صفحات الرأي

إسلام الشرع وإسلام الدولة

وضاح شرارة

دعوى الإحياء وحربها على “التنظيم”

[ـ إسلاما الحداثة

أول الإصلاح

في الثالث من تشرين الثاني أبلغ السلطان عبد المجيد الأول سفراء “ممالك” أوروبا في الآستانة ترجمة رسمية عن خط شريف، أو إرادة سلطانية تتمتع حكماً بقوة القانون، عرف بخط كولخانة. ونص الخط على اجراءات تناولت أبواب: ) ضمانات أمن الرعايا على “حياتهم وكرامتهم وأموالهم”، ) إقرار نهج ثابت في احتساب الضرائب وجبايتها، ) انتظام تعبئة الجند وخدمتهم العسكرية ومدة هذه الخدمة. ويسوغ الخط الشريف الإجراء القانوني الموعود بتأملات أو خواطر فلسفية وشخصية، أسلوباً وإنشاء، في مكانة الحياة والكرامة والشرف من خيرات الخلق وعطاياه. ويعلل “العنف” الذي قد يلجأ إليه المرء أو “الإنسان” (رعية الحاكم)، البعيد بطبعه عن العنف، والاذى الذي قد يتعمد إنزاله بـ”الحكومة”، أو الدولة، وبالبلد، أو الوطن، يعللهما بانتهاك حياته وكرامته أو امنه وسلامته. فالخواطر الشخصية والفلسفية تقود إلى السياسة والحكومة من غير إبطاء.

ويقارن السلطان، أو كبار حاشيته وكتّاب خطه، “الإنسان” هذا في حال أمنه على حياته “أمناً تاماً”. فيذهب إلى ان (الإنسان) المطمئن إلى حصانة أمنه وماله لن ينحرف عن سبيل الولاء (للدولة) ولن يألو جهداً في التعاون على ما فيه خير الحكومة و”إخوته”. ويعذر السلطان من يصمون آذانهم من الرعايا عن سماع صوت الحاكم (” الأمير”) و”الوطن”، وهما واحد، وينفضون اليد من الإسهام في “الخير العام”، بانشغالهم بشؤونهم الخاصة وقلقهم جراء ما يتهددها من انتهاك. ويعارض حال المهموم بخاصِّه، والقَلِق على ماله وحياته، بحال “المواطن” الواثق والمطمئن إلى امن ما يملك “من كل نوع”. فيرى أن الأمن يبعث صاحبه على توسيع دائرة “متعه وملذاته” وتلبية حاجاته المتكاثرة، ويحس في صدره تعاظم حبه “للأمير والوطن”، وإخلاصه لبلده، على ما تتوقع نظرية “اليد غير المرئية” الليبرالية البريطانية، من تضافر افعال الافراد على استقرار اسعار السوق العامة على احسن حال. وهذه المشاعر هي جذوة أفعال تستحق المديح والثناء، على ما ذهب اليه كذلك آدم سميث في كتابه الآخر، “نظرية المشاعر الأخلاقية”، الذي أجمع على الثناء عليه أمارتيا سن ووِن جياباو، رئيس الحكومة الصينية لأسابيع خلت.

وأما الضرائب والرسوم فلا غنى للدولة، القائمة بالدفاع عن أراضيها والملزمة به وبـ”خدمات أخرى” عن جبايتها من “رعاياها”. ومنذ اليوم، على كل “عضو (فرد) في المجتمع العثماني” أن يؤدي حصته من الضرائب والرسوم المحتسبة على مقدار ماله وطاقته، على ألا تتجاوز الجباية أبداً المقدار المعلوم. ويقتضي الأمر أن تحدد قوانين خاصة “نفقات جيوشنا براً وبحراً”، وأن تنص على عديد الرجال من كل ناحية وبلد، وعلى تقييد الخدمة العسكرية بـ أو أعوام. وعملاً بالقوانين الجديدة، ولا قوة للسلطنة ولا موارد ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بها، ينبغي منذ اليوم مقاضاة المظنون علناً، وبحسب “الشريعة الالهية”، بعد التحقيق والفحص. وما لم يصدر حكم “نظامي” مستوفي الشروط القانونية، لا يحق لأحد، في السر والعلن، أن ينزل الموت في احد بالسم أو بوسيلة أخرى. ولا يحق لأحد ان ينال من كرامة أحد “كائناً من كان”. وفي وسع الواحد الاطمئنان إلى كل ما يملك، والتصرف به حراً وعلى نحو ما يشاء، من غير ان يعترضه معترض. فلا يحرم ورثة مجرم من حقوقهم المشروعة في الإرث، ولا يصادر مال المجرم. وتشمل “الإنعامات السلطانية”، على معنى نزول السلطان على ما هو حق ثابت له ولمرتبته، “عموم الرعايا”، ولا يستثنى منها أهل دين أو فرقة، على ما نصت “شريعتنا المقدسة”. وغاية هذه “التنظيمات” هي “إحياء الدين والحكومة والأمة والسلطنة”. وقرينة على ذلك تودع في حجرة كسوة النبي الشريفة، ويحضر العلماء والأعيان. ويحظر الإتجار بالحظوة والوظائف والولايات، وهو ما تنهى عنه الشريعة الالهية، وهو (الإتجار) من اعظم الأسباب في “انحطاط السلطنة”.

الخصوصي والعمومي

ولا يحتاج قارئ الخط أو المرسوم العتيد إلى قراءة بين السطور، أو خلفها ووراءها، ليفهم من غير إبهام أو غموض أن مدار الإجراءات والالتزامات، أو “الانعامات”، إنما هو على “تنظيم”، وليس على فكرة أو رأي يوجب المساواة بين الرعايا أو المواطنين، على ما جاء في المتن من غير تمييز أو حتى ترجيح. واللفظة أو الكلمة، “المساواة”، ليست في ديباجة الخط. واللفظة التي تحل محلها هي “العموم”. ويقوم مقامها نفي الاستثناء من الإجراءات كلها: إحصان الحياة (الدماء) والممتلكات (الاموال)، وقلبه أو ترجمته، حقوقاً موجبة ومشروعة، على معنيي الشريعة الدينية وأحكامها، والحق الطبيعي (بحسب ما يخلص إليه النظر العقلاني في السياسة المدنية و”الحكومة” أو الدولة)، و) قوانينَ. والموجبات الجديدة، أو احكام التنظيم، وهي تتناول أمن المواطنين (- الرعايا)، على ترجح وتردد لا تنفك صيغة المرسوم فيهما، وحصانتهم من عدوان “الأمير” (“ولي الأمر”) والحكومة على دمائهم وأبدانهم وكرامتهم، وعلى أموالهم وممتلكاتهم، من طريق المصادرة أو من طريق الجباية. وتترتب المساواة على لجم تعدي السلطة، وتجاوزها حدها، وتقييدها بالقوانين والإقرار بالحقوق. ويبرر السلطان إنعاماته، ونزوله عن حقه في ولاية من غير قيد غير قيد العلماء والأعيان، أي الشريعة والأعراف، بتردي أحوال السلطنة وضعفها، قياساً على ما كانت عليه في زمن فتوحها، وبانحراف بعض رعاياها عن موالاتها، وقعودهم عن خدمتها والإسهام في رخائها. ويتقدم التعويلَ على تجدد القوة والولاء وتعاظم الموارد والجباية، من طريق المساواة وعمومية الحقوق والقوانين، تعليلُ الانحطاط والانكفاء بترك القرآن و”أحكامه العظيمة” و”قوانين السلطنة”، على ما جاء في مقدمة الخط. فالمساواة والعمومية هما (هي) مفتاح انقلاب أو تحويل عمل الفرد، الآمن على نفسه ومِلكه وداره ومعتقده، عوائد عمومية (قوة ورخاءً) على الأمير والحكومة والجماعة، بحسب الاعتقاد الليبرالي السائر. وهذا يشفّ عنه الإلماح الصريح إلى تضافر السعي الفردي في المنافع الخصوصية وثمراتها المشتركة والعامة. فيبلغ العمومي، أو قوة السلطنة ورخاءها، من طريق الخصوصي الآمن والمنصرف إلى تدبير “ملذاته” وطلب غاياته.

ويفترض انقلاب الخصوصي الفردي عمومياً سلطانياً أو حكومياً انفكاك الأفراد من الجماعات، أو الملل والشعوب (الأقوام)، وقيامهم بأنفسهم على شاكلة أصحاب حقوق: في الأمن (على حياتهم الحيوانية العضوية)، وعلى ممتلكاتهم وروابطهم وغاياتهم أو مقاصدهم ومصالحهم وملذاتهم، لقاء ولائهم للسلطان والسلطنة وأدائهم حصتهم العادلة من الضريبة على الثروة وعلى الدم. ويقر السلطان – من باب لا خفاء فيه ولا مواربة، ولكن من غير إلحاح ولا افراط في الادلال بإسلامه وبسند مملكته القرآني، من وجه، والعثماني التركي السلطاني، من وجه آخر. وتكاد هذه المترتبات على أصل المساواة أن تكون معلنة وصريحة، من غير الإسم.

المساواة السياسية والدهرية الفلسفية

وسبق لفقيه و”مؤرخ” مسلم ومصري، هو عبد الرحمن الجبرتي (-)، صاحب عجائب الآثار في التراجم والاخبار ومعاصر نهاية عصر المماليك عن يد بونابرت ومحمد علي باشا الارناؤوطي (الألباني)، أن علم بالمساواة وبلغته الفكرة واللفظة من طريق منشور بالعربية، وزعه على أهل ثغر الاسكندرية وفسطاط القاهرة حين رست مراكبه، في أيلول ، بميناء الأولى، وبلغ العاصمة وأهراماتها بعد أيام من نزوله بر مصر. وكتب بونابرت في منشوره، وهو يدعو المصريين إلى الخروج على حكامهم المماليك، انهم لا يدينون بالطاعة لأحد: “ان جميع الناس متساوون عند الله تعالى”. واحتج لاعتقاد “الفرنساوية” المساواة، ولانتصارهم للمسلمين على دعاة حزبهم من “النصارى”، على قول المنشور، بتنويهه بنزولهم “في رومية الكبرى و(تخريبهم) كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام”. ولم يتأخر رد الجبرتي على المنشور. فعقب عليه مكذباً دعوى المساواة: “هذا كذب وجهل وحماقة، كيف وقد فضل الله بعض (الناس) على بعض، وشهد بذلك أهل السموات والأرض”. وهم طبقتان كبيرتان. ولم يبالِ المدونِّ المسلم بنسبة “التساوي” إلى “الله تعالى”، وليس إلى الطبائع أو إلى المدنية والتعاقد. وهو يعلل حربهم على رومية وحبرها بـ”(مخالفتهم) النصارى والمسلمين، ولم يتمسكوا من الأديان بدين. فتراهم دهرية، معطلون وللمعاد والحشر منكرون، وللنبوة والرسالة جاحدون”. ويختم بنقض جامع على أصل جامع: “عقيدتهم تحكيم العقل وما تستحسنه النفوس بحسب الشهوات، لا يبالون بكشف العورات، يمسحون محل (الغائط) ولو بورقة مكتوبة، ويطأون ما تيسر من النساء، ويحلقون لحاهم وشواربهم معاً، ولا يخلعون نعالهم، ويتمخطون ويبصقون على الفراش”.

فترتسم في مرآة المحاورة المتخيَّلة، والمستأنفة في أعقاب نحو قرنين مديدين من الزمن، بين مدرس علوم الدين برواق الجبرتية والمدوَّن الإخباري الأزهري المصري (-الصومالي) وبين السلطان عبد المجيد، خاقان البرين والبحرين، ووارث ممالك السلاجقة و”ملوك” بني العباس وبني أمية وخلفاء نبي الإسلام ترتسم قسمات إسلامين متباينين أو مختلفين ومتنازعين. وهذان الإسلامان، على وجه العموم والإجمال، هما إسلام “الامة” والجماعة والدين، إسلام الاختلاف والفَرْق والخروج والسنن وإسلام “الدولة” والسياسة والمشترك و”الدنيا”. ولا يغفل، أو ينبغي ألا يَغفل الاختصارُ هذا، وتنميطه الجهتين والقطبين، عن استدخال الجهةِ الجهةَ الاخرى، وتشاركهما، في أوقات كثيرة، وعلى مقادير متفاوتة، أحوالاً متقاربة إذا لم تكن واحدة. ولكن التحفظ هذا لا يميِّع، على ما يقال، ولا ينبغي له أن يميِّع توجه الإسلاميين على وجهين أو منقلبين هما، في لغتنا المعاصرة، منقلب المجتمع ومنقلب الدولة، وما بينهما من فرق واشتراك.

فتلهج المقالة الجبرتية، العامية الشعبية و”التحتية”، بما لن تنفك دعوات الدعاة المسلمين “الإسلاميين” (على معنى أبي موسى الأشعري، أي أصحاب المقالات والنظر والكلام) عن التنديد به والرد عليه ونقضه، وإبراز الخلاف فيه بين الإسلام وبين عقائد غير المسلمين من “الفرنسيس” وغيرهم من أمم الفرنج. ويحمل شيخ علوم الدين الازهري الاخباري الفرق والخلاف على كل شيء: على ترتيب صورة الخلق والمفاضلة بين مراتبه، وعلى خلق العالم وقدمه أو حدوثه، والعقل والنقل، والاباحة والنهي، والأخلاق والأعراف، ورسوم الاجتماع والسنن والعادات، وعلى أحكام الفقه في أبواب الطهارة والنجاسة والنكاح والوطء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… إلى أبواب أخرى مضمرة أوكل الحكم فيها إلى أعراف متعارفة ولا تحتاج إلى نص وتخصيص.

سلسلة الإحيائيين: إغفال الدولة ومفاجأة الحكم

فالفرق والخلاف، على هذا، يؤذنان بما تسميه رطانة العصر “صدام حضارات” أو “حرب حضارات”. وهما يحملان حملاً على خطابة إنكار وطعن وثلب لا توسط فيها ولا هوادة. وذرية هذه الخطابة، إلى يومنا، هي قمم الإحياء الإسلامي، على ما يسمى ويقال فيه. وحلقاته المتصلة تبدو متماسكة: من “رد” السيد (جمال الدين الافغاني “على الدهرية” ()، وتوحيده التنويرَ والثورة السياسية والمساواة الديموقراطية في “الدهرية” العقلانية الآيلة إلى وهن الأمم العلمانية وانكسارها أمام الأمم “المتدينة”؛ ومن بعثِ الشيخ حسن البنا الأمر بالمعروف وعلى الخصوص النهي عن المنكر البريطاني والغربي وفشوه في المستعمرة المصرية ومدن قنالها، على طريق تجديد صبغ المجتمع بصبغة الإسلام (الأسلمة) الاجتماعية واستئناف رسو مجتمعات المسلمين وبلادهم و”الأمة” على أركان الدعوة وأحكامها في العقائد أو المعاملات؛ إلى تصوير شكيب ارسلان “تأخر” المسلمين عن الغرب وتوهمهم ان الإسلام هو السبب في تأخرهم، في صورة “موتهم” وتبددهم عن وجه الأرض؛ وإلى تبديع سيد قطب، على خطى استاذه المودودي الباكستاني، جاهلية التشريع العقلي الطبيعي والوضعي ودهريته الدنيوية والزمنية التي تحل محل المقاصد الالهية غايات بشرية وضيعة ومنحلة؛ ونبذِ روح الله خميني من الإسلام وتاريخ المسلمين آثار “المُلك” و”عبادة الاصنام” وتحكيم المسلمين إراداتهم ورأيهم في “الشأن العظيم” أو الإمامة، وهذه الآثار هي معظم هذا التاريخ على ما يرى فقيه قم، وحلِّه العبادة والدين في سياسة الدولة أو السلطنة وإمامهاوحربها على “الطاغوت”؛ واستنفار علي شرعتي روح الثورة الكامنة على الاستعمار والجبرية والظلم وأغلالها، وتوحيد كل تاريخ غير تاريخ الثورات والخروج في الظلم الصريح ومهادنته؛ وإصلاء أسامة بن لادن “الصليبيين واليهود”، وصنائعهم الغالبين على العالم الحديث والمعاصر، جهاداً مدمراً ومُثْخناً في الأرض…

وجمعُ هؤلاء، ومريديهم وفِرَق المريد والمجتهدين، في باب واحد أو حلقات سلسة متصلة لا يخلو من التعسف والغرض. وبعض هؤلاء قاتل بعضهم بعضاً، وخالف واحدهم معظمهم، وبعضهم ربما لم يبالِ بالآخرين، ولم يَعْنِه ولا أهمَّه ما قالوا ولا الرد عليهم. وهذا وغيره مثله صحيح، ولكنه لا يَنقض علة الجمع التي مرت، وسوغت تسويغاً خطابياً نسبتهم أو جمعهم على نسب واحد يصلهم، على سبيل القص “العائلي” وليس النوعي (على قول فيتغينشتاين)، بمدرس علوم الدين المصري الأزهري ومعاصر الحملة الفرنسية على مصر واستيلاء محمد علي باشا على مصر. فالقاسم المشترك والمتصل بين هؤلاء جميعاً وأمثالهم هو حملهم الإسلام على دين دعوة عامة وكلية تنفي ما عداها وينفيها ما عداها، ولا تشترك مع ما ومن عداها في عموم أو عمومية جامعة. فالحرب هي ميزان العلاقة الوحيد بالدهريين والعقلانيين والإباحيين الشهوانيين. و”الإصلاح” الوحيد المعقول، والحال هذه، وعلى افتراض معنى للكلمة، هو الثبات والرسوخ في الإسلام وفضله، وفي خلافه مع “الديانات” أو المذاهب والعقائد غير الإسلامية. فالإسلام هو نفسه، ولا يجوز أن يبعَّض (أبعاضاً وأجزاءً) ولا أن يقارن بغيره، ولا أن يقاس عليه. والإحياء من داخل هو التجدد الذي يغرف من معين الأصل، ويطرح الدخيل والهجين. ومقالات الدعاة هؤلاء وخطابتهم، في معظمها، هي مقالات جَرح، على قول علماء الحديث والرجال المحِّدثين، وتجوير وتبديع وتفريق وحرابة، مادية أو معنوية.

ولا صورة في مقالات الدعاة “للدولة”، أو للسلطة، ولا لمجتمع الجماعات والأقوام والطبقات، ولا لعلاقة هذا بتلك ونزاعهما وتعالقهما. والسكوت عن المسألة السياسية، على معنى نظام إعمال السلطة في الاجتماع وتصريف القوة والأمر فيه، وفي التأليف بين جماعاته وحدود الإعمال وسبل تقييده وموازنته، السكوت هذا من خصائص الدعاة وفرقهم وأحزابهم وجمعياتهم. وانقلابهم من الدعوة إلى الحكم، أو من المعارضة إلى الحكومة، على ما يحصل تحت أنظارنا اليوم، وعلى ما حصل قبل ثلاثة عقود وبعض العقد في إيران، يباغت (وباغت) حركات الدعاة وفرقهم، ويمتحن (وامتحن) مزاعمهم الإسلامية في قيام الأمة بنفسها وبوحدتها من غير حاجة إلى هيئات منفصلة ومقيدة ومركبة. ويفاقم نتائج السكوت السالبة أن الأمم والشعوب والأقوام التي توصف بالإسلامية، وتُدرج في كيان مثالي وحضاري واحد، من جماعات وأقوام وبلاد وطبقات اجتماعية مؤتلفة أو مركبة ومصالح متنازعة. وغالباً ما حُكمت الأمم والشعوب والأقوام هذه في إطار امبراطوريات أو سلطنات ائتلافية (كونفيديرالية) أو اتحادية (فيديرالية) قيَّد استقلال جماعاتها الأهلية والعصبية الذاتي سلطة “المركز”، و”أهل” المركز الغالبين، وحدَّه ووازنه وردعه. فالسكوت عن المسألة السياسية في صورة الدولة أو “الامبراطورية” السلطنة المركبة، الكونفيديرالية أو الفيديرالية، بذريعة حل الجماعات والأقوام والمذاهب و”الأعمال” في فكرة الإسلام ورسومه التاريخية الموروثة، يوقع فرق الدعاة المستولية، حين خروجها من مقالات التجريح والتبديع ومغادرتها الاحتجاج والإنكار العاميين والكليين، في أحوال خُلف أو تناقض لا تحصى. فتباشر السلطةَ والحكومةَ على شاكلة أفعال قوة وأمر واقع فظة وتحمل انتدابها أو انتخابها الجزئي والظرفي والمقيد على تكليف وتوكيل مطلقين. وتنسب الفروق والخلافات والتباينات إلى عقائد و”ديانات” أهلية ومتحاربة، والى خارج متربص وعدواني.

والحق ان الدعاة وفرقهم وأنصارهم، على شاكلة عبد الرحمن الجبرتي (القصصي والمجازي) لا يصدرون عن “أعيان”، أي عن مصالح متعينة، ومسؤوليات أو تبعات معروفة أو مقدرة، ولا عن وسائل وآلات وقوى متاحة. فهم، على ما يقولون في أنفسهم، لسان حال كيان مثالي (متخيل) منكفئ على عاداته وسننه ومعاييره ومراتبه. وهم يعولون على تجدد الداخل وانبعاثه التلقائي على صورته الحرفية والدعاوية، وينيطون التجدد والانبعاث، والقوة القاهرة والموعودة ثمرتهما، بالاستماتة المعنوية والمادية في إنكار السياسة. فهم إما يحلونها في ثلب النساء الحاسرات، والنعي على “كشف العورات” والوجوه والأجساد، والطعن على “حلق اللحى والشوارب معاً”، وفي الفتوى باستحسان قسر المرأة على مضاجعة زوجها شرعاً، وبجواز إرضاع الكبير والزواج العرفي والمتعة من الصغيرة والكبيرة، والتنديد بالسخرية والضحك… أو يحلونها في القوة الماحقة، وخدمتها التمكين والسلطان إلى قيام الساعة. فالوجهان يحيلان جهاز الدعاة إلى نقابة مقاومة حِرَفية تختص شعبة منها بأحكام ما سماه خميني “فقه الحيض والنفاس”، وتختص الثانية بالقنبلة الذرية كناية عن سلطان الحياة والموت. فإحياء إسلام أحكام العبادات و”الأحوال الشخصية” وأحوال المرأة على الخصوص، وبعض المعاملات الفارقة مثل الفائدة والحسم على الودائع والاستثمارات والاستعمال، يقود إلى نصب هذا الإسلام علماً على الرابطة أو اللحمة التي تتماسك بها جماعة المسلمين السياسية أو أمتهم الواحدة، على قولهم. وتنديد روح الله خميني باقتصار بعض فقهاء الإمامية على أحكام “فقه الحيض والنفاس” ودعوته فقهاء المسلمين إلى القتال والموت في سبيل الإمامة والولاية على الناس وانتزاع السلطة من أيدي “الطاغوت” غير المسلم، لا يخرجه من باب هؤلاء الفقهاء، ولا يدخله في باب سياسة الدولة. وهو لم يستقر، ورهطه، على رأس الدولة الايرانية إلا من طريق الحرب الأهلية البوليسية، والحرب الخارجية الإقليمية والدولية، والنفخ في النزاعات المذهبية الباردة أو الحارة داخل إيران وخارجها. و”جمعيات” الإخوانيين في تونس ومصر وليبيا، في انتظار السودان واليمن وسوريا وغيرها ربما، قرينة متجددة على الإسلام النقابي في شقيه، الشرعي والسياسي.

[ـ موجبات “التنظيم”

الإصلاح الثاني

وبينما مضت الدعوات الاحيائية، الفكرية والحزبية والعسكرية (الجهادية) المتفرعة عنها، على تعبئتها وتجريحها ونقابيتها الشرعية ومرتبيتها، تدرجت السياسات التنظيمية على طريق التوسع في تناول المسائل الإدارية والمالية والعسكرية والقانونية التي تعترض إجماع الرعايا على رابطة عثمانية، سلطانية وأهلية وأسرية وشعبية، على قول غيب وبوون مؤرخَّيْ السلطنة، يشتركون فيها سواسية. والتفكير السياسي التنظيمي مداره ومبناه على دوام الدولة وتماسكها وقوتها، وعلى مكانتها في بيئة دول. وهو لا يسعه الاستغراق في الإنكار والجرح، ولا في نشدان التحام الرعية (المركبة) على شريعة العلماء وأحكام فقههم، إذا شاء دوام الدولة، ومعالجة أزماتها، سلطةً حاكمة وجماعات محكومين. وبسطت التنظيمات السياسية (والمالية والعسكرية والقانونية) اللاحقة ما كان بعضه مضمراً في الخط الإصلاحي الأول. فتناول خط شباط على وجه التفصيل والتعيين ما بقي مجملاً في سابقه. فسمى في بنده الأول، من بنداً، ما عناه بالمساواة قبل عاماً: المساواة بين رعايا السلطنة، على اختلاف طبقاتهم ( أي مكاناتهم وأعراقهم) ومللهم، في الأمن على أنفسهم وممتلكاتهم وكرامتهم.

وجدد البند الثاني تعهد السلطان ضمان أسلافه حقوق الملل أو الطوائف “النصرانية” وغير المسيحية المقيمة “في سلطنتنا”. وتناول الحقوق في انتخاب البطاركة والمتروبوليت والوكلاء والاساقفة، والاعتراف ببراءات التعيين والتثبيت، وإدارة الاملاك، وحرية بناء “اماكن العبادة” والمدارس والمستشفيات والجبانات وترميمها. ويتصدى البند السابع، من غير مواربة، إلى مسألة تمييز الطبقات والملل والأعراف واللغات، بعضها من بعض، وترتيبها على مراتب متفاوتة في اثناء الاحتفالات العامة والمراسم والتعيينات الإدارية، فيصرح بحظرها. ويخلص إلى إباحة حرية الاديان والشعائر، ومنع الإكراه على تغيير الدين، فإلى إلغاء التمييز في التعليم المدني والعسكري. ويسوي البند بين المسلمين والمسيحيين وغير المسلمين عموماً في الضريبة والولايات (الوظائف)، ويبني المساواة في الولايات والتجنيد على المساواة في الضريبة. ويعد البند الأخير بتقويم سبل جباية الضرائب، ويخص الفردة (على الرأس) بالتنويه، وبإحلال الجباية المباشرة محل الالتزام في مرافق الدولة كلها.

عود الرأي العام على الدولة

وبعد عامين، صدر قانون الطابو أو الملكية العقارية والزراعية العثماني. ولابست تطبيقه مظالم كثيرة. ولكنه أقر عدداً كبيراً من المزارعين الشركاء والفلاحين على مِلكهم أرضهم، واستثمارها آمنين، وتوريثهم أولادهم ما تملكوه. وأسهم في احتساب الضريبة على الأرض على معايير معروفة ومعلنة. وولدت الإدارة الجديدة في غضون عقد واحد من السنين () معارضتها الإصلاحية و”نواة العثمانيين الجدد” و”الأفكار العمومية”، على ما سمى أصحاب نامق كمال الرأي العام الوليد. فكتب الأمير مصطفى فاضل باشا، أخو الخديوي المصري اسماعيل وأحد أعيان استانبول والسلطنة، من باريس كتاباً إلى السلطان عبد العزيز والى نابليون الثالث، نشرته صحيفة “ليبرتيه”. والأمير كتب كتابه باسم أصحاب نامق كمال. فانتقد التنظيمات متذرعاً برغبته في “مداواة” الدولة من عللها. ورأى ان انتفاضات الشعوب المسيحية في البلدان التي فتحها العثمانيون على السلطنة هي من عمل أعداء الخارج في المرتبة الأولى. ولكنها، من وجه آخر، “عَرَض حال عامة” تصيب شعوب السلطنة وأقوامها من “كل عرق ودين”. وتبعة الاستبداد والجهل والفقر والفساد يتحملها “نظام حكم” يفتقر اليوم إلى ما ربما سوغه بالأمس. وأوروبا تخطئ الظن والتقدير حين تحسب ان المسيحيين وحدهم يسامون الخضوع والتعسف والإذلال والألم في تركيا. فالمسلمون يُصادَرون وتلوى رقابهم فوق ما يُصنع بغير المحمديين. وتمنعهم كبرياؤهم، وتعظيمهم العرش، واشتراكهم مع أسرة السلطان في دم واحد، وإسلامهم، من الثورة. وحكمهم بسنة بلاد الفتوح يكسر شوكتهم، ويميت عزة نفوسهم، ويدعو الموظفين إلى الاستقلال بدوائر نفوذهم وولاياتهم و”أكلها”. ولا يسع السلطان العلم بما يفعله ولاة السؤ في المواطنين لأن تركيا تفتقر إلى “أفكار عمومية”، والموظفين لا يدينون بالمسؤولية لا للرأي العام ولا للسلطان. وتتمتع طبقة المستبدين ، في ملل السلطنة كلها، بسلطة لا قيد لها، مثالها السلطة التي يتمتع بها السلطان. والرعايا المحكومون يحط بهم الاستبداد إلى ادنى درجات الفساد الأخلاقي والجبن والانهيار المعنوي والروحي. فلا يبالون بجهلهم ولا بحقوقهم. وتشكو خزينة السلطان الضمور لأن الضريبة تجبى من اعنف الطرق، والسكان لا يعملون، وهم غارقون في الجهل والفقر. وعلى خلاف مزاعم أوروبا في تسليم “عرقنا وديننا”، وقدريتهما، النظام السياسي هو السبب الأول في انصرافنا عن مباشرة الصناعة والانتاج والاستثمار. فالحرية وحدها هي الأرض التي تثمر فيها الصناعات والفنون والعلوم. والدستور الذي ينص على المساواة التامة في الحقوق والواجبات بين المسلمين والمسيحيين ويقيد الاستبداد هو ضمان هذه الحرية، ورادع دول أوروبا عن التدخل في شؤوننا…

وعلى رغم انتقاد الكِتاب “التنظيمات” انتقاداً مزدوجاً: – فهي لم تف بوعودها (في) الإصلاح وتقييد يد السلطان المطلقة، وعممت الفساد على الموظفين والجهاز التنفيذي وصغار الأعيان المحليين (وهذا ما سماه برنارد لويس “طبقة الملتزمين”) فهو يستلهم روحَ “التنظيمات”، إذا جازت العبارة، ونازعها إلى محاسبة الوقائع السياسية والاجتماعية والعسكرية في ضوء مقدماتها وإيظافها ونتائجها، وليس في ضوء ماهياتها المفترضة وخروجها عليها. فينعي عليها انحرافها الفادح عن المساواة، وتعميقها التفاوت بين طبقتي المتنفذين والمنقادين في الجماعات والأقوام العثمانية كلها. ويحملها التبعة عن تخلي العامة و”طبقة” المحكومين عن تقييد المتنفذين والطفيليين الجدد بواسطة الرأي العام، وعن عزوفها هي عن حلفها، حلف “الأمير”، مع العامة، وإعماله في ضبط الكبراء ولجم ميولهم إلى الاستقلال بعصبياتهم ومصالحهم والثورة على الدولة “المشتركة” وتجزئتها. والدستور هو شرعة عمل هذا البنيان المعقد الذي يحاكي تعقيد الأبنية الاجتماعية الفعلية. ولا تستقيم حكومة أو إدارة سياسية إذا هي لم تحتسب كثرة المصادر والمصالح والمقاصد، واختلافها ومنازعاتها، وإذا هي لم تحرص على موازنتها بعضها ببعض، وحملها على الرضا بالتحكيم في خلافاتها، ودمجها كلها ما أمكن في مؤسسات الدولة وهيئاتها، من غير إبطال واحدة الاخرى باسم معيار يعلو العقد الدستوري ويفوقه قوة نفاذ وترجيح.

وإرادة خير الدين التونسي (-)، المملوك المولى و”الجنرال” والوزير الأول (بتونس) والصدر الأعظم (باستانبول)، استلهامَ الشورى والمشورة والخلافة الراشدة وطلبها إلى الرعية تقويم تدبير الخلافة ولو بالسيف والسيرَ على هدي الفقه “السياسي- الديني” في الإمامة، على قوله، لم تحل هذه الارادة بين رجل الدولة والسياسة المسلم وبين الاحتجاج القوي لتقييد سلطان “الإمام” بما يحار خير الدين في تسميته: “تنظيمات” وهيئات ومجالس و”معارضة” حكيمة وأهل مشورة متنورين وصحافة… فهؤلاء كلهم، وهذه كلها، يقصد بهم وبها إخراج قوة الأمر، ومن يتولونها ويتصرفون بها، من استبداد الواحد الخاص والمطلق اليد فيها إلى نظام مركب يُلزم وليَّ الأمر، فرداً أو طبقة من الناس، باقتسام النظر في الشؤون والمصالح العامة والمشتركة، وبتها، ومراقبة سياستها وتدبيرها وعوائدها وأداء الحساب عن أعمال الحكومة. وعلى هذا، فمسألة السياسة إجرائية، على رغم جوهرية قضية العدالة. وموضوع “التنظيمات”، أو الهيئات التمثيلية والرقابية والمشاركة والمبطلة، هو إرساء اقتسام قوة الأمر، على وجوهه ومراحله، على الإلزام. ومفارقة هذا الإلزام هي أنه يصدر عن تعاقد أو تعاهد هو الدستور. وبموجب الدستور، وإلزامه، يسع “عبداً أجدع”، على كناية تنسب إلى الحديث ويؤوَّلها المولى السابق عبودية للأهواء والجهل، ولاية السلطة ووراثتها وتوريثها. فالدستور وتقسيمه السلطة ومصدرها على العموم، هو علاج الاستبداد وتعسفه، ودواء المصادفة وعماها وخبطها. والإسلام، في معرض احتجاج التونسي لقسمة السلطة وإرسائها على ركني الايجاب والقيد عليه، يدعو رجل الدولة إلى تسويغ تقسيم السلطة وإبطال وحدانية ولايتها. فهو من موارد الإلزام بالعقد الدستوري ودواعيه، على نحو ما هو مصدر من مصادر المثالات التاريخية التي يحمل ألقُها على طلب الاقتداء بها واستلهامها. وفي الحالين، لا يطلب صاحب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك () من الإسلام، وتاريخه، وتراثه، أحكاماً بعينها أو مضامين تتعدى المعاني الأخلاقية وتحسين المثالات المقترحة على من يدينون بالإسلام.

ويندرج رجل الدولة التونسي، والعثماني من قبل وبعد، في السياقة “التنظيمية” الإصلاحية من وجوه جلية وبيّنة لعل أبرزها حمل السياسة على تدبير السلطة وآثارها في بنيان الدولة، وعلاقات جماعاتها وطبقاتها بعضها ببعض، وفي مواردها واقتسام هذه الموارد وتجديدها. وهو يتصل بالتراث

لمحدث والقريب، ويمهد لحلقات آتية ووشيكة، الدستور العثماني الأول (في ) أعلاها مكانة. وتنص مواد إساسية في الدستور على خلافة السلطان، وتنسب ولايته إلى العناية الالهية وتحوط شخصه بها وترفعه فوق مرتبة العالمين. وهذه عودة على “لاهوت” سياسي تخفف منها الإسلام السياسي، التنظيمي والإصلاحي، ولم تعرفه المقالات المعروفة والرائجة في “فن” الحكم وتسييره. ولكن الدستور العثماني الأول، وهو اقتصر عمره على شهراً ونصف الشهر، استأنف في فذلكته، أو الكتاب الذي كلف السلطان بموجبه مدحت باشا، الصدر الأعظم، نشر الدستور، وفي عدد من مواده نهجَ التنظيم. فأقر بضعف السلطنة وأفولها، ونفى مسؤولية الخارج عن الأفول وأقر بمسؤولية فساد السياسة وخسارة ثقة الرعية، عنه. وجدد تعهد أمن الرعايا على أنفسهم وممتلكاتهم وكرامتهم، ورفعها إلى مرتبة الحقوق، شأن مساواة الملل والجماعات في العدالة والحرية وحصانة مصالحها. ومدح التنظيمات التي باشرها السلطان عبد المجيد، والد السلطان الخليفة عبد الحميد، ونصب والده راعياً للدستور، وملهماً له. وأرسى “القانون العام”، وهو اسم السياسة الجديد، على “نظام شوروي ودستوري” يقتضي، بدوره، انشاء برلمان. وعهد إلى البرلمان، والدستور في عهدته، بالسهر على تقسيم السلطات، ومساواة العثمانيين السياسية والمدنية أمام القانون، ومراقبة الوزراء والولاة (الموظفين)، وحفظ استقلال القضاء، والسعي في توازن المالية العامة، وتحقيق اللامركزية الإدارية في الولايات من غير التفريط بقوة قرار الحكومة المركزية.

ذرية “التنظيمات”

والدستور العثماني الأول ليس خاتمة مطاف الإسلام السياسي أو إسلام التنظيمات وحركته. فهو حلقة من حلقات بداياته. والحركة التنظيمية لم تستمر وحسب، بل كانت محرك قوى سياسية فاعلة، بعضها تولى قيادة دول وطنية في ظروف اختلفت اختلافاً عميقاً عن تلك التي شهدت خطوات “التنظيمات” الأولى، وبعضها أسهم، في صفوف الحركات السياسية الاستقلالية ثم في إطار الحياة البرلمانية والوطنية اللاحقة، في اقتراح أو إقرار إجراءات إصلاحية في ميادين متفرقة. وقد تكون حركة الإتحاديين العثمانية وليدة الحركة التنظيمية الأقرب والأقوى نسباً بها. والحركة الدستورية الإيرانية نسبت نفسها إليها. والحركة الكمالية الأتاتوركية تتحدر من الحركة التنظيمية السياسية. وترددت اصداؤها القوية في سياسة رضا ميرزا (بهلوي)، ومحمد مصدق. وأثرت أثراً عميقاً في القادة السياسيين، العرب والمسلمين، الذين سعوا في بناء دول وطنية متماسكة مثل سعد زغلول وجمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة، وغيرهم، قبل أن تذرر رياح التوسع والنزعات الامبراطورية أو السلطانية بنيان دولهم. وعلى حين اخفقت تيارات إسلام الدعوة والشرع والهوية، في السلطنة نفسها ثم تركيا وفي ولايات السلطنة السابقة بعد استقلالها، في انشاء كيانات سياسية، أو في مد هذه الكيانات، حين نشأتها أو بعدها، بحركات سياسية داخلية فاعلة أدت دوراً في إغناء هذه الكيانات، أخفقت حركات إسلام الدعوة والشرع والهوية في ما ندبت نفسها له: من مقاومة تسلط قوى استعمارية على بلادها إلى إصلاح الكيانات السياسية التي نشأت وتمكنت. وفي رأس ما أخفقت فيه هو إرساء معارضة فاعلة في قلب دول هذه الكيانات. وفي الأحوال كلها، مضى إسلام الدعوة وحركاته، وهي لم تلبث ان استولت على “الإسلام كله”، على تفريق مجتمعات المسلمين ودولهم، وترتيبهم على مرتبتين أو طبقتين من العسير جمعهما في كيان سياسي ووطني مشترك. وتولى إسلام الشرع التفريق أو الترتيب هذا. وتوسلت حركاته بالتفريق والترتيب إلى إرساء العلاقة أو الآصرة السياسية على هوية جوهرية توجب التكتل الجميعي ودمج وجوه الاجتماع في ترتيب واحد، كما توجب تقدم الكل على أجزائه، ونفي الشقاق والنزاع منه، وحلول هذا الكل في إنسان وإسم ووجه ينهض علماً على الجماعة وانتخابها أو اصطفائها ويترأس “دولتها”.

أهل الدعوة

فإسلام الدعوة والهوية المعاصر مرتبي ونخبوي، من وجه، يرتب جماعات المجتمع الوطني على مراتب يتصدرها، ويحكمه من وجه آخر نازع كلي أو كلياني إلى االإحاطة المعيارية بجهات الوجود الاجتماعي كلها. وهو يصدر عن فئات ودوائر اجتماعية ضعيفة (أهل الضعف، على تسمية عربية وإسلامية عباسية) وهامشية، فاقمت السيطرة الرأسمالية طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ضعفها وهامشيتها، وليس فقرها وحسب. فأحكام الشرع في الشعائر والعبادات و”الأحوال الشخصية” وأعراف الجماعة الأهلية، المهنية والمحلية والقرابية إلى المذهبية، الملتبسة التباساً حميماً ووثيقاً بأحكام الشعائر والعبادات، هي (معاً) معظم هويتها وشارات هذه الهوية. فيجمع “نقابيو” الإسلام الشرعي والعرفي، ومحترفو دعوته، رغبة أهل الضعف في ألا يُقهروا، على قول ميكيافيلي، إلى خوفهم الشديد من خسارة شارات اعتقادهم ومُسكتهم ولحمتهم واصطفائهم. وذلك تحت وطأة السيطرة الأوروبية، “الصليبية” أو النصرانية وقياساً على انخراط فئات محلية، بعضها من غير المسلمين وشطرها الآخر من الميسورين، في سيرورتي الارتقاء الاجتماعي والفتور الديني.

واضطلع حلف الدعاة المعممين والمتعلمين المتفقهين والمهنيين الجامعيين المهاجرين (“المستلبين”) مع عوام المهجرين والنازحين والمتساقطين من الأبنية الأهلية المضطربة والممتحنة، بمعارضة الدولة الوطنية والخليط الأهلي والاجتماعي الذي غلب عليها، وتسلط على مجتمعها، وغلب على أبنيته السياسية المحدثة والدستورية غلبة ثقيلة في معظم الأحيان. واتخذ الخليط الأهلي والاجتماعي الغالب من السيطرة الاجنبية متكأ وسنداً، على نحو ما توسلت السيطرة الاجنبية به إلى دوامها واستقرارها ولباسها حلة قانونية ومشروعة. ولم يسعَ الخليط الغالب في توسيع قاعدته الاجتماعية والسياسية، من طريق ضم الفئات العامية والمدينية المتعاظمة إلى أجهزة الحكم وليس الإدارة وحسب، وهو حسب أنه لا يحتاج إلى هذا التوسيع. فيممت الفئات العامية شطر الحركات “القومية”، والتيارات المنظمة والانقلابية. وتبددت دستورية الحركات السياسية الإصلاحية والوطنية التنظيمية في لغو حركي وذاتي لا يقل صورية وحَرْفية عن نظيره أو صنوه الإسلامي.

فاستقرت النزاعات السياسية والاجتماعية و”الثقافية” في المجتمعات والدول الوطنية العربية على الأركان المتخلخلة هذه: خليط أهلي واجتماعي حاكم في إطار أبنية دولة انتقلت السيطرة عليها، وعلى مجتمعها من حلف جماعات أو طبقات ريعية رقيقة إلى “جيوش” من الموظفين العاميين والريعيين يترجح تعريف تكتلها السياسي بين الإطار الأهلي وبين الفضاء القومي والّإقليمي الهلامي، وحلف “نقابيي” إسلام شرعي وعرفي وقومي مع عوام مهجّرين ومهاجرين ونازحين. واللحمة بين الجهتين المتشابكتين تتولاها “بنية جانبية جرّارة من الإداريين والعسكريين والتقنيين من كل “الاختصاصات”؛ وكتلة اجتماعية، قليلة نسبياً ومتنافرة أو مشرذمة، من الطبقات الوسطى المتصلة بعضها بالمبادلات العالمية ودوائرها ومنازعاتها، والمتعيش بعض آخر منها في الداخل على ركاكة أبنية التجهيز والتوزيع والربط وفوتها؛ وبعض ثالث على عوائد ملكية متآكلة، من غير روابط سياسية أو ثقافية متجددة وحيّة بين الأبعاض الثلاثة. وحال جموح منازعات هذه الكتل إلى الاستيلاء الأهلي الكامل، وضعف تجانسها الداخلي، إلى رجحان دور الريوع في بلورة مراتبها وعلاقاتها حالت هذه مجتمعةً دون المضي على جلاء بابي عمومية الحقوق المدنية والسياسية وإرساء السلطة على أصل التقسيم والتقييد. والبابان هما ركنا الدستور أو الدستورية.

مصادفة؟

ولا يريد الكاتب، وهو آل في نهاية مطاف مقالته إلى مسألة الدستورية، أن يصطنع العجب والسرور لغرابة “المصادفة” التي قادته إلى هذه المسألة، ووصلت خاتمة مقالته بمطلعها. فتحقق له وعنده، للقارئ الذي ربما رافقه، ان مراحل احتجاجه وبرهانه قادته، من تلقاء منطقها، إلى بؤرة الوقائع والحوادث الحارة ومُنعقد معانيها ودلالالتها. والحق أن المصادفة المزعومة لا يد لها في بلوغ مسألة الدستورية الراهنة. فالمسألة هذه هي التي أخذت بيد الكاتب وذهنه، ودعته إلى تعقب بعض علامات الطريق المفضية إليها منذ ابتدائها، ابتداء الطريق على وجه التقريب. فهذه الطريق رجعت من المطارحات المصرية على الدستور “الإخواني”، على ما يصفه بعضهم، وافتقار مواده الأساسية إلى صيغة العمومية التعاقدية والإجرائية، وخلوه من النص على قواعد العقد والأعيان التي يتناولها، وتمييزه مرتبة جماعات وهيئات من أخرى – وإخراج الإخوانيين أنفسهم من عموم المصريين ونصبهم جماعتهم أولياء على الدولة والمجتمع المصريين- رجعت الطريق من هذا إلى الأصول التنظيمية في أوائل الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، والى الأصول الدعوية والشرعية والإسلامية في أواخر القرن الذي سبقه. وهي رجعت إلى الأصول المزدوجة هذه من خلاف الحركات السياسية التونسية على مسودة الدستور وافتقاره إلى النص على مرجعية حقوق الإنسان وكونيتها، وعلى إلحاح حركة النهضة الإخوانية في ألا تتقدم مرجعية الحقوق سلطة التشريعات التونسية، وسندها الإسلامي ضمناً. وحين عقد رئيس الوزراء التركي محمد رجب أردوغان، ركن حزب العدالة والتنمية الإخواني المنشأ، الاتفاق مع أوجلان على الإقرار بالجماعة الكردية والمواطنين الكرد جزءاً من الدولة التركية، ترتب على الإتفاق إجراء تعديلات دستورية تتناول تعريف مواطنة الدولة، والرجوع عن إذابة النص الأتاتوركي الأعراق كلها في العرق أو القوم التركي. ووصف المراقبون الأمر بـ”تغيير ضخم يطاول هوية الجمهورية التركية”. ولا ريب في ان النص “الدستوري” الايراني على المذهب التشريعي، وعلى إسلامه ودمج الإسلام في المذهب، علامة قاطعة، على ما يبدو للكاتب، على دلالة المسألة الدستورية، ومسألة الدستورية، القاطعة، ومكانتها الحاسمة.

وضاح شرارة

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى