تتنزه عنه فئات مدنية وعلمانية وليبرالية ومنظمات حقوقية نسائية.

إنما… إلى هنا فقط.

المشوار مع الاسلاميين من الآن فصاعداً، هو مشوار معاكس. من ليس إسلامياً، أكان مسلماً مؤمنا أم مسلماً عادياً أم من غير دين الإسلام، تقع على عاتقه قيادة معركة ديموقراطية يوفرها المجتمع ومناخ الحرية، لتحرير الدولة من كل ما لا يمت إلى مدنيتها بصلة.

المشوار، من الآن فصاعداً، هو كيف تقود معركتك المدنية والعلمانية والليبرالية ضد الاسلاميين، الذين، برغم تغيرهم الكثير، لا يزالون يصرون على اعتبار الدين مرجعية عليا في التشريع. وعلى تنميط المجتمع، وفق وجهات نظر فقهية عتيقة جداً.

يكاد يشبه المشوار النضالي هذا، المشوار الذي مشاه الغرب ضد سلطة الدين الكاثوليكي، في أوروبا. حيث كانت تعتبر نفسها، الكنيسة، المرجع الديني والمرجع السياسي والمرجع القيمي والمرجع التشريعي والمرجع التربوي…

فلنبدأ المشوار ولنقل للإسلامي: أهلا بك.. إنما، لست من أتباع الدولة المدنية، عندما تقول أنا مؤمن بالدولة المدنية بمرجعية إسلامية. لا يجتمع الضدان. مرجعية الدولة المدنية، هي المجتمع المدني. مرجعية التشريع منه للمجتمع المدني. وهذا ينطلق من مكتنزات ما قدمته القيم والتجارب لدى الشعوب: حقوق الإنسان، حقوق الطفل، حقوق المرأة، إلى آخره.

الإسلامي ليس مدنيا… هو من عناصر المجتمع الأهلي. ثم، إن الاسلامي، فئوي، عصبوي، بحكم طبيعته التناسلية. خيارات المدني والعلماني، خيارات عقلية. اتخذها بحرية وتحمل مسؤوليتها. لا خيارات للإسلامي، هو ابن الفراش الزوجي المسلم. ومن نسل مسلم. ومن تربية اسلامية سار عليها وفق ما تعلمها… المدني، ابن نفسه. الاسلامي، ابن آباءٍ كثر، صفوه وصفوا أشباها له، على مر العصور. مع فروقات بسيطة، فرضتها معطيات وظروف، ارتأت فيها المؤسسة الدينية ان تنجب أجيالاً على صورتها ومثالها.

مثال المدني: المستقبل. مثال الإسلامي: الماضي.

ثم ان الاسلامي، يعبر عن إسلاميته من خلال مذهبه الذي لا خيار له في الانتساب اليه، أو يولد منتسباً إلى سنة أو شيعة أو اسماعيلي أو درزي أو… تماماً كالمسيحي السياسي، ينتسب إلى طائفته… وعليه، فكل المنتسبين إلى الدين في السياسة، هم طائفيون وينتج من هذا الانتساب، رد فعل طائفي.

فعلى الإسلامي السياسي ان يعلم ان إسلامه السياسي (السني) يثير ردة فعل إسلامي (شيعي) وردة فعل مسيحي (من مذاهب مختلفة). وقراءة الساحة العربية اليوم، تفصح عن حجم المأساة التي يعيشها الاسلاميون السنة والاسلاميون الشيعة.

المدني يعتبر ان لا دين له في السياسة. وان لا دين له في الثقافة. يغرف معارفه من كل المناهل الدينية والفكرية. لا حرام لديه، إلا ما يحرّمه القانون الوضعي. يتعامل مع أبناء شعبه بالسوية. ان كل واحد هو مواطن فقط. ليس مواطنا سنياً أو مسيحياً. المواطن، عائلته في السياسة وطنه. الاسلامي ـ عائلته في السياسة دينه.

وإن إبقاء هذه الصبغة على الإسلامي، تجعله دائماً أكثرياً. انه يحوز أكثرية بلا جهد. بلا تعب. بلا نضال. هو أكثري بالولادة، تماماً كالقبيلة، كالاثنية. وهذه الأكثرية، ملتحمة، كما قلنا، بما هو فوق بشري. الأوامر إلهية هنا، ومن يعصاها يكفر أو يخرج أو يتزندق.

الخلل الديموقراطي، في الربيع العربي، هو هذا تحديداً. أحزاب دينية، بواجهات مدنية. كذب هذا. دجل ونفاق هذا. لبنان تمرّس فيه. مثلا: إدارات المرئي والمسموع في لبنان، يجب ان تؤلف من مساهمين من مختلف الطوائف. جرى التحايل على القانون، بإضافة أسماء وهمية لمساهمين وهميين، وظلت الغلبة للطائفة. (المنار شيعية. المستقبل سنية. LBC و M.T.V مسيحية) الخ. أما قانون المزج الانتخابي، بحجة العمل على تمتين أواصر الوحدة الوطنية، ومنعا للتطرف الطائفي، فقد أسفر عن وجود نواب مسيحيين في جعبة اللوائح السنية والشيعية. والشواهد الأخرى كثيرة.

الاخوان المسلمون يقبعون خلف حزب باسم آخر، يطعمونه ببعض الأقباط… هذا ليس من شيم الدين وأخلاقه. لا بأس أن نستشهد بالفنان زياد رحباني: «طائفي مع طائفي، ما بيعملوا مواطن، بيعملوا طائفيين».

إن فوز الإسلاميين في الربيع العربي كان مقدراً. لكنه ليس قدراً. ليس أمام القوى العلمانية واليسارية والمدنية والليبرالية والقومية، إلا الاتفاق على الحد الأدنى المطلوب: مدنية الدولة. مرجعية الشعب، استقلالية القوانين عن المرجعيات الدينية، ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة، لأن لديهم مهمات دينية كبرى، على مستوى الروح، كي يتنكبوها ويخدموها.

أمام المدنيين بفئاتهم كافة العمل على مواجهة الانحراف التاريخي، بجعل الاسلام دينا ودولة، كما واجهت القوى الديموقراطية الانحراف المسيحي، عندما جعلوا المسيحية ديناً ودولة.

المسار ما زال في أوله… أفضل ما فيه، مناخ الحرية، وزوال الاستبداد، واحترام الإرادة الشعبية. والبقية تأتي.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى